لاحظنا ان أتباع الطريقة ينفردون بظاهرة مميزة لهم في السلام على بعضهم البعض ، وهي ظاهرة تقبيل الأيادي ، فما ان يتصافح اثنان حتى يقبل احدهما يد الآخر ، ولهم في السلام على شيخ الطريقة في الأعياد والمناسبات والمواسم أسلوب خاص وهو اصطفافهم لتقبيل يد شيخ الطريقة وبعضهم يقبل قدمه بينما يقبل البعض الآخر الأرض بين يديه . فلماذا يفعلون ذلك ؟ و هل لهذا التقبيل بتفرعاته من أدلة شرعية تثبته ؟ .
الجواب
ان ما يفعله مريدوا الطريقة من تقبيل أيدي بعضهم البعض عند المصافحة يستند إلى أدلة شرعية ودلالاته أخلاقية وروحية ، فبالإضافة إلى كون المصافحة بشكل عام هي من الآداب الإسلامية التي امرت بها الشريعة السمحة لقوله : ما من مسلمين يلتقيان فيتصافحان إلا غفر لهما قبل أن يتفرقا(1)، فإن مسألة تقبيل الأيادي خلالها له مؤشراته الصوفية الخاصة والتي أُثر عن بعض الصحابة الكرام قيامهم بها ، فقد روي عن عطاف بن خالد قال : حدثني عبد الرحمن بن رزين قال : مررنا بالربذة فقيل لنا : ههنا سلمة بن الأكوع فأتيته ، فسلمنا عليه ، فأخرج يديه فقال : بايعت بهاتين نبي الله . فأخرج كفا له ضخمة كأنها كف بعير ، فقمنا إليها فقبلناها .
وروي عن عبد الله بن محمد قال : حدثنا بن عيينة عن بن جدعان ، قال ثابت لأنس : أمسست النبي ﷺ بيدك ؟ قال : نعم . فقبلها (2).
ان اللمسه التي سأل عنها ثابت هي بالذات التي يسميها الشيخ محمد الكسنـزان ( اللمسة الروحية ) لأنها لمسة مبايعة وليست لمسه عادية ، اذ للمسة المبايعة خصوصية روحية اشار اليها القرآن الكريم في قوله تعالى : يد الله فوق أيديهم(3)، فهذه اليد الإلهية قطعا ليست يدا مادية ، تعالى الله عن الماديات علوا كبيرا ، انها كما يصفها الشيخ محمد الكسنـزان : يد الرحمة الإلهية ، وملامسة هذه اليد العلوية لا تكون الا روحيا وعن طريق لمس يد رسول الله ، اذ هو الواسطة بأمر الله تعالى في هذا الشأن لقوله تعالى : ان الذين يبايعونك انما يبايعون الله(4) ، فبلمس سلمة او انس او غيرهما ليد رسول الله ومبايعتهم له ، يكونون قد لامسوا يد الله تعالى روحيا يد الله فوق ايديهم (5) ، وهذه الملامسة الروحية بحسب ما يرى الشيخ محمد الكسنـزان تكسب العبد خاصية الربط الروحي مع الله تعالى عن طريق رسوله الكريم ، ومن جهة ثانية فان روحانية تلك اللمسة لا تزول مهما طال الزمن لأن الجانب الروحي لا علاقة له بالزمن المادي كما يرى الشيخ محمد ، وهذا ان دل على شيء فانما يدل على خلود اللمسة الروحية في يد المبايع ، وهو ما كان الصحابة والتابعين رضوان الله تعالى عليهم أجمعين يعرفونه جيدا ، ولهذا قال مالك الأشجعي لابن أبي أوفى : ناولني يدك التي بايعت بها رسول الله ؛ ، يقول : فناولنيها فقبلتها(6) ، ولهذا ايضا سعوا إلى تقبيل يد سلمة التي وصفت كأنها كف بعير ، ويد أنس لكونهما بايعتا ومستا كف رسول الله ، فالتقبيل لتلك اللمسة الروحية وليس لمظهر اليد المادي . فإن كان الصحابة يقبلون اليد التي مست كف رسول الله ، فماذا كانوا يفعلون مع رسول الله نفسه
« حدثنا محمد بن عيسى بن الطباع ثنا مطر بن عبد الرحمن الأعنق حدثتني أم أبان بنت الوازع بن زارع عن جدها زارع(7) وكان في وفد عبد آلاف(8) قال : ثم لما قدمنا المدينة فجعلنا نتبادر من رواحلنا فنقبل يد النبي ورجله »(9).
ومن حديث بريدة في قصة الأعرابي والشجرة ، فقال : يا رسول الله ائذن لي أن أقبل رأسك ورجليك فأذن له(10). والأحاديث الشريفة في هذا الباب عديدة جميعها تكشف عن مدى تعظيم الصحابة الكرام وتقديسهم لشخص رسول الله < وتبركهم به وبكل ما يرتبط به صلوات الله وسلامه عليه .
وبعد رسول الله :كان خليفته في اخذ البيعة الروحية هو مولانا علي بن ابي طالب لقوله في غدير خم : من كنت مولاه فهذا علي مولاه (11) وبهذه الخلافة أصبح حضرته مركز الولاية في الرسالة المحمدية بعد ختم النبوة بسيدنا محمد ، ولهذا جاز ان تقّبل أيديه وأقدامه كما كان يُفعل مع رسول الله ، فعن علي بن مزيد صاحب السابري قال : دخلت على أبي عبد الله u فتناولت يده فقبلتها ، فقال : أما إنها لا تصلح إلا لنبي أو وصي نبي (12) وهكذا ومع انتقال الخلافة الروحية من يد إلى يد عبر القرون والأجيال من عمر الرسالة المحمدية ، انتقلت تلك الخاصة الروحية ، عن يونس بن يعقوب قال : قلت لأبي عبد الله : ناولني يدك اقبلها ، فأعطانيها فقلت : جعلت فداك ، رأسك ، ففعل فقبلته(13) ولا زال المريدين يقبلون أيدي مشايخهم وأرجلهم لحملهم تلك الروحانية ، عن رفاعة ، عن أبي عبد الله قال : لا يقبل رأس أحد ولا يده إلا رسول الله أو من اريد به رسول الله (14) كما يقبل احدهم يد الآخر لنفس السبب ، عن يونس بن ظبيان ، عن أبي عبد الله u قال : إن لكم لنورا تعرفون به في الدنيا حتى أن أحدكم إذا لقي أخاه قبله في موضع النور من جبهته (15).
وفيما يلي إشارة سريعة لأراء علماء المذاهب الإسلامية في جواز التقبيل :
* الحنفية : ذكر العلامة ابن عابدين في حاشيته : « لا بأس بتقبيل يد العالم والمتورع على سبيل التبرك »(16).
*المالكية : قال الإمام مالك : ان كانت قبلة يد الرجل على وجه القربة إلى الله لدينه او لعلمه او لشرفه فإن ذلك جائز (17).
*الشافعية : قال الإمام النووي : « تقبيل يد الرجل لزهده ، وصلاحه وعلمه ، او شرفه ، أو نحو ذلك من الأمور الدينية ، لا يكره بل يستحب »(18).
* الحنبلية : قال العلامة السفاريني الحنبلي : « ان كان على طريق التدين فلا بأس ، قَبَّلَ ابو عبيدة يد عمر بن الخطاب »(19).
* قال أبو حاتم: كان أبو مسهر عبد الاعلى الدمشقي الغسّاني المتوفّى 218هـ إذا خرج إلى المسجد اصطفَّ الناس يُسلّمون عليه ويُقبِّلون يده (20).
* وقال أبو سعد: كان أبو القاسم سعد بن علي شيخ الحرم الزنجاني المتوفّى 471 هـ إذا خرج إلى الحرم يخلو المطاف ويقبِّلون يده أكثر ممّا يقبّلون الحجر الاسود(21).
وقال ابن كثير في تأريخه كان النّاس يتبرّكون به ويُقبِّلون يده أكثر ممّا يقبِّلون الحجر الأسود(22).
* وكان أبو إسحاق إبراهيم بن علي الشيرازي المتوفّى 476هـ كلّما مرَّ على بلدة خرج أهلها يتلقّونه يتبرّكون به، ويتمسَّحون بركابه ، ولمّا وصل إلى ساوة خرج إليه أهلها وما مرَّ بسوق منها إلاّ نثروا عليه من لطيف ما عندهم(23).
* وكان الشريف أبو جعفر الحنبلي ايدخل عليه فقهاء وغيرهم ويقبِّلون يده ورأسه(24).
* وكان الحافظ أبو محمّد عبد الغني المقدسي الحنبلي المتوفّى 600هـ إذا خرج في مصر يوم الجمعة إلى الجامع لا يقدر يمشي من كثرة الخلق، يتبرَّكون به ويجتمعون حوله(25).
* وكان أبو بكر عبد الكريم بن عبد الله الحنبلي المتوفّى 635هـ منقطعاً عن النّاس في قريته، يقصده الناس لزيارته والتبرُّك به(26).
*وكان الحافظ أبو عبد الله محمّد بن أبي الحسين اليونيني الحنبلي المتوفّى 658هـ من الحرمة والتقدُّم ما لم ينله أحدٌ، وكانت الملوك تقبِّل يده وتقدّم مداسه(27).
——————————————————————————–
الهوامش:
[1] – سنن ابن ماجه – محمد بن يزيد القزويني – تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي – دار الفكر بيروت – ج2 ص 1220 .
[2] – الأدب المفرد – البخاري – تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي – دار البشائر الإسلامية – بيروت – ط3 – 1989 – ج1 ص 338 .
[3] – الفتح : 10 .
[4] – الفتح : 10 .
[5] – الفتح : 10 .
[6] – تحفة الاحواذي – محمد بن عبد الرحمن المباركفوري – دار الكتب العلمية – بيروت – ج7 ص 437 .
[7] – الجرح والتعديل – عبد الرحمن بن ابي حاتم التميمي – دار احياء التراث العربي – بيروت – ط1 – 1952 – ج3 ص 618. جاء فيه (باب ذكر من روى عنه العلم ممن يسمى زارع : زارع بن عامر العبدي من عبد آلاف له البغوي بصرى أبو الوازع روت عنه امرأة من صباح عبد آلاف يقال لها أم أبان بنت الوازع بن الزارع عن جدها زارع سمعت أبى يقول ذلك )
[8] – ( عبد آلاف هي قبيلة كبيرة يسكنون البحرين ينسبون إلى عبد آلاف بن أقصى ) فتح الباري – احمد بن علي العسقلاني – تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي ، محب الدين الخطيب – دار المعرفة – بيروت – 1379 – ج8 ص58 .
[9] – سنن ابي داود – باب تقبيل اليد – تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد – دار الفكر – ج4 ص 357
[10] – فتح الباري – احمد بن علي العسقلاني – تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي ، محب الدين الخطيب – دار المعرفة – بيروت – 1379 – ج8 ص 57 .
[11] – صحيح ابن حبان – مؤسسة الرسالة – بيروت – ط2 – 1993 – ج15 ص 376 .
[12] – الكافي – الكليني – ج3 ص 148 .
[13] – الكافي – الكليني – ج4 ص 148 .
[14] – الكافي – الكليني – ج2 ص 148 .
[15] – الكافي – الكليني – ج1 ص 148 .
[16] – حاشية ابن عابدين – مطبعة بولاق – مصر – 1323 هـ – ج5 ص 254 .
[17] – أنظر : فتح الباري لشرح صحيح البخاري – ابن حجر العسقلاني – المطبعة البهية – مصر – 1323 هـ – ج11 ص 48.
[18] – فتح الباري لشرح صحيح البخاري – ابن حجر العسقلاني – المطبعة البهية – مصر – 1323 هـ – ج11 ص 48 .
[19] – غذاء الألباب شرح منظومة الآداب – محمد السفاريني الحنبلي – مطبعة النجاح – مصر – 1324 هـ – ج1 ص 287 .
[20] – تاريخ الخطيب البغدادي – ج11 ص 73 .
[21] – تذكرة الحفّاظ للذهبي – ج3ص 346، صفة الصفوة – لابن الجوزي – تحقيق د . عبد الحميد هنداوي – المكتبة العصرية – سنة 1423 هـ – 2003 م – ج2ص 151.
[22] – البداية والنهاية – ابن كثير – ج12 ص 120 .
[23] – البداية والنهاية – ابن كثير – ج12ص 123، شذرات الذهب – ج3-ص 350.
[24] – البداية والنهاية – ج12ص 119.
[25] – شذرات الذهب في اخبار من ذهب – ابن العماد الحنبلي الدمشقي – تحقيق عبد القادر الأرناؤوط ، محمود الأرناؤوط – دار ابن كثير – بيروت – ط1 – 1993 – ج4 ص 346 .
[26] – شذرات الذهب – ابن العماد الحنبلي الدمشقي – ج5ص 171
[27] – شذرات الذهب – ج5ص 294.