ذكر ابن عجيبة في تفسيره ( البحر المديد ) أن الحق تبارك وتعالى يقول : وما كان الناس إلا أمةً واحدةً موحَّدين ، على الفطرة الأصلية ، أو متفقين على الحق ، وذلك في عهد آدم ، إلى أن قتل قابيل أخاه هابيل ، أو بعد الطوفان إلى زمان اختلافهم ، أو الأرواح حيث استخرجهم واستشهدهم ، فاتفقوا على الإقرار ، ثم اختلفوا ، في عالم الأشباح باتباع الهوى والأباطيل ، أو ببعثة الرسل فتبعتهم طائفة وكفرت أخرى .ولولا كلمة سبقتْ من ربك في اللوح المحفوظ ، بتأخير الحكم ، أو العذاب الفاصل بينهم إلى يوم القيامة ، فإنه يوم الفصل والجزاء ، لقُضي بينهم عاجلاً فيما فيه يختلفون بإهلاك المُبْطِل وإبقاء المحق .
والإشارة في هذه الآية هي : اختلاف الناس على الأولياء كاختلافهم على الأنبياء ، أمر سبق به الحكم الأزلي لا محيد عنه ، فمن طلب اتفاقهم عليه فهو جاهل بالله وبطريق أهل الله .
وقال في قوله تعالى : فتقطعوا أمرهم بينهم . . . إلخ ، الاختلاف ، إن كان التوحيد وما يرجع إليه من أصول العقائد ، فهو مذموم ، وهو الذي نعاه الله على الكفرة المتحزبة ، وأمَّا إن كان في الفروع فهو مشروع ، كاختلاف الشرائع والمذاهب ، ولذلك قال – عليه الصلاة والسلام- : « اختلاف أمتي رحمة » ، وقال بعض الصوفية : ما زالت الصوفية بخير ما تنافروا ، فإن توافقوا فلا خير فيهم ، والمراد بالتنافر – في حقهم – التناصح ، وإنكار بعضهم على بعض؛ إذا رأى من أحد عيباً ، فإن سكتوا عن بعضهم ، وتوافقوا على مساوئ بعضهم بعضاً ، فلا خير فيهم ، وأما قلوبهم فهي متوافقة مؤتلفة .
يقول الحقّ جلّ جلاله : ولا تكونوا كاليهود والنصارى الذين تفرقوا في التوحيد والتنزيه ، واختلفوا في أحوال الآخرة ، قال ﷺ : « افْتَرقَتِ اليَهُودُ على إِحْدَى وسَبْعِين فرقَةً ، وافْتَرقَت النَّصارَى عَلَى ثَنْتَيْنِ وسَبْعِين فِرقَةٌ ، وستفترق أمتي على ثلاثٍ وسَبْعِينَ فِرْقةً ، كلُّها في النَّارِ إلا وَاحِدةً ، قيل : ومَنْ تلك الواحدة؟ قال : ما أَنَا وأَصْحابِي عَلَيْه » وهذا الحديث أصح مما تقدم ، والصحابة يروْوُن الحديث بالمعنى ، فلعلَّ الأول نسي بعض الحديث .
ثم إن النهي مخصوص بالتفرق في الأصول دون الفروع ، لقوله عليه الصلاة والسلام : « اخْتلاَفُ أُمَّتِي رَحْمَةٌ » ، ولقوله : « من اجْتَهَدَ وأصَابَ فله أجْرَانِ ، ومن اجْتَهدَ وأخطَأَ فَلَهُ أجْرٌ وَاحد » .
والإشارة هنا هي : أنه قد نهى الله (عز وجل) أهل الجمع عن التشبه بأهل الفرق ، في اختلاف قلوبهم ووجوههم وآرائهم وأنظارهم ، من بعد ما جاءتهم الدلائل الواضحات على طلب جمع القلب على الله ، والتودد في الله ، وصرف النظرة في شهود الله ، وأولئك المفترقون لهم عذاب عظيم ، وأيّ عذاب أعظم من الحجاب ؟ يوم تبيض وجوه العارفين ، فتكون كالشمس الضاحية ، يسرحون في الجنان حيث شاءوا ، وتسود وجوه الجاهلين ؛ لما يعتريها من الندم ، وسوادها باعتبار وجوه العارفين في النقص عنها ، وإن كانت مُبْيَضَّةً بنور الإيمان ، لكن فاتهم نور الإحسان ، فيقال : أكفرتم بالخصوصية في زمانكم ، بعد إيمانكم بها فيمن سلف قبلكم؟ فذوقوا عذاب القطيعة عن شهود الحبيب في كل حين ، وأما الذين ابيضت وجوههم وأشرقت بنور البقاء ، ففي رحمة الله ، أي : جنة المعارف (في مَقْعَدٍ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِر ) [ القَمَر : 55 ] ، فقد اتضحت الطريق ، وظهرت أعلام التحقيق ، لكن الهداية بيد الله ، كما أنَّ الأمور كلها بيده ، يهدي مَن يشاء ويضل من يشاء ، وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَمٍ لِّلْعَبِيدِ [ فُصّلَت : 46 ] .
قال السخاوي في المقاصد : عن ابن عباس بلفظ : قال رسول الله ﷺ : ( مهما أوتيتم من كتاب الله فالعمل به لا عذر لأحد في تركه ، فإن لم يكن في كتاب الله فسنة مني ماضية ، فإن لم تكن سنة مني فما قال أصحابي ، إن أصحابي بمنزلة النجوم في السماء فأيما أخذتم به اهتديتم ، واختلاف أصحابي لكم رحمة ) .
وعن عمر بن عبد العزيز أنه كان يقول : ما سرني لو أن أصحاب محمد (ﷺلم يختلفوا ، لأنهم لو لم يختلفوا لم تكن رخصة .
قال الحافظ ابن حجر عن حديث ( اختلاف أمتي رحمة ) أنه حديث مشهور على الألسنة وقد أورده ابن الحاجب في المختصر في مباحث القياس بلفظ : ( اختلاف أمتي رحمة للناس ) وكثر السؤال عنه وزعم الكثير من الأئمة أنه لا أصل له لكن ذكره الخطابي في غريب الحديث مستطرداً ، فقال : اعترض هذا الحديث رجلان أحدهما ماجن والآخر ملحد وهما إسحاق الموصلي وعمرو بن بحر الجاحظ ، وقالا : لو كان الاختلاف رحمة لكان الاتفاق عذاباً ، ثم تشاغل الخطابي برد كلامهما ولم يشف في عزو الحديث لكنه أشعر بأنه له أصلا عنده ، ثم قال الخطابي : والاختلاف في الدين ثلاثة أقسام : الأول في إثبات الصانع ووحدانيته ، وإنكاره كفر ، والثاني في صفاته ومشيئته ، وإنكارهما بدعة ، والثالث في أحكام الفروع المحتملة وجوهاً ، فهذا جعله الله رحمة وكرامة للعلماء ، وهو المراد بحديث (اختلاف أمتي رحمة) .
وقال النووي في شرح مسلم : ولا يلزم من كون الشئ رحمة أن يكون ضده عذاباً ، ولا يلتزم هذا ويذكره إلا جاهل أو متجاهل ، وقد قال الله (عز وجل) : ومن رحمته جعل لكم الليل لتسكنوا فيه فسمى الليل رحمة ، ولا يلزم من ذلك أن يكون النهار عذاباً ، ومثله يقال فيما رواه ابن أبي عاصم في السنة عن أنس مرفوعا : لا تجتمع أمتي على ضلالة . وهذا يدل على أن المراد اختلافهم في الأحكام الفرعية ، وقيل في الحرف والصنائع ، والأصح الأول فقد أخرج الخطيب في رواة مالك عن إسماعيل بن أبي المجالد قال : قال هارون الرشيد لمالك بن أنس : يا أبا عبد الله نكتب هذه الكتب ، يعني مؤلفات الإمام مالك ، ونفرقها في آفاق الإسلام لنحمل عليها الأمة ، فقال: يا أمير المؤمنين إن اختلاف العلماء رحمة من الله تعالى على هذه الأمة كل يتبع ما صح عنده وكل على هدى وكل يريد الله تعالى .