محيي الدين حسين يوسف الإسنوي
شد قومٌ كتب الله تعالى لهم الحج رحالهم للأرض المقدسة، وقد تحقق فيهم أعظم معاني العبودية لله تعالى، قد أجابوا نداء الخليل إبراهيم: (وأذن في الناس بالحج)، وامتثلوا قول الحق: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً }.
فخرجوا من بيوتهم إلى ربهم مهاجرين، لأموالهم وأهلهم تاركين، من مخيط ثيابهم ومناصبهم متجردين، أحرموا لله، قد حسرت رؤوسهم، وصفت نفوسهم، وخشعت قلوبهم، وبالدمع سالت عيونهم، ألسنتهم رطبة من ذكر الله، تسبح وتلبي المخلوقات بتسبيحهم وتلبيتهم، فاجتمعوا في يوم الحج الأكبر، يوم المؤتمر الأعظم، يرجون رحمة الله ويخافون عذابه.
يا سائراً نحو النبي مشمراً
اجهد فديتك في المسير وفي السرى
وتذرع الصبر الجميل ولا تكن
في مطلب المجد الاثيل مقصرا
وتوخ اثار النبي فضع بها
متشرفا خديك في عفر الثرى
واعلم بأنك ما رأيت شبيهها
مذ كنت في ماضي الزمان ولا يرى
وعلى جانب آخر وقف قوم بين يدي الحق تعالى، لم يكتب لهم المسير إلى هذا الموقف العظيم، هزهم الحب والشوق إلى لقاء الله والذين آمنوا أشد حباً لله، كما قال الإمام الغزالي رحمه الله تعالى: «فالشوق إلى لقاء الله عز وجل يُشَوِّقُه إلى أسباب اللقاء لا محالة، هذا مع أن المحب مشتاق إلى كل ما له إلى محبوبه إضافة … والبيت مضاف لله عز وجل، فبالحري أن يشتاق إليه لمجرد هذه الإضافة، فضلا عن الطلب لنيل ما وعد عليه من الثواب الجزيل». وهذا الحب والشوق المتأجج في القلوب لا تسكن جَذوتُه إلا بمُشَاهَدٍ يوجِّه المحب إليه أشواقَه، ويقضي به حنينه ويذَكِّرُه بالمحبوب سبحانه. وإذ قد منعهم العذر عن شد رحال الأجساد، توجهت قلوبهم وأرواحهم للقاء محبوبهم، وتعلقت بالبيت والمشاعر، فعظموها كما أمر الله { ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب}، كلما ذكر لهم البيت والمشاعر حنوا، وكلما تذكروا بعدهم بكوا وأنوا، ويحق لمن رأى الواصلين وهو منقطع أن يقلق، ولمن شاهد السائرين إلى دار الأحبة وهو قاعد أن يحزن، غبطة لمن وصلهم الله لا حسدا، لسان حالهم يقول:
لله در ركائب سارت بهم
تطوي القفار الشاسعات على الدجى
رحلوا إلى البيت الحرام وقد شجا
قلب المتيم منهم ما قد شجا
نزلوا بباب لا يخيب نزيله
وقلوبهم بين المخافة والرجا
وألسنتهم تردد قول الشاعر المحب:
يا راحلين إلى منى بقيادي
هيجتموا يوم الرحيل فؤادي
سرتم و سار دليلكم يا وحشتي
الشوق أقلقني وصوت الحادي
وما أرق وأجمل قول الشاعر:
ألا قل لزوار دار الحبيب
هـنيئا لكم في الجنان الخلود
أفيضوا علينا من الماء فيضا
فنحن عطاش وأنتم ورود
والمتخلف لعذر لا شك أنه شريك للسائر في الأجر، ففي صحيح البخاري عن أنس رضي الله عنه أن النبي كان في غزاة فقال: إن أقواماً بالمدينة خلفنا ما سلكنا شعبا ولا واديا إلا وهم معنا فيه حبسهم العذر. ورحم الله ابن العريف إذ يقول:
شدوا المطىّ، وقد نالوا المنى بمنى
وكلهم بأليم الشوق قد باحا
سارت رواكبهم تندى روائحها
طيبا بما طاب ذاك الوفد أشباحا
نسيم قبر النبي المصطفى لهم
روح اذا شربوا من ذكره راحا
يا واصلين الى المختار من مضر
زرتم جسوما وزرنا نحن أرواحاً
إنا اقمنا على عذروعن قدر
ومن اقام على عذر كمن راحا
وقال آخر:
يا سائرين الى الحبيب ترفقوا
فالقلب بين رحالكم خلفته
مالي سوى قلبي وفيك أذبته
مالي سوى دمعي وفيك سكبته
ثم:
هذه الخيف و هاتيك منى
فترفق أيها الحادي بـنا
سار قلبي خلف أحمالكم
غير أن العذر عاق البدنا
ولأهل الله تعالى من حج القلوب والأرواح النصيب الأوفر والقدر الأكبر، وربما خرقت العوائد فرآهم الناس، وربما وكل الله تعالى من ملائكته من يحج عنهم، وقد ذكر ذلك في كتب القوم عن كثير من الصالحين، ومن ذلك ما أورده الإمام السيوطي في كتابه (تنوير الحلك في جواز رؤية النبي والملك)، أن بعض تلاميذ الشيخ تاج الدين ابن عطاء رأى الشيخ في الطواف وفي عرفة وسائر المشاهد، فلما رجع إلى القاهرة سأل عن الشيخ فقيل لي: طيب.
فقلت: هل سافر ؟
قالوا: لا ، فجاء إلى الشيخ .
فقال له الشيخ: من رأيت؟
فقال: يا سيدي رأيتك، فقال: يا فلان الرجل الكبير يملأ الكون . وإن قصيدة شيخنا الإمام الرائد رحمه الله تعالى التي سماها (لون من حج القلوب) لتحمل بين طياتها الكثير من الأسرار والأنوار، وذلك أنه حدا به الشوق فسار قلبه مع الركبان، فكان مما قال:
لـلناس موسم حج واعتمار تُقى
وموسمي كل أدهاري وأعوامي
هم يحرمون لايام مقدرة
ومحرم أنا أوقاتي وأيامي
أصاحب الركب إن حلوا وإن ظعنوا
سيرا بقلبي لا سيراً بأقدامي
أغيب في عَدَد من بعده مدد
مقدس دونه علمي و أعلامي
أطوف بالروح، أو أسعى وأكرع من
أمواه زمزم، شأن الهائم الظامي
وأقبس النار والأنوار عند منىً
وأشهد الغيب في وجدي وتهيامي
وفي ربى عرفات لله معرفتي
بالله في مشهدي نجوى وإلهام
وفي الزيارة للمختار يغمرني
من سره فيض تكريمي وإكرامي
هنا من الغيب شيء لا أبوح به
حقٌ من الحق لا وهم بأوهام
وقد يراني أحبائي هناك وما
فارقت داري بعجزي أو بآثامي
مـنهم ذهابٌ وعود دائبٌ وأنا
ما بين روضة طه والحطيم مقامي
والروح من عالم الإطلاق أكبر من
حـد وقيـد وأزمان وأحكام
ولشيخنا الإمام الرائد رحمه الله – أيضاً – قطعة أدبية رائقة حول حال أهل الشوق عنوانها: (ذكروني فذكرت)، ضمنها أبياتاً للإمام السيد إبراهيم الخليل ، نقتطف منها قول شيخنا الرائد، عليه سحائب الغفران والرضوان: (… وما يزال يغلبني الحنين، ويغالبني الأنين، ويقهرني البكاء، حتى لكأن الدموع دماء، فأتعزى بقول السيد الوالد :
إن قصر المال أو إن قـصرت هممي
أحج بالروح حج الناس بالقدم
أطوف بالبيت أو أسعى على ثقة
في مشهد من مجالي الغيب مزدحم
مهـيم في أداء النسك مجتهد
تهدى الأضاحي وأهدي مهجتي ودمي
يراني الناس طيفاً ثم بينهمو
على مقامي فلم أحرم من الحرم
ثم ذكروا لي الحبيب المصطفى، ومنازلات أهل الصفا والوفا، والعفو عمن جفا وهفا، ومن كان على شفا، والمدد الممدود بين ما ظهر وما اختفى، والعطاء الموهوب فيما ثبت وما انتفى، فزاد بي الشوق، عن مدى الطوق، وغاب عن التحت والفوق…) إلى آخر ما قال، من كلام أهل الشوق والحال. أما بعد، فهؤلاء القوم علموا أن الله تعالى جعل لهم من الأعمال عظيمة الأجر في الأيام العشر، من التسبيح والتكبير والصيام، ما يجعل لهم شبهاً بوفد الله تعالى، وعن ابن عمر قال: قال رسول الله : ما من أيام أعظم عند الله سبحانه ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر؛ فأكثروا فيهن من التهليل والتحميد رواه أحمد، وأن هذه الأعمال تقوم مقام الحج والعمرة لمن عجز عنهما، بالجزاء لا بالأجزاء (إنما الأعمال بالنيات)، فليست العبرة بأعمال الجوارح فقط، وإنما الاعتبار بلين القلوب وتقواها وتطهيرها من الأدران والآثام!!!. سفر الدنيا يقطع بسير الأبدان.. وسفر الآخرة يقطع بسير القلوب مع الأبدان.. وليس الشأن أن تقوم الليل صافاً قدميك ثم تصبح مع الركب، لكن الشأن كل الشأن أن تبيت في فراشك ثم تصبح وقد سبقت الركب. لقد رأى بعض الصالحين الحجيج في وقت خروجهم فوقف يبكي ويقول: فـقلت: دعوني واتباعي ركابكم
أكن طوع أيديكم كما يفعل العبد ثم تنفس وقال: هذه حسرة من انقطع عن الوصول إلى البيت، فكيف تكون حسرة من انقطع عن الوصول إلى رب البيت؟!!
يا سائق العيس ترفق و استمع
مني و بلغ الـسلام عني
عـرض بذكري عـندهم لعلهم
إن سـمعوك سألوك عني
وفي هذا يقول ابن رجب الحنبلي رحمه الله: من فاته هذا العام المقام بعرفة، فليقم بحقه الذي عرفه. من عجز عن المبيت بمزدلفة، فليبيت عزمه على طاعة الله وقد قربه وأزلفه. من لم يمكنه القيام بأرجاء الخيف، فليقم بحق الرجاء والخوف. من لم يقدر على نحر هديه بمنى، فليذبح هواه هنا، وقد بلغ المنى. إن حُبستم العام عن الحج فارجعوا إلى جهاد النفوس، أو أُحصرتم عن أداء النسك فأريقوا على تخلفكم من الدموع ما تيسر، فإن إراقة الدماء لازمة للمحصَر، ولا تحلقوا رءوس أديانكم بالذنوب، فإن الذنوب حالقة الدين ليست حالقة الشعر، وقوموا لله باستشعار الرجاء والخوف مقام القيام بأرجاء الخيف والمشعر، ومن كان قد بعد عن حرم الله فلا يبعد نفسه بالذنوب عن رحمة الله، فإن رحمة الله قريب ممن تاب إليه واستغفر، ومن عجز عن حج البيت أو البيت منه بعيد، فليقصد رب البيت، فإنه ممن دعاه ورجاه، أقرب إليه من حبل الوريد.
_____________________
المصدر : موقع المسلم .
http://www.almoslem.net/modules.php?name=News&file=article&sid=29