السائل : عبد الكريم علي
البلد : العراق
السؤال :
ما المقصود بالدعاء مخ العبادة وهل هو حديث نبوي ؟
الجواب :
كتب علماء الدين وغيرهم من الباحثين والدارسين العديد من المؤلفات عن موضوع الدعاء من حيث شروطه وآدابه وأقسامه ، وأصناف الأدعية بحسب الأماكن أو الأزمان وما إلى ذلك مما يتعلق به وكان مما ترد الإشارة إليه في مصنفاتهم هو حديث حضرة الرسول الأعظم ﷺ :[ الدعاء مخ العبادة ] فلم يدقق أحد منهم أو يحقق – على حد علمنا – في المراد الحقيقي بهذا الحديث العظيم ، فكان ان أردنا أن نلفت الأنظار هنا إلى أحد جوانب العظمة في الحديث المبارك .
الدعاء في اللغة
الدعاء : هو ما يتوسل به إلى الله تعالى من القول (1) .
الدعاء في الاصطلاح الفقهي
دعوت الله : ابتهلت إليه بالسؤال ورغبت فيما عنده من الخير(2)
وهو الكلام الدال على الطلب مع الخضوع ، ويسمى أيضاً سؤالاً (3) .
وجاء أن : « حقيقة الدعاء استدعاء العبد من ربه العناية واستمداده إياه المعونة ، وحقيقته إظهار الافتقار إليه ، والبراءة من الحول والقوة التي له ، وهو سِمَة العبودية وإظهار الذلة البشرية ، وفيه معنى الثناء على الله ، وإضافة الجود والكرم إليه »(4 ) .
الدعاء بمعنى المخ للعبادة .. ما هو ؟
ان المتحصل من كل ما قاله الجمهور عن قوله : ( الدعاء مخ العبادة ) ان الغالب على الخلق ان لا تنصرف قلوبهم إلى ذكر الله وجل الا عند إلمام حاجة او إرهاق ملمة ، فوقتها يكون ذو دعاء عريض . فالحاجة تحوج إلى الدعاء ، والدعاء عندهم يرد القلب إلى الله تعالى وجل بالتضرع والاستكانة ، فيحصل به الذكر الذي هو اشرف العبادات ومنتهاها.
والحق ان هذا الكلام صحيح إلا انه لا يقال على الدعاء الذي وصفه حضرة الرسول ﷺ بأنه ( مخ العبادة ) إنما يوصف به الدعاء بشكله العام والذي هو كنوع من أنواع الأذكار والتوسل الى الله تعالى ، اما الدعاء الذي يراد به ( مخ العبادة ) فهو شيء آخر تماماً ، انه حقيقة روحية إيمانية لا يصلها في الزمان الواحد الا قليل .
فما هو الدعاء الذي يسمى بمخ العبادة ؟ ولماذا سمي بمخ العبادة؟ وللجواب عن ذلك نقول : من الوسائل التي أتخذها المأذونون بالدعوة إلى الله تعالى – سواء أكانوا أنبياء أم أولياء – في دعوتهم لإثبات وجود ذات الله عز وجل هي وسيلة ( الدعاء المستجاب ) والمشار إليها في القرآن الكريم (بالحكمة) وذلك في قوله تعالى : ( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة) (5) التي منحهم إياه المولى فكانوا يدعون الخلق إلى الحق بإظهار خوارق العادات – من المعجزات على أيدي الأنبياء والكرامات على أيدي الأولياء – وكان الناس ولا زالوا يؤمنون بوجود ذات الله تعالى حين يرون استجابة الله تعالى لهم فيصدقون بوجوده ثم يتبعون رسله .
فمن ثمار دعاء الأنبياء المستجاب – بالتالي الأولياء – ان يهتدي الناس إلى وجود ذات الله عز وجل ، وبعد الاهتداء يأتي الاقتداء فيبدأ الناس بالطاعة والعبادة على وفق ما تنص عليه الشريعة فأن أدى أحدهم العبادة كاملة بشروطها الظاهرة والباطنة واتقى الله حق تقاته فإنه يصل بالنتيجة إلى المرتبة التي يصبح فيها هو مستجاب الدعاء ، وهذه الاستجابة تمثل ثمرة عبادته ولبها وهو ما عبّر عنه حضرة الرسول الأعظم بعبارة ( مخ العبادة ) .
إذاً فمخ العبادة يعني الوصول إلى ثمرة العبادة ولبها والغاية منها ، وليس الا مرتبة الدعاء المستجاب ، أي ان يصبح دعاء العابد مستجاباً ملموساً في التو واللحظة .
ولكن ما الغاية من وصول المؤمن إلى مرتبة الدعاء المستجاب ؟
ان الغاية من ذلك هي ان يتحقق المؤمن بنفسه هو من وجود ذات الله تعالى وانه تعالى حاضر وناظر ومحيط بكل شيء ،وذلك يكون حين يدعوا فيستجاب له مباشرةً ، فهذا ينقل العبد من مرتبة الإيمان التقليدي الذي يتبع فيه العبد غيره من غير حجة ولا برهان إلى مرتبة الإيمان التحقيقي الذي يستوثق منه بنفسه و يطمئن فيه قلبه (6) . هذا الانتقال من مرتبة إيمانية إلى مرتبة إيمانية أخرى هو المشار إليه في قوله تعالى على لسان الخليل إبراهيم : ( قال ربي ارني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي ) (7) فكما هو معروف ان نبياً مثل إبراهيم عليه السلام لا شك انه يؤمن بقدرة الله تعالى على إحياء الموتى ولكنه أراد رؤية الكيفية التي يتم بها ذلك ليصل في النتيجة إلى الغاية من العبادة وهو مرتبة الإيمان التحقيقي أو ما يسمى بمرتبة الاطمئنان في الإيمان . وهكذا هو الأمر مع عباد الله فإن عليهم الطاعة التامة والاتباع الكامل لما انزل الشارع المقدس لكي يصلوا إلى مرتبة يستجاب فيها دعائهم كما حصل مع الأنبياء عليهم السلام وكما حصل ويحصل مع الأولياء ( قدس الله أسرارهم ) فهذا الاستجابة تنقلهم إلى التحقق بوجوده سبحانه وتعالى وبقدرته المطلقة فيلبسهم ذلك التحقق ثوب الكمال في معرفة الله تعالى ومحبته ، فيقوم أحدهم بين الناس إنساناً كاملاً مختصاً بكل صفات الكمال التي أرادها الله تعالى لعباده حين خلقهم ، فهذا الوصول والحصول هو مخ العبادة وثمرتها ولبها . وهذا هو المراد بقوله : ( الدعاء مخ العبادة ) لا الدعاء المتعارف عليه والمشهور بين عوام الناس وعلمائهم . فمراد حضرة الرسول ﷺ من الدعاء في هذا الحديث الشريف هو الدعاء المستجاب لأن هذا الدعاء هو الذي يوصل الإنسان الى الحقائق ( الحقيقة المحمدية و الحقيقة الإلهية ) وهذا الوصول هو مخ العبادة أي جوهرها وغايتها .وكل دعاء لا يوصل الى هذه المرتبة الروحية العظيمة فليس بمخ للعباده . وبهذا يتضح ان اعظم ثمرة روحية للدعاء المستجاب (مخ العبادة) هي إيصال الناس الى الإيمان التحقيقي بوجود ذات الله تعالى ، وبالتالي الإيمان الكامل بكل ما نزل من السماء على الأنبياء وما ينزل على الأولياء الى يوم القيامة ، وبكل الأمور الروحية في ديننا الإسلامي العظيم .
مخ العبادة ( الدعاء المستجاب )
والإذن بالدعوة والإرشاد على مر الزمان ظهرت الكثير من الفرق في ديننا الإسلامي ، زعم أصحابها أنهم دعاة إلى الله تعالى ، وان غايتهم إصلاح العباد والبلاد والسير بهم على جادة الصواب . واستند الكثير منهم إلى نصوص من الكتاب والسنة ، أما حملاً لها على غير محملها أو تأويلاً لها بما يتناسب وأغراض أو دوافع كل فرقة . ورب قائل يقول : يحق للناس أن يحاروا في اختيار الفرقة الصحيحة وتمييزها عن الفرقة الضالة ، وهو ما حصل بالفعل مما أدى إلى تشتت الكثير من المسلمين في القرون الماضية ، بل وحتى في عصرنا الحاضر . ونقول : بل لا يحق للناس ان يحاروا في معرفة الدعاة الحقيقيين إلى الله تعالى ، وذلك لأن الحق سبحانه أوضح في محكم كتابه ان الدعوة إلى الله تعالى لا تكون الا بإذنه وبيّن ذلك في قوله تعالى على لسان سيدنا محمد ﷺ : ( وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً )(8) فصاحب الأذن الإلهي بالدعوة من الله هو وحده المختص بالإرشاد إليه .
وقد يقال : ان كل واحد من أولئك الدعاة يزعم انه هو الداع إلى الله بإذنه . ونقول : إننا نطالب من يزعم ذلك أن يأت بالبرهان إن كان من الصادقين . والبرهان هنا هو يوجد فيه شرطي الإذن الإلهي بالدعوة ، وهما الوارد ذكرهما في قوله تعالى :
( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة ) (9) فكما هو واضح من النص القرآني ان الداع ينبغي ان يكون مدعوماً بشرط امتلاك الحكمة ومن ثم الموعظة الحسنة .
فالحكمة وهي الأفعال الخارقة للعادة ( معجزة أو كرامة ) ومن ثم أحكام الدين هما دليل الإجازة بالإرشاد من قبل الله تعالى ، وعلى هذا فكل من يأتي بالشرط الثاني فقط دون الأول فليس من أصحاب الإذن الإلهي بالدعوة . ان علامة من يختاره الله تعالى من بين عبادة ليكون داعياً إليه بإذنه هو أن يكون مستجاب الدعوة من الله ، يقول تعالى : ( وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان )(10) فمن يدعو ولا يستجاب له فهو من المدعين لا من الداعين . وهذه الآية الكريمة تكشف جانباً آخر من جوانب مخ العبادة ( الدعاء ) فهي تشير في كلمة ( الداعي ) إلى أن لكل زمان إمام وخليفة نائب عن حضرة الرسول ﷺ في الدعوة الى الله بأذنه ( وداعياً الى الله بأذنه وسراجاً منيراً )(11) فهو العبد الكامل (المسمى بشيخ الطريقة) القريب من الله تعالى ، الذي عن طريقه تتحقق الدرجات والمراتب الروحية لعباد الله الذين توفرت فيهم صفات العبودية وهو المرجع الأعلى لقضاء الحاجات وجميع الخيرات ، فهو وحيد دهره وباب رحمة الله ورسوله ﷺ . فاستجابة دعائه أحد الوسائل للكشف عن صدقه في دعوته الى الله بأذنه أي هو المأذون بالدعوة والإرشاد إلى الله تعالى ، ومن أنواع استجابة الدعاء في طريقتنا الكسنـزانية لتوصيل الناس إلى معرفة الداعي إلى الله بأذنه ومن ثم إلى توصيلهم إلى الحقائق الروحية ، فعاليات الدروشة او ما تعرف بفعاليات ( الضرب ) فهي كرامات لمشايخ طريقتنا حيث تتعطل أثناءها القوانين الطبيعية بأذن الله تعالى . ان حقيقة الإمكانية الفورية لإصلاح تلف جسم المريد والتئام الجروح فيه او مقاومة جسمه للنار او الصدمات الكهربائية او سموم الأفاعي والعقارب هي إمكانية القوة الروحية لمشايخ الطريقة الكسنزانية ذات القدرة غير المحدودة في الدرك لمن يقوم بهذه الفعاليات والتي تؤدي بفاعلها من غير المريد بدون دعاء المشايخ الى الموت لا محالة .
إن هذه الفعاليات هي بحق مخ العبادة على كافة المستويات فهي تكشف عن صدق الداعي وصدق دعوته لكونها برهان حسي قطعي الثبوت وتوصل الناس الى مراتب الإيمان التي خلق الإنسان لأجل التحقق بها .
الهوامش:
[1] – المعجم العربي الأساسي – ص 452 ( بتصرف ) .
[2] – انظر : الموسوعة الفقهية – ج20ص256
[3] – انظر : الموسوعة الفقهية – ج20ص256
[4] – الخطابي – اتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين –ج5ص27
[5] – النحل : 125 .
[6] – الإيمان التقليدي : هو ان يعتقد الإنسان بوجود الله تعالى من باب تقليد الوالدين او أهل البلد او اعترافاً بقول علماء أمته من غير حجة ولا برهان ذاتي عنده أي لم يدخل نور الإيمان في قلبه ولم ينزرع فيه فينشرح به صدره . وهذا الإيمان لا يعتمد عليه لأنه قريب التزلزل بتشكيك مشكك او بمغالطة متزندق وهو معرض للشبهات والوساوس .
الإيمان التحقيقي : هو ان ينزرع في القلب نور الإيمان ويملأه فيشهد المؤمن بهذا النور الحقائق المحمدية و الإلهية التي تعجز الحواس الظاهرة عن إدراكها ، فيتحقق ويتيقن ويرى بنور الله ما أمر الشرع بالتصديق بوجوده من أمور الغيب على قدر إيمانه وتقواه . وهذا إيمان راسخ لا يجد صاحبه شكاً او تردداً او ريباً فيه ولو خالفه أهل الأرض جميعاً فيما انطوى عليه قلبه منه .
فالإيمان التقليدي هو ايمان بالوسائط والعلائق وهو ايمان العوام والإيمان التحقيقي هو ايمان المكاشفة والمشاهدة وهو ايمان خلاصة الخواص .
[7] – البقرة : 260 .
[8] – الأحزاب : 46 .
[9] – النحل : 125 .
[10] – البقرة : 186 .
[11] – الأحزاب : 46 .