السائل : جواد نبي الله
البلد : إيران
السؤال :
قال الله تعالى في القرآن الكريم (فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ ) وغيرها من الآيات وهي تعني ان قراءة القرآن واجبة على كل مسلم . فلماذا لا يأمر شيخكم بقرائه القرآن ؟ ولماذا هذا الامر غير موجود في ورقة اورادكم ؟
الجواب :
قراءة القرآن الكريم وتلاوته عبادة من أعظم العبادات وأجلّها عند المولى عزّ وجلّ لذلك رتّب عليها سبحانه وتعالى الأجر العظيم والرضوان العميم ، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ ( من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة ، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول الـم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف ) (1).
وعن أبِي أمَامَة رضي اللهُ عنه قال : سَمِعتُ رَسول الله ﷺ يقول 🙁 اقرؤوا القرآن فَإنهُ يَأتيِ يَومَ القِيامةِ شَفيعاً لأصْحَابه )(2).
وعنِ ابنِ عباس ٍرضيَ الله عنهما قال : قال رسول ُاللهﷺ : ( إنَّ الَّذي ليسَ في جَوفهِ شَيء من َالقرآن ِ كالبَيْتِ الخَرِبِ ) (3).
وبالرغم من ان عظمة القرآن الكريم التي وصفها تعالى بقوله عز اسمه : ( لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) (4) الا انه تعالى سبحانه وتعالى خفف ثقلها ويسرها للمسلمين لينالوا بها عظيم البركة والرحمة ، قال تعالى : ( وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ ) (5)، واتم نعمته علينا بأن جعل باب القراءة مفتوح وميسر على قدر الاستطاعة ، قال تعالى : ( إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ )(6).
وحتى لا يحرم المريض أو الأمي من هذا الخير بسبب العجز عن القراءة فقد رغّب الشارع في بذل المجهود ورتّب عليه أجرا مضاعفا ، فقد روي عن أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها انها قالت: قال رسول الله ﷺ : ( الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن يتعتع فيه، وهو عليه شاقّ له أجران ) (7).
لهذا سارع صالحوا الأمة إلى التمسك بقراءة القرآن الكريم والحث عليه حتى ان ابن الجوزي نقل عن ابي بزيد البسطامي قوله : ( من ترك قراءة القرآن والتقشف ، ولزوم الجماعات ، وحضور الجنائز وعيادة المرضى ، وأدى بهذا الشأن ـ يعني طريق السالكين إلى الله ـ فهو مدع) ومعنى ذلك أنه مدع بلا دليل ، بل إن سلوكه يدل على نقيض ما يدعي .
ونقل عن الشيخ عبد القادر الكيلاني قدس الله سره انه كان يقول لمريديه 🙁 يستحب ان لا ينام حتى يقرأ ثلاثمائة آية ليدخل في زمرة العابدين ولم يكتب من الغافلين فليقرأ سورة الفرقان والشعراء فان فيهما ثلاثمائة آية وان لم يحسنهما قرأ سورة الواقعة ونون والحاقة وسورة الواقع : أي سئل سائل ، والمدثر ، فان لم يحسنهن فليقرأ سورة الطارق الى خاتمة القرآن فإنها ثلاثمائة آية ، فان قرأ ألف آية كان أحسن وأكمل للفضل وكتب له قنطار من الأجر وكتب من القانتين وذلك من سورة تبارك الذي بيده الملك الى خاتمة القرآن ، فان لم يحسنها فليقرأ مائتين وخمسين مرة قل هو الله أحد فان مجموعها ألف آية ، وينبغي له ان لا يدع قراءة أربع سور في كل ليلة – الم تنـزيل السجدة ، وسورة يس ، وحم الدخان ، وتبارك وان قرأ معها سورة المزمل والواقعة كان أحسن ) . (8).
وقد أكد الصوفية على قراءة القرآن الكريم ورأوا انه ينبغي ان تكون دائمة الحضور في حياة المريد حتى ان الشيخ أبو سليمان الداراني كان يقول : ( إنه ليقع في قلبي النكتة(9) من نكت القوم فلا أقبلها إلا بشاهدين: الكتاب والسنة ) .
وكان سيد الطائفة الشيخ الجنيد البغدادي قدس الله سره كثيرا ما يقول : ( علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة، فمن لم يقرأ القرآن ويكتب الحديث لا يصلح له أن يتكلم عن علمنا أو قال لا يقتدي به ) بل ان أبي عمرو بن نجيد ذهب الى القول : ( كل وجد لا يشهد له الكتاب والسنة فهو باطل ) .
حكي عن بعض المريدين قال: كنت قد وجدت حلاوة المناجاة في سن الإرادة فأدمنت قراءة القرآن ليلاً ونهاراً ثم لحقتني فترة فانقطعت عن التلاوة قال: سمعت قائلاً يقول في المنام: إن كنت تزعم أنك تحبني فلم جفوت كتابي أما تدبرت ما فيه من لطيف عتابي، قال: فانتبهت وقد أشرب في قلبي محبة القرآن فعاودت إلى حالي (10).
وقال سهل رحمة الله تعالى عليه: علامة حب الله حب القرآن، وعلامة حب الله وحب القرآن حب النبي ﷺ (11).
وكان إبراهيم الخواص يقول: دواء القلب خمسة أشياء : قراءة القرآن بالتدبر، وخلاء البطن، وقيام الليل، والتضرع عند السحر، ومجالسة الصالحين (12).
ان مسألة تعاهد الصوفية للقرآن الكريم تلاوة وحفظا وتدبرا لا تحتاج إلى كثير شواهد لكثرتها ووضوحها وابرز معالمها تفاسير الصوفية الكثيرة كتفسير تفسير القشيري وابن عربي وتفسير الشيخ عبد القادر الكيلاني وغيرها .
ومن جهة ثانية فإن الصوفية تشددوا في مسألة القراءة من حيث ضرورة التعامل معها على وجه التلقي الحي والمخاطبة المباشرة وليس لمجرد الأجر فحسب وذلك اقتداءً بصحابة رسول الله ﷺ ، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: نزل على رسول الله ﷺ قول الله جل وعلا: ( لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ )(10) .
هذه الآية الكريمة التي يقرؤها الكثير من المسلمين ، قد لا تستوقفهم لأنهم لا يقرأون القرآن على وجه التلقي لما فيه من المعاني بل طلباً للأجر بقراءة لفظه فحسب ، اما صحابة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لما أنزل الله جل وعلا على رسول الله ﷺ هذه الآية التي فيها أنه جل وعلا يحاسب الناس على ما دار في صدورهم وما جال في نفوسهم ولو لم يتكلموا به و لو لم يعملوا به ، اشتد عليهم الأمر فأتوا إلى رسول الله ﷺ كما في الصحيحين ثم بركوا على الركب أي جلسوا على الركب من شدة ما جاءهم في هذه الآية فقالوا: يا رسول الله كلفنا من العمل ما نطيق: الصلاة، الصيام، الجهاد، الصدقة .. وقد نزلت علينا آية لا نطيقها فقال رسول الله ﷺ مؤدباً هؤلاء معلماً لهم كيف يتلقون كلام رب العالمين، قال لهم ﷺ : ( أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم سمعنا وعصينا؟ قولوا: سمعنا وأطعنا ) (13).
فما كان منهم رضي الله عنهم إلا أن انقادوا إلى توجيه النبي ﷺ وقالوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير، فلما قرءها القوم وذلت بها ألسنتهم وتكلموا بها وقرؤوها وقبلوها قبولاً تاماً جاء التخفيف من رب العالمين جاء الفرج من الله جل وعلا الذي قال : ( مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ )(14). أي ما يفعل الله بإلحاق المشقة بكم ، إن شكرتم وآمنتم جاء الفرج من الله جل وعلا لهذه الأمة ونزل في كتاب الله جل وعلا تزكيتها وبيان فضل صحابة رسول الله ﷺ فقال الله جل وعلا: ( آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ * لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا ) (15)فجاء التخفيف من رب العالمين بعد إثبات إيمانهم وقبولهم لما جاء عن الله وعن رسوله.
ان هذا الحديث يوضح النهج الذي يبتغيه الصوفية في تعاملهم مع القرآن الكريم ، انهم يريدون من المريد ان يقتدي بالصحابة رضي الله عنهم الذين لم يكونوا يتقبلون القرآن ويتلقونه على أنه شيء يتلى وتستنبط منه الأحكام ويعرف ما فيه من المعاني فقط بل قرؤوه رضي الله عنهم على أنهم هم المخاطبون هم المعنيون بما فيه من المعاني ولذلك شق عليهم فراجعوا رسول الله ﷺ في الذي شق عليهم من هذا القرآن .
من هنا اعتنت المدارس الصوفية بمسألة التصفية والتطهير ، فوضع مشايخها واساتذتها المناهج التربوية والروحية التي تساعد المريد على السمو بحالته الروحية إلى حالة يكون فيها الشخص مشابها لحال الصحابة الكرام في تعاملهم مع آي القرآن – قدر المستطاع – وقد تمثلت تلك المناهج بطرائق متعددة في الأذكار والأوراد ونوافل العبادات التي تجلي القلب وتجعله مطمئنا بذكر الله تعالى : ( الا بذكر الله تطمئن القلوب ) (16).
هذه المناهج التربوية ليست بجديدة على العالم الإسلامي ، إذ بحسب ما ذكر الإمام الغزالي في كتابه إحياء علوم الدين ان الصحابة رضوان الله تعالى عليهم كان لهم أساليب مشابهة ، فمنهم من كان ورده في اليوم اثنا عشر ألف تسبيحه . وكان فيهم من ورده ثلاثون ألفاً . وكان فيهم من ورده ثلاثمائة ركعة إلى ستمائة وإلى ألف ركعة . وأقل ما نقل في أورادهم من الصلاة مائة ركعة في اليوم والليلة ، وكان كرز بن وبرة مقيماً بمكة فكان يطوف في كل يوم سبعين أسبوعاً وفي كل ليلة سبعين أسبوعاً وكان مع ذلك يختم القرآن في اليوم والليلة مرتين. فحسب ذلك فكان عشرة فراسخ ويكون مع كل أسبوع ركعتان فهو مائتان وثمانون ركعة وختمتان وعشرة فراسخ . وفي الوقت نفسه كان ورد بعضهم قراءة القرآن الكريم فكان الواحد منهم يختم في اليوم مرة وروى مرتين عن بعضهم ، وكان بعضهم يقضي اليوم أو الليل في التفكر في آية واحدة يرددها.
فإن قلت: فما الأولى أن يصرف إليه أكثر الأوقات من هذه الأوراد فاعلم أن قراءة القرآن في الصلاة قائماً مع التدبر يجمع الجميع ولكن ربما تعسر المواظبة عليه فالأفضل يختلف باختلاف حال الشخص ومقصود الأوراد تزكية القلب وتطهيره وتحليته بذكر الله تعالى وإيناسه به فلينظر المريد إلى قلبه فما يراه أشد تأثيراً فيه فليواظب عليه(17)، وفي كل الاحوال قراءة القرآن الكريم بشروطها نور لجميع المسلمين سواء اكانوا سالكين لطريقة صوفية أم لم يكونوا كذلك ، وعدم اشتمال منهج أي طريقة صوفية ومنها الكسنـزانية على ورد او وقت مخصص لقراءة القرآن لا يعني إطلاقا انها لا تأمر بقراءة القرآن الكريم او تمنع منه ، وانما الأمر ان فضائل العبادات وسبل القربات كثيرة ، وكل شيخ يختار منها حسب اجتهاده وما يلهمه الله تعالى ، وقد اختار مشايخ الطريقة الكسنزانية اورادا واذكارا مستنبطة من القرآن الكريم والسنة المطهرة ، وباب التنافس في الزيادات مفتوح للجميع .
الهوامش:
[1] – الترمذي وقال: حسن صحيح غريب
[2] – رواه مسلم
[3] – رواه الترمذي
[4] – الحشر : 21 .
[5] – القمر : 17 .
[6] – المزمل : 20 .
[7] – البخاري ومسلم واللفظ له، وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه
[8] – الشيخ عبد القادر الكيلاني – الغنية لطالبي الحق – ج 2 ص 449
[9] – النُّكْتَةُ : هي اللَّطِيفةُ المُؤَثِّرةُ في القَلْب من النَّكْتِ كالنُّقْطَةِ من النَّقْطِ وتُطْلَقُ عَلَى المَسَائل الحَاصلَة بالنَّقْل المَؤَثِّرة في القَلْبِ التي يُقَارِبُهَا نَكْتُ الأَرْضِ غَالِباً بنحو الإِصْبَع – تاج العروس – ج1 ص 1194 .
[10] – احياء علوم الدين – ج3 ص 426
[11] – احياء علوم الدين – ج3 ص 426
[12] – حلية الاولياء – ج4 ص 412
[13] – أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة في كتاب الإيمان برقم 179.
[14] – النساء : 147 .
[15] – البقرة : 285 .
[16] – الرعد : 28 .
[17] – احياء علوم الدين – الامام الغزالي – ج1 ص 348