خليفة مشتاق هيلان
من العلماء العاملين الذين أفاضوا في بيان هذه الحقيقة نقلا وعقلا الإمام جلال الدين السيوطي حيث أفرد رسالة في هذا الشأن أثبت فيها هذا الأمر ، وكان مما قاله ( رحمه الله ) مستفتحا : كثر السؤال عن رؤية أرباب الأحوال للنبي صلى الله عليه وسلم في اليقظة وإن طائفة من أهل العصر ممن لا قدم لهم في العلم بالغوا في إنكار ذلك والتعجب منه وادعوا أنه مستحيل فألفت هذه الكراسة في ذلك وسميتها ( تنوير الحلك في إمكان رؤية النبي والملك ) . ومما جاء فيها التنبيهات الآتية :
الأول :
أكثر ما تقع رؤية النبي صلى الله عليه وسلم في اليقظة بالقلب ثم يترقى إلى أن يرى بالبصر .. لكن ليست الرؤية البصرية كالرؤية المتعارفة عند الناس من رؤية بعضهم لبعض وإنما هي جمعية حالية وحالة برزخية وأمر وجداني لا يدرك حقيقته إلا من باشره .
وعن الشيخ عبد الله الدلاصي : فلما أحرم الإمام وأحرمت أخذتني أخذة فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأشار بقوله أخذه إلى هذه الحالة .
الثاني :
هل الرؤية لذات المصطفى صلى الله عليه وسلم بجسمه وروحه أو لمثاله؟ الذين رأيتهم من أرباب الأحوال يقولون بالثاني وبه صرح الغزالي فقال : ليس المراد أنه يرى جسمه وبدنه بل مثالا له صار ذلك المثال آلة يتأدى بها المعنى الذي في نفسه .
قال : والآلة تارة تكون حقيقة وتارة تكون خيالية والنفس غير المثال المتخيل فما رآه من الشكل ليس هو روح المصطفى صص ولا شخصه بل هو مثال له على التحقيق . قال : ومثل ذلك من يرى الله تعالى في المنام فإن ذاته منزهة عن الشكل
والصورة . ولكن تنتهي تعريفاته إلى العبد بواسطة مثال محسوس من نور أو غيره ويكون ذلك المثال حقا في كونه واسطة في التعريف فيقول الرائي : رأيت الله في المنام ، لا يعني أني رأيت ذات الله ، كما تقول في حق غيره .
وفصل القاضي أبو بكر بن العربي فقال : رؤية النبي صلى الله عليه وسلم بصفته المعلومة إدراك على الحقيقة ، ورؤيته على غير صفته إدراك للمثال . وهذا الذي قاله في غاية الحسن ولا يمتنع رؤية ذاته الشريفة بجسده وروحه ، وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء أحياء ردت إليهم أرواحهم بعد ما قبضوا ، وأذن لهم بالخروج من قبورهم والتصرف في الملكوت العلوي والسفلي . وقد ألف البيهقي جزءا في حياة الأنبياء . وقال في دلائل النبوة : الأنبياء أحياء عند ربهم كالشهداء. وقال في كتاب (الاعتقاد ) :الأنبياء بعد ما قبضوا ردت إليهم أرواحهم فهم أحياء عند ربهم كالشهداء . وقال الأستاذ أبو منصور عبد القاهر بن طاهر البغدادي :المتكلمون المحققون من أصحابنا ، أن نبينا صلى الله عليه وسلم حي بعد انتقاله ، وأنه يبشر بطاعات أمته ويحزن بمعاصي العصاة منهم ، وأنه تبلغه صلاة من يصلي عليه من أمته . وقال : إن الأنبياء لا يبلون ولا تأكل الأرض منهم شيئا . وقد مات موسى في زمانه فأخبر نبينا صلى الله عليه وسلم أنه رآه في قبره مصليا. وذكر في حديث المعراج أنه رآه في السماء الرابعة ورأى آدم وإبراهيم وإذا صح لنا هذا الأصل ، قلنا : نبينا صلى الله عليه وسلم قد صار حيا بعد انتقاله وهو على نبوته انتهى. وقال القرطبي في (التذكرة ) في حديث الصعقة نقلا عن شيخه : الموت ليس بعدم محض وإنما هو انتقال من حال إلى حال ، ويدل على ذلك أن الشهداء بعد قتلهم وموتهم أحياء يرزقون فرحين مستبشرين . وهذه صفة الأحياء في الدنيا وإذا كان هذا في الشهداء ، فالأنبياء أحق بذلك وأولى . وقد صح أن الأرض لا تأكل أجساد الأنبياء ، وأنه صلى الله عليه وسلم اجتمع بالأنبياء ليلة الإسراء في بيت المقدس وفي السماء ، ورأى موسى قائما يصلي في قبره وأخبر صلى الله عليه وسلم : أنه يرد السلام على كل من يسلم عليه إلى غير ذلك ، مما يحصل من جملته القطع بأن موت الأنبياء إنما هو راجع إلى أن غيبوا عنا بحيث لا ندركهم ، وإن كانوا موجودين أحياء ، وذلك كالحال في الملائكة ، فإنهم موجودين أحياء ، ولا يراهم أحد من نوعنا إلا من خصه الله تعالى بكرامته انتهى. وأخرج البيهقي في كتاب ( حياة الأنبياء ) عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( الأنبياء أحياء في قبورهم يصلون )، وأخرج البيهقي عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( أن الأنبياء لا يتركون في قبورهم بعد أربعين ليلة ولكنهم يصلون بين يدي الله تعالى حتى ينفخ في الصور ). وذكر أبو الحسن بن الزاغوني الحنبلي في بعض كتبه حديثا ( أن الله لا يترك نبيا في قبره أكثر من نصف يوم ) . وقد دل على ذلك تصريح الشارع وإيماؤه ومن القرآن قوله تعالى : ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون فهذه الحالة وهي الحياة في البرزخ بعد الموت ، حاصلة لآحاد الأمة من الشهداء وحالهم أعلى وأفضل ممن تكن له هذه الرتبة ، لا سيما في البرزخ ، ولا تكون رتبة أحد من الأمة أعلى من رتبة النبي صلى الله عليه وسلم ، بل إنما حصل لهم هذه الرتبة بتزكيته وتبعيته ، وأيضا فإنما استحقوا هذه الرتبة بالشهادة والشهادة حاصلة للنبي صلى الله عليه وسلم على أتم الوجوه وقال عليه الصلاة والسلام : ( مررت على موسى ليلة أسري بي عند الكثيب الأحمر وهو قائم يصلي في قبره ). وهذا صريح في إثبات الحياة لموسى عليه السلام فإنه وصفه بالصلاة وأنه كان قائما ، ومثل هذا لا يوصف به الروح وإنما وصف به الجسد، وفي تخصيصه بالقبر دليل على هذا فإنه لو كان من أوصاف الروح لم يحتج لتخصيصه بالقبر فإن أحدا لم يقل : أن أرواح الأنبياء مسجونة في القبر مع الأجساد وأرواح الشهداء أو المؤمنين في الجنة. وفي حديث ابن عباس سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين مكة والمدينة فمررنا بواد فقال : ( أي واد هذا ) فقالوا : وادي الأزرق فقال : ( كأني أنظر إلى موسى واضعاً أصبعيه في أذنيه له جؤار إلى الله بالتلبية مارا بهذا الوادي ) ثم سرنا حتى أتينا على ثنية قال : ( كأني أنظر إلى يونس على ناقة حمراء عليه جبة صوف مارا بهذا الوادي ملبيا ) ، سئل هنا كيف ذكر حجهم وتلبيتهم وهم أموات وهم في الأخرى وليست دار عمل ، وأجيب بأن الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون فلا يبعد أن يحجوا ويصلوا ويتقربوا بما استطاعوا ، وأنهم وإن كانوا في الأخرى فإنهم في هذه الدنيا التي هي دار العمل حتى إذا فنيت مدتها وأعقبتها الأخرى التي هي دار الجزاء انقطع العمل. هذا لفظ القاضي عياض فإذا كان القاضي عياض يقول أنهم يحجون بأجسادهم ويفارقون قبورهم فكيف يستنكر مفارقة النبي صلى الله عليه وسلم لمقامه فإن النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان حاجا وإذا كان مصليا بجسده في السماء فليس مدفونا في القبر انتهى . فحصل من مجموع هذا النقول والأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم حي بجسده وروحه وأنه يتصرف ويسير حيث شاء في أقطار الأرض وفي الملكوت وهو بهيئته التي كان عليها قبل انتقاله ، لم يتبدل منه شيء ، وأنه مغيب عن الأبصار كما غيبت الملائكة مع كونهم أحياء بأجسادهم ، فإذا أراد الله رفع الحجاب عمن رآه على هيئته التي هو عليها ، لا مانع من ذلك ولا داعي إلى التخصيص برؤية المثال. الثالث: سئل بعضهم كيف يراه الراؤن المتعددون في أقطار متباعدة فأنشد :
كالشمس في كبد السماء وضوؤها
يغـــشى البلاد مـشارقاً ومغـارباً
وفي مناقب الشيخ تاج الدين بن عطاء عن بعض تلامذته قال : حججت فلما كنت في الطواف ، رأيت الشيخ تاج الدين في الطواف فنويت أن أسلم عليه إذا فرغ من طوافه ، فلما فرغ من الطواف جئت فلم أره ، ثم رأيته في عرفة كذلك ، وفي سائر المشاهد كذلك ، فلما رجعت إلى القاهرة سألت عن الشيخ فقيل لي : طيب فقلت : هل سافر قالوا لا . فجئت إلى الشيخ وسلمت عليه فقال لي : من رأيت فقلت : يا سيد رأيتك فقال : يا فلان الرجل الكبير يملأ الكون ، لو دعي القطب من حجر لأجاب . فإذا كان القطب يملأ الكون فسيد المرسلين صلى الله عليه وسلم من باب أولى . وقد تقدم عن الشيخ أبي العباس الطنجي أنه قال وإذا بالسماء والأرض والعرش والكرسي مملوءة من رسول الله صلى الله عليه وسلم . الرابع : قال قائل يلزم على هذا أن تثبت الصحبة لمن رآه . والجواب أن ذلك ليس بلازم . أما إن قلنا بأن المرئي المثال ، فواضح ، لأن الصحبة إنما تثبت برؤية ذاته الشريفة جسدا وروحا. وإن قلنا المرئي الذات فشرط الصحبة أن يراه وهو في عالم الملك وهذه رؤية وهو في عالم الملكوت ، وهذه الرؤية لا تثبت صحبته. ويؤيد ذلك أن الأحاديث وردت بأن جميع أمته عرضوا عليه فرآهم ورأوه ، ولم تثبت الصحبة للجميع لأنها رؤية في عالم الملكوت فلا تفيد صحبته .
المصدر :- مشاركة من الكاتب .