د. أمين عودة
إن كلمة ” صوفيا” أو “سوفيا” الشق الثاني من ” فيلا سوفيا” وتعريبها كما هو معروف “فلسفة” هي من الكلمات المقترحة عند بعض المستشرقين والعرب التي اشتق منها مصطلح التصوف مبنى ومعنى. ولعل البيروني أول من شدا بهذا الرأي في كتابه ” تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة” وفيه يقول:” … وهذا رأي الصوفية وهم الحكماء، فإن “سوف” باليونانية الحكمة، بها سمي الفيلسوف “بيلا سوبا” [= فيلا سوفيا] أي محب للحكمة، ولما ذهب في الإسلام قوم إلى قريب من رأيهم سُمُّوا باسمهم، ولم يعرف اللقب بعضُهم، فنسبهم للتوكل إلى الصفة… ثم صُحِّف بعد ذلك فصُيّر من صوف التيس. وعدل أبو الفتح البستي عن ذلك أحسن عدول في قوله:
تنازع الناس في الصوفي فاختلفوا
قْمـا وظنوه مشتقا من الصوف
ولست أنحل هذا الاسم غير فتى
افى فصوفي حتى لقب الصوفي (1)
وتلقف غير قليل من المسشرقين والعرب رأي البيروني، وذهبوا مذهبه في اشتقاق مصطلح التصوف من ” فيلا سوفيا”. وقد يكون البيروني وقع على مقترب من الحق في رأيه هذا، لا الحق نفسه. أما الرأي الذي يرجحه البحث العلمي، وتطمئن إليه النفس، فهو أن كلمة “سوفيا” أو “صوفيا” ليست يونانية الأصل، إنما هي مما اقترضته اليونان من غيرهم، يشهد على ذلك قول أفلاطون نفسه على لسان سقراط في محاورة كراتيليوس في فلسفة اللغة، عندما سئل عن كلمة “سوفيا”.
قال: ” كلمة [سوفيا] (= حكمة) غامضة جدا، وتبدو أنها ليست من أصل محلي”(2). هذا اعتراف أفلاطون بأن الكلمة ليست من أصل يوناني. والذي يرجح صواب رأيه أن كلمة ” صوفيا أوسوفيا” عروبية المولد والهوية؛ ففي الأكادية، اللغة العروبية في العراق القديم، تجد كلمة Safu ” صافو” التي تعني ” يدعو، يصلي” وكلمة Sufu” صوفو” ومعناها ” دعاء، صلاة”. وثمة عبارة في الأكادية تقول: Semat tisliti u supia ( وعربيتها: سمة ” أي علامة ” تصلية ” صلاة” و ” صفاء” ) وكثيرا ما يقترن استعمالها في الأكادية بكلمة ” الصلاة”. كما أن من معانيها: التبتل، والخشوع، والنسك، … والصفاء. وهذه كلها من سمات الحكيم أو الفيلسوف، ومن قبلهما الصوفي.
وإذن، فالظاهر أن أصل كلمة “صوفيا” في اليونانية، مقترض من الأكادية: Sopia أو Sufia التي تدل على الزاهد العابد والمعني بأمور الغيب. فهل يبعد هذا عن معنى الحكيم والفيلسوف؟! ومن البين الجلي أن هذه المعاني أو ظلالها تجدها في الجذر العربي ” صفا”(3).
وخلاصة القول إن كلمة التصوف لها أصل اشتقاقي عريق، وهي كلمة عروبية عروبة اللغة نفسها، وقديمة قدمها. وأحسب أن التصوف الإسلامي اصطفى هذه الكلمة، وإن لم تع الذاكرة الجمعية أصلها البعيد، وثوّرها، وضخ فيها من روح الإسلام وفلسفته، وجعلها عنوانا على مضمار الروح، وخلاصة هذا الدين الحنيف. وهذا بصرف النظر عن اجتهاد المجتهدين من أعلام التصوف ودارسيه، لما راحوا ينقبون عن اشتقاق كلمة التصوف، هل هي من الصفة أو من الصف الأول أو من الصوف أو من الصفاء …- فلكل واحد منهم اجتهاده الخاص – لأنك إذا أمعنت النظر فيما انطوت عليه هذه الألفاظ من معان مباشرة وغير مباشرة، ألفيتها زاخرة بمعان من نحو الدعاء والصلاة والزهد والصفاء والحكمة التي هي أس التصوف ولبه. ومن أوتي الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا.
وأكثر القدماء من الذين أرخوا للتصوف، يرون أن كلمة صوفي نسبة إلى الصوف، ولبس الصوف كان من دأب الأنبياء والزهاد والصلحاء، ثم صار شعارا على الزهد والتصوف.
وليس من المستبعد في التطور اللغوي في هذا السياق، أن تنـزاح دلالة الصوف إلى الصفاء، وتجذبها إلى دائرتها الدلالية، ليغدو الصفاء من جملة ما تستضمره كلمة الصوف في محيط تداولي يسعى إلى تصفية الروح، وتنقية السريرة من عوائق الدنيا، وعوالق النفس.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله صلاة وتسليما يليقان بقدره عند رب العالمين.
_____________
الهوامش :
1 أبو الريحان محمد بن أحمد البيروني، مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية، حيدر آباد الدكن، الهند، 1958، ص 24-25.
2 ترجم المحاورة وقدم لها بدراسة تحليلية الدكتور عزمي طه السيد أحمد، منشورات وزارة الثقافة، ط1، عمان، 1995، ص149.
3 انظر ما كتبه الدكتور علي فهمي خشيم في تأصيل كلمة ” فيلاسوفيا” في كتابه: رحلة الكلمات: الرحلة الأولى، مركز الحضارة العربية، ط2، القاهرة، 2001، ص، 97-98.