إن الطريقة تقوم في ذاتها على
أساسين رئيسيين :
1. التجربة الروحية الباطنة بين العبد وربه .
2. الفناء .
أما الأساس الأول فهو تجربة روحية لا تخضع الى العقل المنطقي وفيها تتحد الذات والموضوع وتقوم فيها البوادر واللوائح واللوامع مقام التصورات والأحكام والقضايا في النطق العقلي ، اذ المعرفة فيها معاشة لا متأملة ، ويغمر صاحبها شعور عارم بقوة تضطرم فيه وتغمره كفيض من النور الباهر ، أو يغوص فيها كأمواج العميقة ويبدو له أيضا إن قوى عالية قد غزته وشاعت في كيانه الروحي ، وما هذا إلا نفحات روحية علوية ، ولهذا يشعر السالك بإثراء في كيانه الروحي وتحرر في أفكاره وخواطره وهيجان لطاقات كامنة تغور في أعماق نفسه . وأما الأساس الثاني فمهم جدا في مفهوم الطريقة وإلا كانت مجرد أخلاق دينية تقوم على توكيد المطلق او الموجود الحق ، او الموجود الواحد الأحد الذي يضم في حضنه كل الموجودات . إن الفناء والاتصال متفاوت في المراتب الى أن يصل المريد الى الفناء الأعظم قال تعالى: ( كل شيء هالك إلا وجهه)(1) وقد بين مشايخ الطريقة قدس الله أسرارهم مدارج الفناء لسالكي نهج الطريقة وهي: 1. الفناء في الشيخ : ويعتمد هذا الفناء على الإتباع الكامل لشيخ الطريقة من قبل المريد مقتديا بأعماله مستسلما بكليته لحوله ، قال تعالى :قل إن كنـتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله(2) وقال تعالى: (وأفوض أمري الى الله إن الله بصير بالعباد)(3) وان تفويض الأمر الى الشيخ هو تفويض لأمر الله تعالى بلا شك .
وقد أكد الإمام الغزالي إن على المريد أن يتفانى في شيخه ويحترمه ظاهرا وباطنا ، واحترام الظاهر أن لا يجادله ولا يشتغل بالاحتجاج منه في كل مسألة ، واحترام الباطن هو أن كل ما يسمعه ويقبله من شيخه في الظاهر لا ينكره في الباطن لا نقلا ولا قولا لئلا يتسم بالنفاق ، حيث إن شيخ الطريقة مرشد مرب يخرج الأخلاق السيئة من المريد ويجعل مكانها خلقا حسنا ، وقد وضع الإمام الغزالي معنى التربية هذه .
فقال : (ومعنى التربية يشبه فعل الفلاح الذي يقلع الشوك ويخرج النباتات الخشنة من بين الزرع ليحسن نباته ويكمل ريعه ، أي إن تربية المريد تكون من خلال شيخ يؤدبه أشبه بشجرة تنبت بنفسها من غير غارس فانها تورق ولا تـثمر … ويجوز إنها تـثمر كالأشجار التي في الأودية والجبال ولكن لا يكون لفاكهتها طعم فاكهة البساتين ) (4) ، فاذا كانت الشجرة في البستان يتعهدها البستاني بالرعاية والعناية ، فكذلك المريد بين يدي شيخه يرشده ويهديه ويعرفه طريق المواجيد ويـبصره بآفات النفوس وفساد الأعمال ومداخل العدو ، فاذا كان المريد صادقا (دخل تحت حكم الشيخ وصحبه وتأدب بآدابه يسري من باطن الشيخ حال الى باطن المريد كسراج يقتبس من سراج … فبالتآلف الإلهي يصير بين الصاحب والمصحوب امتزاج وارتباط بالنسبة الروحية والطهارة الفطرية ) (5) .
والمريد الصادق كما يراه الشيخ نجم الدين البكري هو :
( … أن يكون زاده التقوى ، وبضاعته الإفلاس ، وسفره الى الآخرة ، ومراحله الأنفاس ، ومنازله القبر ، وصاحبه اليقين ، وتدبيره العجز ، وحركاته السكون ، وبيته الخلوة ولباسه الفقر ، ونومه محاسبة العمر ، وركبته وسادته ، ومسجده مجلسه ، إن درس فعلوم الحكمة ، وان نظر فنظرة العبرة ، رفيقه التوفيق ، وسمته حسن الخلق ، ومعلمه القناعة وصومه الصمت ، وهمته خوف النار ، وفرحه بالله لا بالجنة ، وصحته اليأس من الخلق ، كما ان مرضه الطمع فيهم ، وواعظه الموت والمقابر ، والأيام والليالي ومطربه الحزن على تفريطه في أوقات عمره في غير مرضاة الله ، ونيته الجازمة رفض الدنيا أبدا ما عاش ، وسلاحه الوضوء ، وركبه الورع ، وخصمه النفس والشيطان ، وسجنه الدنيا ، وسجانه الهوى ، ليله تضرع ، نهاره استغفار ، حصنه دينه ، وشعاره شرعه ، ومحدثه كتاب ربه ، ورأس ماله الظن بربه ، وحرفته كثرة الصلاة على رسول الله الذي هداه الله به ، فهو الشيخ الحقيقي ولجميع الأمة فهذا هو المريد الصادق ) (6) .
فاذا كان المريد هكذا تكون طاعته لشيخه طاعة مطلقة ، ويكون بين يدي شيخه
كالأعمى الماشي على شاطئ النهر ، كالميت بين يدي غاسله .
ويصف اليافعي صعوبة الطريق ووعورة مسالكه بحكاية عن أحد المريدين الذي طلب من شيخه مثالا يصور له فيه ذلك الطريق فجعل الشيخ عسلا في إناء وجعل فوقه صبرا ، وقال اشرب هذا فشرب الصبر وصبر على مرارته واكره النفس على ذلك ، ولم يزل يشربه مع مقاساة شدة المرارة وتململ النفس وتحميلها ما لا تطيق الى ان نفذ الصبر وانتهى الى العسل ، فلما ذاقه أراد ان يأخذ الإناء منه ، فقال له المريد : يا سيدي من شرب المر شرب الحلو ، فقال له الشيخ : صدقت ، وتركه حتى شربه .
وإذا كانت الإرادة عتبة الطريق في هذا السفر الروحي ، فغالبا ما يجد المريد نفسه منجذبا لذلك السفر ومدفوعا إليه ، كما حصل لإبراهيم بن أدهم ورابعة العدوية ، والغزالي ، ولنـتابع الغزالي حيث يصور لنا حالة بين مقامي الاختيار والاضطرار ، الى ان بلغ درجة الانجذاب ولم يعد له معها أية إرادة فصارت شهوات الدنيا تجاذبني بسلالها الى المقام ، ومنادي الأيمان ينادي الرحيل ، الرحيل فلم يبق من العمر إلا قليل ، وبين يديك السفر الطويل ، وجميع ما أنت فيه من العلم رياء وتخيل ، فان لم تستعد الآن للآخرة فمتى تستعد ؟ وان لن تقطع الآن هذه العلائق فمتى تقطع ؟ فعند ذلك تنبعث الداعية ، وينجزم العزم على الهرب والفرار … فلم أزل أتردد بين تجاذب شهوات الدنيا ودواعي الآخرة قريبا من ستة اشهر أولها رجب سنة ثمان وثمانين وأربع مائة ، وهذا الشهر جاوز الأمر حد الاختيار الى الاضطرار… .
ويتابع الغزالي وصف الصراع الذي اتقد في خاطره بين علائق الدنيا التي تشده وبين انجذابه الى طريق السلوك الذي كانت له الغلبة ودخول المريد في السفر الصوفي أشبه بالولادة ، لكنها ولادة معنوية وليست طبيعية ، فالولادة الأولى يصير – المريد – له ارتباط بعالم الملك ، وبهذه الولادة يصير له ارتباط بعالم الملكوت … فالولادة تطرق الى الفناء والولادة المعنوية محمية من الفناء لأنها وجدت من شجرة هي شجرة العلم لا شجرة الحنطة .
ان مشيخة الطريقة ما هي إلا أمر اختصاص رباني ، فليس كل عالم هو مرشد بل هناك لشيخ الطريقة اذن رباني ، قال تعالى: (وداعيا الى الله بإذنه )(7) ، وقال تعالى: (من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا)(8) ، وقال تعالى: (واصطنعتك لنفسي)(9) ، وقال تعالى: (إني جاعل في الأرض خليفة)(10) ، وقال تعالى: (وكل شيء أحصيناه في إمام مبين)(11) ، فشيخ الطريقة هو المأذون من الله تعالى ، والولي المرشد ، وهو من أهل الصنع الخصوصي ، وخليفة الله في الأرض ، وجامع للأسرار الروحية ، ومتصل بالتتابع لسيدنا المصطفى بسلسلة مشايخ الطريقة الروحية قدس الله أسرارهم أجمعين .
-ان ثمرة الأتباع الكامل للمريد ظاهرا وباطنا لشيخ الطريقة -الفناء بشيخه- هي تلذذ المريد بقبس الأنوار الروحية التي تغزو قلبه من شيخه وان هذا الفناء يتحول بدوره الى قنطرة الفناء التالية.
– الفناء بالرسول الأعظم ﷺ، إذ يتحول هذا الفناء الى مرحلة الفناء التالية .
– الفناء في الله تعالى .
ومن هنا كانت الطريقة سلما صاعدا ذا درجات نهاياتها عند الذات العلية ، وسفرا يرقى في معارج حتى ذروة الفناء الأعظم (الفناء في الله) والتطور في هذا السبيل واضح مستقيم من فكرة العشق الإلهي عند أهل الطريقة أمثال رابعة العدوية في النصف الثاني من القرن الثاني الهجري حتى مقولة الحلاج المشهورة (أنا الحق) في نهاية القرن الثالث الهجري ، فكان ذلك على أساس اتحاد المطلق او على الأقل إيجاد صلة وعشق يسمو بصاحبه الى الفناء بالذات العلية .
الهوامش :
[1] – سورة القصص – الآية 88.
[2] – سورة آل عمران – الآية 31.
[3] – سورة غافر – الآية 44 .
[4] – من كلام الشيخ أبي علي الدقاق ، ورد في تعليق على كتاب المنقذ من الضلال للغزالي .
[5] – المصدر نفسه والصفحة نفسها .
[6] – الأنوار القدسية ، للشيخ عبد الوهاب الشعراني ص92- 93.
[7] – سورة الأحزاب- الآية 64.
[8] – سورة الكهف- الآية 17.
[9] – سورة طه- الآية 41.
[10] – سورة البقرة- الآية 30.
[11] – سورة يس- الاية 12.
المصدر : السيد الشيخ محمد الكنزان الحسيني – كتاب الطريقة العلية القادرية الكسنزانية – ص 82-86 .