إن قال قائل : إن رجال التصوف يحرمون ما أحل الله من أنواع اللذائذ والمتع ، وقد قال الله تعالى : قُلْ مَنْ حَرَّمَ زينَةَ اللَّهِ الَّتي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ والطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ ( الأعراف : 32 ) ، وقال تعالى : يا أَيُّها الَّذينَ آمَنوا لا تُحَرِّموا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدوا
إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدينَ ( المائدة : 87 ) فنقول : إن رجال التصوف لم يجعلوا الحلال حراماً ، إذ أسمى مقاصدهم هو التقيد بشرع الله ، ولكنهم حين عرفوا أن تزكية النفس فرض عين وأن للنفس أخلاقاً سيئة وتعلقات شهوانية ، توصل صاحبها إلى الردى وتعيقه عن الترقي في مدارج الكمال وجدوا لزاماً عليهم أن يهذبوا نفوسهم ويحرروها من سجن الهوى .
وبهذا المعنى يقول الصوفي الكبير الحكيم الترمذي رحمه الله رداً على هذه الشبهة وجواباً لمن احتج بالآية الكريمة قُلْ مَنْ حَرَّمَ زينَةَ اللَّهِ … فهذا الاحتجاج تعنيف ، ومن القول تحريف لأنا لم نرد بهذا التحريم ولكنا أردنا تأديب النفس حتى تأخذ الأدب وتعلم كيف ينبغي أن تعمل في ذلك ، ألا ترى إلى قوله جل وعلا : قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ والْأِثْمَ والْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ( الأعراف : 33 ) فالبغي في الشيء الحلال حرام ، والفخر حرام ، والمباهاة حرام ، والرياء حرام ، والسرف حرام ، فإنما أوتيت النفس هذا المنع من أجل أنها مالت إلى هذه الأشياء بقلبها ، حتى فسد القلب فلما رأيت النفس تتناول زينة الله والطيبات من الرزق تريد بذلك تغنياً أو مباهاة أو رياء علمتُ أنها خلطت حراماً بحلال فضيعت الشكر ، وإنما رزقت لتشكر لا لتكفر ، فلما علمت سوء أدبها منعتها ، حتى إذا ذلت وانقمعت ، ورآني ربي مجاهداً في ذاته حق جهاده ، هداني سبيله كما وعد الله تعالى : والَّذينَ جاهَدوا فينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنينَ ( العنكبوت : 69 ) فصرت عنده بالمجاهدة محسناً فكان الله معي ، ومن كان معه الله فمعه الفئة التي لا تغلب ، والحارس الذي لا ينام ، والهادي الذي لا يضل ، وقذف في القلب نوراً عاجلاً في دار الدنيا حتى يوصله إلى ثواب الآجل ، وتجافى عن دار الغرور فغاب عن قلبه البغي والرياء والسمعة والمباهاة والفخر والخيلاء والحسد ، لأن ذلك إنما كان أصله من تعظيم الدنيا وحلاوتها في قلبه ، وحبه لها ، وكان سبب نجاته من هذه الآفات برحمة الله رياضته هذه النفس بمنع الشهوات منها (1) . وقد تسرع بعض الناس فزعموا جهلاً في مجاهدته ينحدر من أصل بوذي أو إبراهيمي ويلتقي مع الانحرافات الدينية في النصرانية وغيرها التي تعد تعذيب الجسد طريقاً إلى إشراق الروح وانطلاقها ، ومنهم من جعل التصوف امتداداً لنـزعة الرهبنة التي ظهرت في ثلاثة رهط سألوا عن عبادة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فلما أخبروا عنها كأنهم تقالوها فقال أحدهم : أما أنا فأصوم الدهر ولا أفطر ، وقال الثاني : أما أنا فأقوم الليل ولا أنام ، وقال الثالث : أما أنا فأعتزل النساء ولا أتزوج . ولما عرض أمرهم على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم صحح لهم أفكارهم ، وردهم إلى الصراط المستقيم والنهج القويم (2) . والجواب على ذلك أن التصوف لم يكن في يوم من الأيام شرعة مستقلة ولا ديناً جديداً ، ولكنه تطبيق عملي لدين الله تعالى واقتداء كامل برسوله صلى الله تعالى عليه وسلم ، وإنما سرت الشبهة عن هؤلاء المتسرعين لأنهم وجدوا في التصوف اهتماماً بتزكية النفس وتربيتها وتصعيدها ومجاهدتها على أسس شرعية ضمن نطاق الدين الحنيف ، فقاسموا تلك الانحرافات الدينية على التصوف قياساً أعمى دون تمحيص أو تمييز ، غائبين عن مواقف المجاهدة العظيمة التي مر بها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وصحابته الكرام مما لو سمع به أحد هؤلاء المنكرين ولم يعلم أنه موقف لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لاتهم صاحبه انه متنطع بالعبادة وأنه يشاد الدين ويحرم على نفسه ما أحل الله لها ولكنه ثمة فرق كبير بين المجاهدة المشروعة المقيدة بدين الله تعالى وبين المغالاة والانحراف وتحريم الحلال وتعذيب الجسد كما عليه البوذيون الكافرون .
ومن الظلم والبهتان أن يحكم على كل من جاهد نفسه وزكاها أنه ينحدر من أصل بوذي أو إبراهيمي كما يزعم المستشرقون ومن خدع بهم ، أو أنه يقتدي بهؤلاء الرهط تقالوا عبادة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كما يقوله المتسرعون السطحيون ، مع أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم صحح لهم خطأهم فرجعوا إلى هديه وسنته .
وإذا وجد في تاريخ التصوف من حرم الحلال أو قام بتعذيب الجسد على غرار الانحرافات الدينية السابقة فهو مبتدع ومبتعد عن طريق التصوف ، لذا ينبغي التفريق بين التصوف والصوفي فليس الصوفي ممثلاً للتصوف ، كما أن المسلم بانحرافه لا يمثل الإسلام .
والمعترضون لم يفرقوا بين الصوفي والتصوف وبين المسلم والإسلام ، فجعلوا تلازماً بينهما فوقعوا في الكاملين قياساً على المنحرفين .
وبعد ، فإن منتهى آمال السالكين ترقية نفوسهم ، فإن ظفروا بها وصلوا إلى مطلوبهم ، والنفس تترقى بالمجاهدة والرياضة من كونها أمارة إلى كونها لوامة وملهمة وراضية ومرضية ومطمئنة … الخ ، فالمجاهدة ضرورية للسالك في جميع مراحل سيره إلى الله تعالى ولا تنتهي إلا بالوصول إلى درجة العصمة ، وهذه لا تكون إلا للأنبياء والمرسلين ( عليهم الصلاة والسلام )(3) فالأولياء يصلون إلى درجة الحفظ ، والأنبياء إلى درجة العصمة .
إذاً فالمجاهدة أصل من أصول طريق الصوفية ، وقد قالوا : ( من حقَّق الأصول نال الوصول ، ومن ترك الأصول حرم الوصول ) »(4) .
_____________________
الهوامش :
(1) – الحكيم الترمذي – كتاب الرياضة وآداب النفس – ص 124 .
(2) – أخرجه البخاري ( 4776 ) ومسلم ( 1401 ) .
(3) – عبد القادر عيسى – حقائق عن التصوف – ص 124 – 127 .
(4) – يوسف خطار محمد – الموسوعة اليوسفية في بيان أدلة الصوفية ص 459 – 468 .