ان من يسألكم تنسبونه الى آيات قرآنية تفسرونها على انها من العلم الباطن الذي تعتمدون عليه في تبرير كل ما نراه غريب عن الحديث وسنة الرسول محمد ﷺ ؟
الجواب :
في التاريخ الإسلامي ظهرت فرقا سميت ( الباطنية ) منها : الخرمية والقرامطة والبابكية ، وكان اول ظهور لهم في سنة اثنتين وتسعين للهجرة كما يرى الإمام السيوطي ، ولقبت هذه الفرق بالباطنية لإنكارهم لظواهر القرآن وأخبار النبي ﷺ واقتصارهم على معان سموها باطنية وقالوا انها هي المقصود الوحيد لله ورسوله ﷺ من وراء تلك النصوص ومثال ذلك إنكارهم للصلوات الخمس وقولهم ان المقصود بها هو الأصول الأربعة والإمام، وعليه فلا حاجة عندهم لأداء هذه الصلوات المعهودة عند المسلمين ، وزعموا إن الصيام ليس معناه الإمساك عن المفطرات في وقت مخصوص ، وإنما الصيام الإمساك عن كشف السر . وزعموا ان طوفان نوح هو طوفان العلم الذي أغرق المتمسكين بظواهر الكتاب والسنة ، وأن نار إبراهيم عليه السلام التي ألقي فيها هي عبارة عن غضب النمرود، وليست نارا حقيقة ، إلى آخر هذياناتهم المعهودة ، ولقد تصدى مشايخ الصوفية لصد هذا الفكر الضال الهدام باقوالهم وافعالهم ، فهذا الامام الغزالي يرد عليهم في كتابه المشهور ( المنقذ من الضلال ) ويؤلف كتاب ( فضائح الباطنية ) يفصل فيه معتقداتهم ويبين كفرها وضلال معتقديها ، وهذا شيخ القادرية الغوث عبد القادر الكيلاني ( قدس الله سره ) يصنف الباطنية ضمن الفرق الضالة التي ينهى مريديه عنها وعن اقوالها ومعتقداتها وغيرهم .
ان الصوفية يقرون أول ما يقرون بظاهر النص ويعملون به ، ولهم بعد ذلك مذاقات وفهوم وإشارات لا تتعارض مع ظواهر النصوص ، فإذا دار المفسرون في حدود اللفظ القرآني ، واستنبط منه الفقهاء ما استنبطوا من أحكام فللصوفية بعد اخذهم بذلك من الفهوم والحقائق ما لا ينكشف لسواهم ولا يدركه غيرهم ، وقد اثبت هذا الامر علماء العقائد الإسلامية كسعد الدين التفتازاني الذي قال في شرحه للعقيدة النسفية : « واما ما يذهب اليه بعض المحققين من ان النصوص على ظواهرها ومع ذلك فهي إشارات خفية إلى حقائق تنكشف لأرباب السلوك يمكن التطبيق بينها وبين الظواهر المراده فهو من كمال الإيمان ومحض العرفان »(1).
فعلى سبيل المثال ان المفهوم العام من قوله تعالى : وأسأل القرية(2) ان السؤال لأهلها بتقدير مضاف بمعنى ( أسئل أهل القرية ) ، واما الصوفية فيرون ان هذا الفهم صحيح ولكنه غير مكتمل فأهل القرية جزء من القرية والخطاب موجه للقرية كلها بما فيها من إنسان وحيوان ونبات وجماد ، وذلك لأنهم يشهدون تسبيح الكل وحياة الكل ، وقد سبق ان نزلت ايات قرآنية تخاطب غير الإنسان كما في قوله تعالى : يا جبال أوبي معه والطير(3) وقوله : ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ(4) . أي ان الصوفية يأخذون بالمعنى الظاهر ويضيفون إليه ما يفهمونه من معان لا تتعارض وذلك الظاهر .
وقول الصوفية في ضرورة الأخذ بالظاهر والباطن معا يستند إلى العديد من النصوص الحديثية الشريفة منها الحديث الذي رواه عبد الله بن مسعود عن رسول الله :
أنزل القرآن على سبعة أحرف لكل آية منها ظهر وبطن(5)وفي رواية :أنزل القرآن على سبعة أحرف لكل آية منها ظهر وبطن وحد ومطلع(6).
ولهذا قال السيد الشيخ أحمد الرفاعي قدس الله سره : « هذا الدين الجامع باطنه لب ظاهره ، وظاهره ظرف باطنه ، لولا الظاهر لما بطن ، لولا الظاهر لما كان الباطن ولما صح . القلب لا يقوم بلا جسد ، بل لولا الجسد لفسد ، والقلب نور الجسد. هذا العلم الذي سماه بعضهم بعلم الباطن، هو إِصلاح القلب، فالأول عمل بالأركان وتصديق بالجَنان. إِذا انفرد قلبك بحسن نيته وطهارة طويته، وقتلْتَ وسرقْتَ وزنيتَ، وأكلتَ الربا، وشربتَ الخمر، وكذبت وتكبرت وأغلظت القول، فما الفائدة من نيتك وطهارة قلبك؟ وإِذا عبدت الله وتعففت، وصمت وتصدقت وتواضعت، وأبطن قلبُكَ الرياء والفساد، فما الفائدة من عملك »(7).
وبعد ان بينا بطلان الباطنية الذين ينكرون الظواهر ، وقول الصوفية بالوجهين معا
( الظاهر والباطن ) اللذان امرنا بهما رسول الله ﷺ ، نتوجه إلى الأخ السائل الكريم في ان يبين لنا الأمور الغريبة التي أشار إليها في سؤاله وماذا يقصد بها ؟
——————————————————————————–
الهوامش:
[1] – لطائف الاشارات – الامام القشيري – ج1 ص 6 .
[2] يوسف : 82 .
[3] فصلت :11 .
[4] – فصلت : 11 .
[5] – صحيح ابن حبان ج: 1 ص: 276
[6] – التمهيد لابن عبد البر ج: 8 ص: 282
[7] – البرهان المؤيد- للسيد أحمد الرفاعي – ص68