يقول الإمام أبو حامد الغزالي : « اعلم أن أول الحج : الفهم – أعني فهم موقع الحج في الدين – ثم الشوق إليه ، ثم العزم عليه ، ثم قطع العلائق المانعة منه ، ثم شراء ثوب الإحرام ، ثم شراء الزاد ، ثم اكتراء الراحلة ، ثم الخروج ثم المسير في البادية ، ثم الإحرام من الميقات بالتلبية ، ثم دخول مكة ، ثم استتمام الأفعال كما سبق ، وفي كل واحد من هذه الأمور تذكرة … وعبرة … وتنبيه … وتعريف وإشارة … أما الفهم : اعلم أنه لا وصول إلى الله سبحانه وتعالى إلا بالتنـزه عن الشهوات … والتجرد لله سبحانه من جميع الحركات والسكنات …
وأما الشوق : فإنما ينبعث بعد الفهم والتحقق بأن البيت بيت الله تعالى وأنه وضع على مثال حضرة الملوك فقاصده قاصد إلى الله تعالى … فالشوق إلى لقاء الله تعالى يشوقه إلى أسباب الله لا محالة .
وأما العزم … وليعلم أنه عزم على أمر رفيع شأنه ، خطير أمره ، وأن من طلب عظيماً خاطر بعظيم ، وليجعل عزمه خالصاً لوجه الله سبحانه .
وأما قطع العلائق … فليتذكر أن سفر الآخرة أطول من هذا السفر ، وأن زاده التقوى .
وأما الراحلة : إذا أحضرها فليشكر الله بقلبه على تسخير الله تعالى له الدواب … وليتذكر عنده المركب الذي يركبه إلى دار الآخرة ، وهي الجنازة التي يحمل عليها … فكيف يحتاط في أسباب السفر المشكوك فيه ويستظهر في زاده وراحلته ويهمل أمر السفر المستيقن ؟
وأما شراء ثوبي الإحرام : فليتذكر عنده الكفن ولفه فيه .
وأما الخروج من البلد : فليعلم عنده أنه فارق الأهل والوطن ، متوجهاً إلى الله تعالى في سفر لا يضاهي أسفار الدنيا .
وأما دخول البادية إلى الميقات ومشاهدة تلك العقبات : فليتذكر فيها ما بين الخروج من الدنيا بالموت إلى ميقات يوم القيامة وما بينهما من الأهوال والمطالبات .
وأما الإحرام والتلبية من الميقات : فليعلم أن معناه إجابة نداء الله تعالى . فارج أن تكون مقبولاً ، واخش أن يقال لك لا لبيك ولا سعديك ، فكن بين الرجاء والخوف متردداً … فإن وقت التلبية هو بداية الأمر ، وهي محل الخطر .
وأما دخول مكة : فليتذكر عندها أنه قد انتهى إلى حرم الله تعالى آمناً ، وليرج عنده أن يأمن بدخوله من عقاب الله تعالى .
وأما وقوع البصر على البيت : فينبغي أن يحضر عنده عظمة البيت في القلب ، ويقدر كأنه مشاهد لرب البيت لشدة تعظيمه إياه .
وأما الطواف بالبيت … اعلم أنك بالطواف متشبه بالملائكة المقربين الحافين حول العرش … إن الطواف الشريف هو طواف القلب بحضرة الربوبية . وإن البيت مثال ظاهر في عالم الملك لتلك الحضرة التي لا تشاهد بالبصر ، وهي عالم الملكوت … وإلى هذه الموازنة وقعت الإشارة : بأن البيت المعمور في السماوات بإزاء الكعبة ، فإن طواف الملائكة به كطواف الإنس بهذا البيت … والذي يقدر على مثل ذلك الطواف هو الذي يقال : أن الكعبة تزوره وتطوف به على ما رآه بعض المكاشفين لبعض أولياء الله سبحانه وتعالى .
وأما الاستلام : فاعتقد عنده أنك مبايع لله تعالى على طاعته .
وأما التعلق بأستار الكعبة والالتصاق بالملتزم : فلتكن نيتك في الالتزام طلب القرب حباً وشوقاً للبيت ولرب البيت ، وتبركاً بالمماسة ، ورجاءاً للتحصن عن النار في كل جزء من بدنك لا في البيت .
وأما السعي بين الصفا والمروة في فناء البيت : فإنه يضاهي تردد العبد بفناء دار الملك جائياً وذاهباً مرة بعد أخرى ، إظهاراً للخلوص في الخدمة ، ورجاءاً للملاحظة بعين الرحمة … وليتذكر عند تردده بين الصفا والمروة تردد بين كفتي الميزان في عرصات القيامة ، وليمثل الصفا بكفة الحسنات والمروة بكفة السيئات .
وأما الوقوف بعرفة : فاذكر عرصات القيامة .
وأما رمي الجمار : فاقصد به الانقياد للأمر إظهاراً للرق والعبودية ، وانتهاضاً لمجرد الامتثال من غير حظ للعقل والنفس فيه .
وأما ذبح الهدي : فاعلم أنه تقرب إلى الله تعالى بحكم الامتثال . فأكمل الهدي وارج أن يعتق الله بكل جزء منه جزءاً منك من النار ، فهكذا ورد الوعد . فكلما كان الهدي أكبر وإجزاؤه أوفر ، كان فداؤك من النار أعم .
وأما زيارة المدينة … مثَّل في نفسك مواقع أقدام رسول الله عند تردداته فيها ، وأنه ما من موقع قدم تطؤه إلا هو موضع أقدامه العزيزة ، فلا تضع قدمك عليه إلا عن سكينة ووجل . وتذكر مشيه وتخطيه في سككها ، وتصور : خشوعه ، وسكينته في
المشي ، وما استودع الله سبحانه قلبه من عظيم معرفته ، ورفعة ذكره مع ذكره تعالى حتى قرنه بذكر نفسه ، وإحباطه عمل من هتك حرمته ولو برفع صوته فوق صوته .
وأما زيارة رسول الله صلى الله تعالى عليه واله وسلم : فينبغي أن تقف بين يديه كما وصفنا … واعلم أنه عالم بحضورك وقيامك وزيارتك وأنه يبلغه سلامك وصلاتك ، فمثِّل صورته الكريمة في
خيالك … وأحِضر عظيم رتبته في قلبك .
ثم ائت منبر الرسول صلى الله تعالى عليه واله وسلم ، وتوهم صعود النبي صلى الله تعالى عليه واله وسلم المنبر ، ومثل في قلبك طلعته البهية كأنها على المنبر ، وقد أحدق به المهاجرون والأنصار ، وهو يحثهم عل طاعة الله تعالى بخطبته ، وسل الله تعالى أن لا يفرق في القيامة بينك وبينه . فهذه وظيفة القلب في أعمال الحج »(1) .
ويقول الشيخ الأكبر ابن عربي : يقول صاحب الشيخ الشبلي وهو صاحب الحكاية عن نفسه : قال لي الشبلي : عقدت الحج ؟
قال : فقلت : نعم !
فقال لي : فسخت بعقدك كل عقد عقدته منذ خلقت مما يضاد ذلك العقد ؟
فقلت : لا !
فقال لي : ما عقدت .
ثم قال لي : نزعت ثيابك ؟
فقلت : نعم !
فقال لي : تجردت من كل شيء ؟
فقلت : لا ! فقال لي : ما نزعت .
ثم قال لي : تطهرت ؟
قلت : نعم !
فقال لي : زال عنك كل علة بطهرك ؟
قلت : لا !
قال : ما تطهرت .
ثم قال لي : لبيت ؟
قلت : نعم !
فقال لي : وجدت الجواب التلبية بتلبيتك مثله ؟
قلت : لا !
فقال : ما لبيت .
ثم قال لي : دخلت الحرم ؟
قلت : نعم !
قال :اعتقدت في دخولك الحرم ترك كل محرم ؟
قلت : لا !
قال : ما دخلت .
ثم قال لي : أشرفت على مكة ؟
قلت : نعم !
قال : أشرف عليك حال من الحق لإشرافك على مكة ؟
قلت : لا !
قال : ما أشرفت على مكة .
ثم قال لي : دخلت المسجد ؟
قلت : نعم !
قال : دخلت في قربة من حيث علمت ؟
قلت : لا !
قال : ما دخلت المسجد .
ثم قال لي : رأيت الكعبة ؟
قلت : نعم !
فقال : رأيت ما قصدت له ؟
فقلت : لا ! قال : ما رأيت الكعبة .
ثم قال لي : رملت ثلاثاً ومشيت أربعاً ؟
فقلت : نعم !
فقال : هربت من الدنيا هرباً علمت أنك قد فاصلتها وانقطعت عنها ، ووجدت بمشيتك الأربعة أمناً مما هربت منه ، فازددت لله شكراً لذلك ؟
فقلت : لا !
قال : ما رملت .
ثم قال : صافحت الحجر وقبلته ؟
قلت : نعم ! فزعق زعقة وقال : ويحك ! إنه قد قيل : إن من صافح الحجر فقد صافح الحق سبحانه وتعالى ، ومن صافح الحق سبحانه وتعالى فهو في محل الأمن ، أظهر عليك أثر الأمن ؟
قلت : لا !
قال : ما صافحت .
ثم قال لي : وقفت الوقفة بين يدي الله تعالى خلف المقام وصليت ركعتين ؟
فقلت : نعم !
قال : وقفت على مكانتك من ربك ، ناديت قصدك ؟
قلت : لا !
قال : فما صليت .
ثم قال لي : خرجت إلى الصفا فوقفت بها ؟
قلت : نعم .
قال : ايش عملت ؟
قلت : كبرت وذكرت الحج وسألت الله القبول .
فقال لي : كبرت بتكبير الملائكة ، ووجدت حقيقة تكبيرك في ذلك المكان ؟
قلت : لا !
قال : ما كبرت .
ثم قال لي : نزلت من الصفا ؟
قلت : نعم !
قال : زالت كل علة عنك حتى صفيت ؟
قلت : لا !
فقال لي : ما صعدت ولا نزلت .
ثم قال لي : هرولت ؟
قلت : نعم !
قال : ففررت إليه ، وبرئت من فؤادك ، ووصلت إلى وجودك ؟
قلت : لا !
قال : ما هرولت ؟
ثم قال لي : وصلت إلى المروة ؟
قلت : نعم !
قال : رأيت السكينة على المروة فأخذتها أو نزلت عليك ؟
قلت : لا !
قال : ما وصلت إلى المروة .
ثم قال لي : خرجت إلى منى ؟
قلت : نعم !
قال : تمنيت على الله غير الحال التي عصيته فيها ؟
قلت : لا !
قال : ما خرجت إلى منى .
ثم قال لي : دخلت مسجد الخيف ؟
قلت : نعم !
قال : خفت الله في دخولك وخروجك ووجدت من الخوف ما لا تجده إلا فيه ؟
قلت : لا !
قال : ما دخلت مسجد الخيف .
ثم قال لي : مضيت إلى عرفات ؟
قلت : نعم !
قال : وقفت بها ؟
قلت : نعم !
قال : عرفت الحال التي خلقت من أجلها ، والحال التي تريدها ، والحال التي تصير
إليها ؟ وعرفت المعرف لك هذه الأحوال ، ورأيت المكان الذي إليه الإشارات فإنه هو الذي نفس الأنفاس في كل حال ؟
قلت : لا !
قال : ما وقفت بعرفات .
ثم قال لي : نفرت إلى المزدلفة ؟
قلت : نعم !
قال : رأيت المشعر الحرام ؟
قلت : نعم .
قال : ذكرت الله ذكراً أنساك ما سواه فاشتغلت به ؟
قلت : لا !
قال : ما وقفت بالمزدلفة .
ثم قال لي : دخلت منى ؟
قلت : نعم !
قال : ذبحت ؟
قلت : نعم !
قال : نفسك .
قلت : لا !
قال : ما ذبحت .
ثم قال لي : رميت ؟
قلت : نعم !
قال : رميت جهلك عنك بزيادة علم ظهر عليك ؟
قلت : لا ! قال : ما رميت .
ثم قال لي : حلقت ؟
قلت : نعم !
قال : نقصت آمالك عنك ؟
قلت : لا !
قال : ما حلقت .
ثم قال لي : زرت ؟
قلت : نعم !
قال : كوشفت بشيء من الحقائق ، أو رأيت زيادات الكرامات عليك للزيارة ؟ فإن النبي صلى الله تعالى عليه واله وسلم قال : الحاج والعمار زوار الله وحق على المزور أن يكرم زواره(2) » .
قلت : لا !
قال : ما زرت .
ثم قال لي : أحللت ؟
قلت : نعم ! قال : عزمت على الحل الحلال ؟
قلت : لا !
قال : ما حللت .
ثم قال لي : ودعت ؟
قلت : نعم !
قال : خرجت نفسك وروحك بالكلية ؟
قلت : لا !
قال : ما ودعت وعليك العود ، وانظر كيف تحج بعد هذا ، فقد عرفت ، وإذا حججت فاجتهد أن تكون كما وصفت لك »(3) .
ويقول الدكتور إبراهيم بسيوني : عاد رجل من حجه … فسأله الشيخ الجنيد : « أرحلت عن جميع ذنبك حين رحلت عن دارك ؟
فقال : لا .
قال : فأنت لم ترحل .
ثم قال له : … وبعد كل مرحلة نزلت حيث تتلبث الليل … هل قطعت مرحلة إلى الله ؟
قال : لا .
قال الجنيد : فأنت لم تقطع الطريق مرحلة مرحلة !
ثم قال : وحين لبست ثوب الإحرام في موضعه ، هل خلعت صفات البشرية عنك وأنت تخلع ثيابك ؟
قال : لا .
قال الجنيد : فأنت لم تحرم !
ثم قال : وحين وقفت بعرفه … هل تأملت في الله لحظة واحدة ؟
قال : لا .
قال : فأنت لم تقف بعرفه .
ثم قال : وحين أفضت إلى المزدلفة وقضيت مناسكك هل رفضت جميع الأغراض الجسدية ؟
قال : لا .
قال : فأنت لم تفض إلى المزدلفة .
ثم قال : وحين طفت بالبيت ، هل أدركت الجمال الإلهي في بيت الطهر ؟
قال : لا .
قال : فأنت لم تطف بالبيت !
ثم قال : وحين سعيت بين الصفا والمروة … هل أدركت الصفا والمروة ؟
قال : لا . قال : فأنت لم تسع …
ثم قال : فلما جئت إلى منى …هل ذهبت جميع المُـنى عنك ؟
قال : لا .
قال : فأنت لم تزر منى !
ثم قال : فلما وصلت إلى المنحر ونحرت القربان هل نحرت أسباب متاع الدنيا ؟
قال : لا .
قال : فأنت لم تنحر !
ثم قال له : فلما رميت الجمار … هل رميت ما صحبك من أفكار جسدية ؟
قال : لا .
قال الجنيد : فأنت لم ترم الجمار … ولم تؤد على ذلك حجاً »(4) .
ويقول الباحث محمد غازي عرابي :« حج : أي توجه واكتشف . فمن الحاء : كان الانطلاق إلى بيت الله الحرام الذي حرم سره على غير الحاجين الحقيقيين . والجيم رمز الجوار : وهي كعبة القلب التي تفجرت فيها عين زمزم البصيرة والحقيقة .
والطواف طوافان : طواف العبد بالله ، وطواف الله بالعبد .
والشعائر جمع شعيرة ، والشين منها : مشيئةُ ، أَرادت توجيه دفة العبد إلى القبلة . فما حج من حج إلا بعد اصطفاء ، فسبقت المشيئة الاختيار ، فكان الحج حج الله على الحقيقة . هو أراد وبعث وأيقظ الحافز في قلب العبد ، فحج مثاله إليه ، فطاف الله بالله مشيئة على عين الجوهر المتمثل عياناً .
والحج طهور ، لأنه بمجرد اطلاع الحاج على السر يعود طفلاً كيوم ولدته أمه ، قد سقط ما عليه من رجس المادة والماضي ، واكتشف أن الجوهر روحاني ، وإن تعين وبدا خيراً وشراً وقسم يميناً وشمالاً .
ولا يكفر الحاج ولا يشرك ولا يذنب ، وإن أذنب فداخل بناء الكعبة ، ثم قدسية لمن لمس الحجر الأسود ، فنصل من ثيابه ، واتصل بالحقيقة الأبدية التي رمزت ومثلت ، وكان من بين رموزها الحجر الذي هو أساس عالم الذر ، وهو ذر أبيض ، أسوَّد بتحوله إلى محسوس مادي يُرى .
والحاج طفل ، لأنه فقير عاجز محتاج إلى عون ربه الذي ما يزال يقلبه في شعائره حتى يشهده كشفاً على جبل عرفات فيعرفه ، فلا يرى كائن سواه ، فيكبر ويكبر … حتى ينحدر عن الجبل في صباح العيد ، وقد رأى ما لا يرى ، وإن رئي فلا يمكن التعبير عنه .
وأول الحج : الإحرام الذي هو نسك لله ، وانقطاع إليه بالتجرد عن علائق الحياة الدنيا . وفي ترك المخيط : ترك التدبير لله الذي يفصل في الأمور بسابق علم وبلاحقه تدبيراً منه تعالى للأحداث . فدخولك تدخل ، وظاهراً ترى الأمر متروكاً إليك معتمداً عليك ، وباطناً الأمر له من قبل ومن بعد . فالكشف اقتضى ترك التدبير إيمانا بقوله تعالى على لسان العبد الصالح : وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْري(5) ، أي : أن كل فعل لكل عبد هو في حقيقته عن غير أمره بل عن أمر الله . وهذه مرحلة من التوكل مصاحبة بيقين ذوقي دخلت في مناسك الحج كشفاً لفعل الحق .
ويعد حلق الرأس : تتمة لترك المخيط ، إذ الشعور قوة ، وهو يرمز إلى فتوة الإنسان وشبابه ، وكلما غزر دل على نشاط الجسم ، فحلقه عودة إلى الضعف ، إذ بداية أمر الإنسان صلع أو شبه صلع ، وكذلك نهايته وبينهما قوة . فاللجوء إلى حلق الرأس كشف لحقيقة صاحب الفعل الحقيقي وصاحب الحول والطول في العبد .
وفي ترك تقليم الأظافر : إشارة إلى العودة إلى الحياة الطبيعية التي كان فيها الإنسان أول مرة . وواضح أن التقليم عمل يدل على بدء وعي الإنسان لأمور حياته ، ومحاولة ممارسة إمكاناته التي وهبه الله إياها لإصلاح ذات شأنه .. وهذه العودة ضرورية تذكرة للحاج إلى ما كان عليه من همجية وحيوانية ، ومبلغ فضل نعمة العقل عليه التي أخرجته من ظلمات تلك الحياة إلى نور الإيمان . والعقل الذي هو ميزة الإنسان على الحيوان .
وفي ترك الطيب : إشارة إلى عدم التدخل من قبل الإنسان لمحاولة التطهر والتجمل ، وذلك بعد أن ثبت كشفاً أن العملية مقرونة بالعناية المسبقة . فأيما طيب لا ينجع في جلو قلب صدئ كقلب أبي لهب وأبي جهل . والطيب الحقيقي : هو النور يقذفه الله في قلب العبد فيهتدي إلى سواء السبيل . وترك النكاح : إحرام الفعل . فالوقت ضيق وهو مرصود لله ، ولا نصيب للذات في هذا المجال ، إذ الموقف صعب ويتطلب بذل أقصى جهد للوصول إلى معرفة الله كشفاً عن طريق الذوق على جبل عرفة . فالاشتغال بغير ذلك التهيؤ للحاج ممنوع .. ولو أمكن أن يعيش الحاج من غير طعام أو شراب لأمر الله بذلك تمكيناً للمسافر وهدياً للطريق .
وفي ترك الكحل : إشارة لطيفة إلى أن العين التي أصبحت عين الله ، أي تنورت بنوره ، ليست بحاجة إلى نور غيره . فالله وحده هو الهادي والمساعد ولا مساعد له في هذا المجال : وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (6) ، ومخرجه أن تصبح عينه عينه ، لذلك جاء في الحديث القدسي أن الحق يصبح بصر العبد الذي يبصر به بعد إتمام التحق والكشف ،أي : إتمام الحج .
ومكة : المكان المقدس ، والمقدس من الإنسان روحه ، لأنها من نفس الله . فالتوجه إلى مكة توجه إلى روح القدس في الإنسان ، مع التهيؤ والاستعداد للدخول في حظيرة القدس حيث أنطق الله المسيح وهو في مهد التسبيح .
والكعبة : النظر إدماناً إلى عين الذات ، أي إلى الروح ، أي إلى اللطيفة المستودعة في ذات الإنسان . فهذه العين هي عين العلم اللدني في الحقيقة . ولذلك ترى الحاج يطوف بالكعبة ، والطواف : تركيز على تركيز الجهد التأملي ، أي صرف الخاطر عن كل ما عدى التأمل في ذات الله تعالى . فالحاج قاصد ، والمقصود كريم ، ولكن لا بد للدخول من إتمام الاستعدادات وأهمها تطهير القلب من كل خاطر دخيل . فأنت ترى أن كل هذه الشعائر والمناسك إنما قصدها تهيئة القلب لاستقبال الأنوار .
أما كون الطوائف سبعة : فالقصد التنازل إرادياً عن الإرادة والذات وبقية الصفات الإلهية المستودعة في الإنسان ، والتي إذا جرد منها رأى نفسه فانياً تماماً لأنخلاعه عن كل ما يتسلح به من قوى . فالطواف انخلاع .
والسعي بين الصفا والمروة : هو بدء الري من الشرب الإلهي . فبعد الانتهاء من مرحلة التطهر يصبح قلب العبد في لون الماء الإلهي ، ولذلك كان صافياً من كل شوب وكدر وخاطر نفسي وشيطاني .
فههنا نهاية سفر السالكين ، إذ السلوك : التوجه مع القصد .
أما المروة : فالري نفسه ، إذ يبدأ ماء العلم يتدفق من عين الذات . ولذلك ربط الصفا والمروة بالسعي ، أي لا بد لكي تشرب من عين الله أن تكون صافياً كعينه ، وهذا لا يتحقق إلا بالسلوك … وتمام الري : هو عرفة أو المعرفة ، وبعدها المزدلفة ، أي : القرب ، أي : اكتشاف مدى قرب العين منا . ولهذا جاء دور الجمار الثلاث ورميها بالحصى السبع وتكلمنا عن رموزها في مجالها .
أما طوافا الإفاضة والوداع : فيمثلان مرحلة البقاء بعد الفناء ، وهي العودة إلى التبشير بما قد أفاض الله على عبده من علوم الغيب »(7) .
______________
الهوامش
[1] – الإمام الغزالي – إحياء علوم الدين – ج 1ص 265 – 272 .
[2] – ورد بصيغة أخرى في صحيح ابن حبان ج: 9 ص: 447 ، انظر فهرس الأحاديث . [3] – الشيخ ابن عربي – الفتوحات المكية – سفر 10 فقرة 113 – 114 – 115 .
[4]- د . إبراهيم بسيوني – نشأة التصوف الإسلامي – ص 251 – 252 .
[5] – الكهف : 82 .
[6] – الطلاق : 2 .
[7] – محمد غازي عرابي – النصوص في مصطلحات التصوف – ص 87 – 90 .
المصدر : السيد الشيخ محمد الكسنزان الحسيني – موسوعة الكسنزان فيما اصطلح عليه اهل التصوف والعرفان – ج5 – مادة ( ح ج ج ) .