السائل : سارة .
البلد : لندن .
السؤال :
ارجو ان توضحوا لي الحديث (من عرف نفسه فقد عرف ربه) .
الجواب :
في حديث من عرف نفسه فقد عرف ربه ، قال النووي في فتاويه : معناه من عرف نفسه بالضعف والافتقار الى الله والعبودية له ، عرف ربه بالقوة والربوبية والكمال المطلق والصفات العلى .
وقال الشيخ تاج الدين بن عطاء الله في لطائف المنن : سمعت شيخنا ابا العباس المرسي يقول : في هذا الحديث تأويلان :
احدهما : ان من عرف نفسه بذلها وعجزها وفقرها عرف الله بعزه وقدرته وغناه ، فتكون معرفة النفس أولا ثم معرفة الله من بعد .
والثاني : ان عرف نفسه فقد دلَّ منه على انه عرف الله من قبل ، فالأول حال السالكين ، والثاني حال المجذوبين .
وقال ابو طالب المكي في قوت القلوب : معناه اذا عرفت صفات نفسك في معاملة الخلق ، وانك تكره الاعتراض عليك في أفعالك وان يعاب عليك ما تصنعه عرفت منها صفات خالقك ، وانه يكره ذلك ، فارض بقضائه ، وعامله بما تحب ان تعامل به .
وقال الشيخ عز الدين : قد ظهر لي من سر هذا الحديث ما يجب كشفه ، ويستحسن وصفه ، وهو ان الله سبحانه وتعالى وضع هذا الروح الروحانية في هذه الجثة الجثمانية ، لطيفة لاهوتية موضوعة في كثيفة ناسوتية ، دالة على وحدانيته وربانيته .
ووجه الاستدلال بذلك من عشرة أوجه :
الأول : ان هذا الهيكل الإنساني لما كان مفتقراً الى مدبر ومحرك ، وهذه الروح مدبرة ومحركة علمنا ان هذا العالم لا بد له من مدبر ومحرك .
الوجه الثاني : لما كان مدبر الهيكل واحداً وهو الروح علمنا ان مدبر هذا العالم واحدا لا شريك له في تدبيره وتقديره ، ولا جائز ان يكون له شريك في ملكه ، قال تعالى 🙁 لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ) ، وقال تعالى : ( لو كان معه الهة كما يقولون اذا لابتغوا الى ذي العرش سبيلا سبحانه وتعالى عما يقولون علواً كبيراَ ) وقال تعالى : ( وما كان معه من اله ، اذاً لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض ، سبحان الله عما يصفون ) .
الوجه الثالث : لما كان هذا الجسد لا يتحرك الا بارادة الروح وتحريكها له علمنا انه مريد لما هو كائن في كونه لا يتحرك متحرك بخير أو شر إلا بتقديره وإرادته وقضائه .
الوجه الرابع : لما كان لا يتحرك في الجسد شيء الا بعلم الروح وشعورها به ، لا يخفى على الروح من حركات الجسد وسكناته شيء علمنا انه لا يعزب عنه مثقال ذرة في الارض ولا في السماء .
الوجه الخامس : لما كان هذا الجسد لم يكن فيه شيء اقرب الى الروح منه شيء ، بل هو قريب الى كل شيء في الجسد ، علمنا انه اقرب الى كل شيء ، ليس شيء اقرب اليه من شيء ، ولا شيء ابعد اليه من شيء ، لا بمعنى قرب المسافة ، لانه منـزه عن ذلك .
الوجه السادس : لما كان الروح موجودا قبل وجود الجسد ، ويكون موجودا بعد عدم الجسد ، علمنا انه سبحانه وتعالى موجود قبل كون خلقه ، ويكون موجوداَ بعد فقد خلقه ، ما زال ولا يزال ، وتقدَّس عن الزوال .
الوجه السابع : لما كان الروح في الجسد لا يعرف له , كيفية , علمنا انه مقدس عن الكيفية .
الوجه الثامن : لما كان الروح في الجسد لا يعلم له أينية علمنا انه منـزه عن الكيفية والأينية , لا يوصف بأين ولا كيف , بل الروح موجودة في كل الجسد , ما خلا منها شيء من الجسد , وكذلك الحق سبحانه وتعالى موجود في كل مكان , ما خلا منه مكان , وتنـزه عن المكان والزمان .
الوجه التاسع : لما كان الروح في الجسد لا يدرك بالبصر , ولا يمثل بالصور , علمنا انه لا تدركه الأبصار , ولا يمثل بالصور والآثار , ولا يشبه بالشموس والأقمار ( ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ) .
الوجه العاشر : لما كان الروح لا يحس ولا يمس , علمنا انه منزه عن الحس والجس واللمس والمس , فهذا معنى قوله 🙁 من عرف نفسه عرف ربه ) فطوبى لمن عرف , وبذنبه اعترف . وفي هذا الحديث تفسير آخر , وهو انك تعرف ان صفات نفسك على الضد من صفات ربك , فمن عرف نفسه بالفناء عرف ربه بالبقاء , ومن عرف نفسه بالجفاء والخطأ عرف ربه بالوفاء والعطاء , ومن عرف نفسه كما هي عرف ربه كما هو .
واعلم انه لا سبيل لك الى معرفة إياك كما إياك , فكيف لك سبيل الى معرفة إياه ؟ في قوله : ( من عرف نفسه عرب ربه ) . علق المستحيل على مستحيل , لانه مستحيل ان تعرف نفسك وكيفيتها وكميتها , فانك اذا كنت لا تطيق بأن تصف نفسك التي هي بين جنبيك بكيفية واينية ولا بسجية ولا هيكلية ولا هي بمرئية , فكيف يليق بعبوديتك ان تصف الربوبية بكيف واين وهو مقدس عن الكيف والاين
وقال القونوي في شرح التعرف : ذكر بعضهم في هذا الحديث انه من باب التعليق بما لا يكون , وذلك ان معرفة النفس قد سد الشارع بابها لقوله : ( قل الروح من امر ربي ) فنبه بذلك على ان الإنسان اذا عجز عن إدراك نفسه التي هي من جملة المخلوقات , وهي اقرب الأشياء إليه , فهو عن معرفة خالقه اعجز , بل هو عاجز عن إدراك حقيقة قوله وحواسه كسمعه وبصره وشمه وكلامه وغير ذلك فإن للناس في كل منها اختلافات ومذاهب لا يحصل الناظر منها على طائل , كاختلافهم في ان الإبصار بالانطباع او بخروج الشعاع , وان الشم بتكيف الهواء وبانبثاث الأجزاء ذي الرائحة , الى غير ذلك من الاختلافات المشهورة , فاذا كان الحال في هذه الأشياء الظاهرة التالي يلابسها الإنسان على هذا المنوال , فكيف يكون الحال في معرفة الكبير المتعال ؟(1) ويقول الشيخ عبد القادر الكيلاني في الغنية : ولا تتم المجتهدة الا بالمراقبة …وانما يصل الى هذه الرتبة بعد المحاسبة …ولا تتم ( المحاسبة ) الا بمعرفة خصال أربع :
اولها : معرفة الله تعالى
والثانية : معرفة عدو الله إبليس
والثالثة : معرفة نفسك الأمارة بالسوء
والرابعة : معرفة العمل لله تعالى …
فاما معرفة الله عز وجل فهو ان يلزم العبد قربه عز وجل وقيامه عليه وقدرته عليه وشهادته وعلمه به وانه رقيب حفيظ وانه واجد ماجد لا شريك له فيه ملكه وانه عندما وعد صادق ، وعندما ضمن واف ، وعندما دعا اليه وندب اليه مليء ، وله وعد ينجزه ووعيد صادق ينفذه ومقام تصير اليه الخلائق ، ومصدر يتصرف من عنده وله ثواب وعقاب ، ليس له شبيه ولا مثيل ، وانه كافي رحيم ودود سميع عليم وانه كل يوم هو في شأن ، لا يشغله شأن عن شأن ، يعلم الخفي وفوق الخفي ، والضمير والخطرات والوسوسة والهمة والإرادة والوساوس والحركة والطرفة والغمزة والهمزة وما فوق ذلك وما دون ذلك مما دق فلا يعرف وجل فلا يوصف مما كان وما يكون وانه عزيز حكيم … فاذا لزم هذا قلبه في اليقين الراسخ والعمل النافع ولزم ذلك كل عضو منه وكل جارحة وكل مفصل وعرق وعصب وشعر وبشر وكذلك يتيقن ان الله تعالى قائم على ذلك عالم به ، أحاط به علما لا تغزب عنه عازبة وانه خلقه فأحسن خلقه وصوره فتحسن صورته وثبت جميع ذلك في قلبه وصح به عزمه وأكمل عقله وثبتت حينئذ المحاسبة ووصلت اليه المعرفة وقامت عليه الحجة وكان في مقام من الله شريف .
وأما معرفة عدو الله إبليس فقد أمر الله تعالى بمحاربته وجاهدته في السر والعلانية ، في الطاعة والمعصية …
وأما معرفة النفس الأمارة بالسوء فيضعها حيث وضعها الله عز وجل ويصفها بما وصفها الله تعالى ، ويقوم عليها بما أمره الله عز وجل فإنها أعدى له من إبليس وإنما يقوى عليه إبليس بها وبقبولها منه فيعرف أي شي ، طباعها وما إرادتها ، وألام تدعو ، وبم تأمر ، وكيف خلقتها خلقة ضعيفة قوى طمعها شرهة مدعية خارجة عن طاعة الله سبحانه ملا ملكه ، متمنية خوفها امن ، ورجاؤها اماني ، وصدقها كذب ، ودعواها باطلة ، وكل شيء منها غرور ، وليس لها فعل محمود ولا دعوى حق ، فلا تغرّنه بما يظهر له منها ، ولا يرجو بما تأمل ، ان حل عنها قيودها شردت ، وان أطلق وثاقها جمحت ، وان أعطاها سؤلها هلكت ، وان غفل عن محاسبتها أدبرت وان عجز عن مخالفتها غرفت وان اتبع هواها تولت الى النار وفيها هوت ، ليس لها حقيقة ولا رجوع الى الخير وهي راس البلاء ومعدن الفضيحة وخزانة إبليس ومأوى كل سوء ولا يعرفها احد غير خالقها عز وجل ، فهي الصفة التي وصفها الله عز وجل كلما أظهرت خوفاً فهو امن ، وكلما ادعت صدقاً فهو كذب ، وكلما ذكرت إخلاصها فهو رياء ، وإعجاب عند الحقائق يبين صدقها ويعرف كذبها وعند الامتحان ترجع الى دعواها فليس بلاء عظيم الا وقد حل بها فعلى العبد محاسبتها ومراقبتها ومخالفتها ومجاهدتها في جميع ما تدعو اليه وتدخل فيه ، فليس لها دعوى حق وإنما تسعى في هلاكها ودمارها ، ولا توصف بشيء الا وهي اكثر مما توصف فهي كنز إبليس ومستراحه ومسامرته ومحدثته وصديقته ، فاذا عرف العبد صفتها فقد عرفها وهانت عليه وذلت وقوى عليها بالله عز وجل . (2) اذن من عرف نفسه عرف ربه لان النفس هي الحجاب بين العبد وبين ربه عز وجل ومن عرف نفسه تواضع لله عز وجل .(3)
الهوامش :
1- ( السيوطي / الحاوي للفتاوي / ( القول الاشبه في حديث من عرف نفسه فقد عرف ربه ) – ص 412)
2- الغنية لطالبي الحق / باب فصل ولا تتم المجاهدة الا بالمراقبة- ص 597-600 .
3- الشيخ عبد القادر الكيلاني – الفتح الرباني والفيض الرحماني – ص 229 .