إعداد د. عبد السلام الحديثي
قال الشيخ الأكبر ابن عربي (قدس الله سره) في الفتوحات المكية : ثبت أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال : ( من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدّم من ذنبه )، ورمضان اسم من أسماء الله تعالى، فالقيام في هذا الشهر من أجل هذا الاسم، لأنه إذا ورد وجب القيام له، قال تعالى : ( يوم يقوم الناس لرب العالمين ) ورمضان اسمه سبحانه، فيقوم العارف إجلالاً لهذا الاسم الذي اختص به هذا الشهر الكريم، هذا يحضر العارف في قيامه، ثم إن لهذا الشهر من نعوت الحق حكماً ليس لغيره وهو فرض الصوم على عباد الله، وهو صفة صمدانية يتنزه الإنسان فيها عن الطعام والشراب والنكاح والغيبة، وهذه كلها نعوت إلهية يتصف بها العبد في حال صومه ، فإذا جاء الليل قام العبد بين يدي الحق بصفاته التي كان عليها في نهاره، وفرض له القيام في وقت الفطر ليعلم أنه عبد فقير متغذ ليس له ذلك التنزه حقيقة وإنما هو أمر عرض له ينبهه على التخلق بأوصاف الله من التنزيه عن حكم الطبيعة ، ولهذا أخبرنا تعالى في الحديث المرويّ عنه : أن الصوم له وكل عمل ابن آدم لابن آدم(كل عمل ابن ادم له الا الصوم فإنه لي وانا أجزي به) ، يقول : إن التنزه عن الطعام والشراب والنكاح لي لا لك يا عبدي، لأني القائم بنفسي لا أفتقر في وجودي إلى حافظ يحفظه عليّ، وأنت تفتقر في وجودك لحافظ يحفظه عليك وهو أنا ، فجعلت لك الغذا وأفقرتك إليه لينبهك إني أنا الحافظ عليك وجودك، ليصح عندك افتقارك، ومع هذا الافتقار طغيت وتجبرت وتكبرت وتعاظمت في نفسك وقلت من هو مثلك، أنا ربكم الأعلى وما علمت لكم من إله غيري وأنا وأنا وأنا وما استحييت في ذلك من فضيحتك بجوعك وعطشك … وتألمك بالحرّ والبرد والآلام العارضة، يا ابن آدم رهصتك ثلاث رهصات، الفقر والمرض والموت، ومع ذلك إنك وثاب، فقيام رمضان قيام في الله، فمن كان الحق ظرفاً له فإن الله بكل شيء محيط، فهذا معنى الظرفية، فليس له خروج عنه، فأحاطته بك في رمضان إحاطة تشريف وتنزيه ،حيث شرع لك فرضاً في عبوديتك الاضطرارية للاتصاف بما ينبغي له لا لك، وهو التنزه عن الغذاء وملابسة النساء طول النهار وهو النصف من عمر وجودك، ثم تستقبل الليل فتخرج من ربوبيتك المنزهة عن الغذاء النكاح إلى عبوديتك بالفطر، والكل رمضان، فأنت في رمضان كما أنت في الصلاة، من قوله قسمت الصلاة بيني وبين عبدي بنصفين فنصفها لي ونصفها لعبدي، كذلك رمضان قسمه بينه وبين عبده بنصفين، نصف له وهو قوله: (الصوم لي) وهو زمان النهار، والنصف للعبد وهو الليل، زمان فطره، وقد قال في الصلاة أنها نور، وقال في الصوم إنه ضياء، والضياء هو النور، قال تعالى: ( هو الذي جعل الشمس ضياء) وقال: ( وجعل الشمس سراجاً) وشرع القيام في ليل رمضان، ورغب فيه، للمناسبة التي بين الصلاة والصوم في القسمة والنور، ليكون ليله بصلاته مثل نهاره بصومه، فبالنهار يتحد به، وبالليل يتوحد له .
والعزيمة النية، والنية شرط في الصوم من الليل، فنحن في الصوم مع الحق ،كما قالت بلقيس في عرشها: ( كأنه هو ) وهو كان هو، وإنما جهلها أدخل كاف التشبيه، كذلك جهل الإنسان، يقول: أنا الصائم وكيف ينبغي للمتغذي أن يكون صائماً؟ هيهات، قال الله تعالى: الصوم لي لا لك، فأزال عنه دعوى الصوم ،كما أزال عن بلقيس تشبيه العرش بعرشها، فعلمت بعد ذلك أنه هو لا غيره، فهذا معنى قولنا: إذا صحت عزائمنا ففي الإسرار تتحد، فإن قلت: الصائم هو الإنسان صدقت، وإن قلت الصوم لله لا للإنسان صدقت، ولا معنى للاتحاد إلا صحة النسبة لكل واحد من المتحدين مع تميز كل واحد عن الآخر في عين الاتحاد، فهو هو وما هو هو .
ولما رأينا فيما روينا أن الله أنزل لقاءه منزلة فطر الصائم فقال ( على لسان نبيه): (للصائم فرحتان، فرحة عند فطره )، لأنه غذاء طبيعته وهو الغذاء الحجابيّ إذ المغذي هو الله تعالى،( وفرحة عند لقاء ربه) وهو غذاؤه الحقيقيّ الذي به بقاؤه، فجعل هاتين الفرحتين للصائم في الحجاب وفي رفع الحجاب ….. فالصفة التي يقوم بها المصلي في صلاته في رمضان أشرف الصفات، لشرف الاسم، لشرف الزمان، فأقام الحق قيامه بالليل مقام صيامه بالنهار، إلا في الفرضية رحمة بعبده وتخفيفاً، ولهذا امتنع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقومه بأصحابه لئلا يفترض عليهم فلا يطيقونه ،ولو فرض عليهم لم يثابروا عليه هذه المثابرة ولا استعدّوا له هذا الاستعداد ،ثم الذين ثابروا عليه في العامّة يؤدّونه أشأم أداء وأنقصه، لا يذكرون الله فيه إلا قليلاً، لا يتمون ركوعه ولا سجوده، ولا يرتلون قراءته وما سنه من سنه – أعني من الاجتماع على قارئ واحد – على ما هم الناس اليوم عليه من المتميزين من الخطباء والفقهاء وأئمة المساجد، وفي مثل صلاتهم فيه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للرجل : ( ارجع فصل فإنك لم تصل )، فمن عزم على قيام رمضان المسنون قيامه ،المرغب فيه، فليقم كما شرع الشارع الصلاة من الطمأنينة والخشوع والوقار وتدبر ما يتلى وإلا تركه أولى، والقيام فيه أوّل الليل كما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه في الليلتين أو الثلاثة منه أولى، ويكون في المسجد أولى منه في البيت، بخلاف سائر النوافل، وإنما تركه رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخل بيته وصلى فيه رحمة بأمته أن يفترض عليهم فيعجزوا عنه أو يتكاسلوا وهو كما قال تعالى : ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) وقال : ( بالمؤمنين رؤوف رحيم ) والصلاة فيه مثنى مثنى كما ورد في الخبر في صلاة الليل، إنها مثنى مثنى .
ليس لاسم إلهيّ حكم في شهر رمضان إلا الاسم الإلهيّ رمضان ،وفاطر السموات والأرض في كل عبد سواء كان ممن يجب عليه صوم رمضان أم لا، يجب عليه إلا عدّة من أيام آخر، وذلك في كل فعل عبادة، يقام فيها العبد، فمن جملة أفعال البرّ فيه قيام ليله لمناجاة رمضان تبارك وتعالى، تارة على الكشف إذا كان مواصلاً، وتارة من خلف حجاب الاسم الفاطر، فإن الأسماء الإلهية يحجب بعضها بعضاً وإن كان لكل واحد من الحاجب والمحجوب سلطنة الوقت، فإن بعضها أولى بالحجابة من بعض، وذلك سار في جميع أحوال الخلق، ذكر أبو أحمد ابن عديّ الجرجاني من حديث عمرو بن أبي عمرو عن المطلب عن عائشة رضي الله عنها قالت : ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل رمضان شدّ مئزره فلم يأو إلى فراشه حتى ينسلخ رمضان ) وورد عنها أيضاً أنها قالت : ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر -تعني العشر الآواخر من رمضان – أحيا الليل وأيقظ أهله وجدّ وشدّ المئزر ) وقيام الليل عبارة عن الصلاة فيه، هذا هو المعروف من قيام الليل في العرف الشرعي، والناس في مناجاة الحق فيه على قسمين، فمنهم من يناجيه بالاسم الممسك وهو أيضاً من حجاب الاسم رمضان، ومنهم من يناجيه بالاسم الفاطر، وهو أيضاً من حجابه والناس على اختلاف في أحوالهم .
والاسم الفاطر على هذا في ليل شهر رمضان أقوى حكماً فينا من الممسك، فمن كان حاله في إمساكه يطعمه ربه ويسقيه في مبيته في حال كونه ليس بآكل ولا شارب في ظاهره فهو مفطر، وإن كان صائماً، وقد ذقت هذا، ومن هنا علمت أن قوله صلى الله عليه وسلم: (..لست كهيئتكم إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني..) إنه نفي أن تشبهه تلك الجماعة التي خاطبهم ،فلم يكن لهم هذه الحالة، إذ لو أراد الأمّة كلها ما ذاقته، وقد وجدته ذوقاً والحمد لله، وإن لم يكن ممن يطعمه ربه ويسقيه في حال وصال صومه، فهو متطفل على من هذه صفته، وهو كلابس ثوبي زور، ولذلك يكره له الوصال إذا لم تكن له هذه الصفة حالاً يشهدها ذوقاً في نفسه، ويظهر أثرها عليه في يقظته، والله يحب الصدق في موطنه، كما يحب الكذب في موطنه ،وهذا ليس بموطن حب الكذب فإن الله يكرهه في هذا الموطن . (1)
وفي كتاب الغنية لطالبي طريق الحق يقول الغوث الأعظم السيد الشيخ عبد القادر الكيلاني (قدس الله سره) : « رمضان خمسة أحرف : الراء رضوان الله ، والميم محاباة الله ، والضاد ضمان الله ، والألف ألفة الله ، والنون نور الله . فهو شهر رضوان ومحاباة وضمان وألفة ونور ونوال وكرامة للأولياء والأبرار . وإن مثل شهر رمضان في الشهور كمثل القلب في الصدور ، وكالأنبياء في الأنام ، وكالحرم في البلاد » . 2 ،3 .
______
الهوامش :
1- الفتوحات المكية للشيخ الأكبر ابن عربي .
2- موسوعة الكسنزان فيما اصطلح عليه أهل التصوف والعرفان للسيد الشيخ محمد الكسنزان الحسيني .
3- الغنية لطالبي طريق الحق للشيخ عبد القادر الجيلاني .
المصدر : مشاركة من الكاتب .