بقلم مشتاق هيلان
يتساءل بعض المتنطعين من الناس : هل يجوز للمسلم أن يقول : توكلت على الله ورسوله معتقدا ذلك في نفسه ؟ وربما يبادر مجيباً عن تساؤله ، لا، لا يجوز ذلك في حق غير الله تعالى ، ولو كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ؛ لأن المسألة كما يفهمها جد خطيرة ، والمس في التوكل على هذا المنوال يعتبر مساً بالعقيدة الصحيحة ، وهذه طبعاً مغالطة كبرى، إذ كل الآيات التي تحذر من الشرك تقول : ( ألا تتخذوا من دوني وكيلا ) وكلمة ( من دون الله ) وردت كثيراً في التحذير من الشرك والعياذ بالله ، وأقول متسائلا: هل رسول الله هو رسول من الله ؟ أو رسول من دون الله ؟ فإذا كان الرسول هو رسول من الله ، فلماذا هذا التوجس من الشرك ؟ والله عز وجل قد ذكر في احدى وستين آية في القرآن العظيم عبارة ( الله ورسوله ) و ( الله والرسول ) و ( بالله ورسوله ) و ( بالله والرسول ) و ( والله ورسوله ) و ( سيؤتينا الله من فضله ورسوله ) وقال في بعض تلك الآيات ( وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله ) ألم يكن في هذه الآيات الصريحة دليل على أن الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم هو الوكيل الأعظم لله تعالى ، والذي قال عنه الشيخ عبد الكريم الجيلي (إن رسول الله كان متحققاً بصفة الوكيل ، والدليل على ذلك قوله تعالى : ( النَّبِيُّ أولَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ) فإذا كان هو أولى بهم من أنفسهم فبالضرورة يكون أولى بالتصرف فيما يملكونه منهم ، فهو الوكيل المطلق عليهم ، ولا يحتج بقوله تعالى : ( ومَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً ) فإن هذه الوكالة هي المخصوصة من جهة محاسبتهم وعقابهم والشدة عليهم ، لأنه أرسل رحمة لا نقمة )، ويقول الشيخ أبو عبد الله الجزولي أيضاً في كتاب جواهر البحار في هذا المعنى: ( الوكيل هو الحافظ لما استأمنه الله عليه ، وحافظ للشريعة ولأمته مما يضرهم … بمعنى أنه الموكول والمفوض إليه جميع الأمور والقائم بها ، ويكون على هذا فيه إشارة إلى تولية الله تعالى له التصرف في الكون على سبيل الخلافة والنيابة ، وذلك أمر ثابت قطعاً لا شك في ثبوته وحصوله للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم على وجه أخص مما ثبت لغيره ).
ولم يكن ثم داع لأن يكرر الله تعالى في كل أمر على تبعية الرسول لله ففي الاحدى والستين اية كفاية ، وإشباع لفهم المعتقد الصحيح .
ولا فرق في ذلك إذا كان حياً أو ميتاً ، ما دام الأمر يتعلق بالله ؛ لأن المعطي والمانع والضار والنافع هو الله ، وجاه الرسول باق وموجود حياً وميتاً ، وهذا معنى قول الإمام الغزالي: ( من يستغاث به حياً يستغاث به ميتاً ) لأنه حي بالله ، فهو بالله يسمع وبالله يبصر وبالله يبطش وبالله يمشي ، ولئن سأل الله ليعطينه ، ولئن استعاذ به ليعيذنه ، كما ورد في الحديث الشريف ، ومن كان هكذا ، فكيف لا يتوسل به حياً وميتاً ؟ وموته إنما هو انتقال من دار إلى دار ؟
ولقد فهم هذا المعنى حضرة الصديق رضي الله تعالى عنه ، مع إن بعض الذين في قلوبهم مرض قد اتهم الصديق ـ والعياذ بالله ـ بالشرك في هذه المسألة ، ويوجز هذا الدليل ابن عجيبة في كتابه ( إيقاظ الهمم ) فيقول : (اعلم أن متابعة العلم اختيارية ومتابعة الحال اضطرارية ، فما دام العبد معه بقية اختيار وجب عليه اتباع العلم ، وهو مقام السلوك ، فإن غلب الحال وجب اتباعه ، وهو مقام الجذب ، ومثل ذلك قضية الصديق حين أتى بماله كله ، فقال له الرسول عليه الصلاة والسلام : ما تركت لأهلك ؟ فقال : تركت لهم الله ورسوله ، ولم يلتفت لقوله صلى الله تعالى عليه وسلم في حال التشريع ( لأن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس ) ولما غلب الحال على العلم ، صار الحكم للحال ، فيا له من مقام ما أعز شأنه ، وأرفع قدره عند المحققين ).
ولنا دليل آخر حين نقارن التوكل مع التوبة ، بل مع كل المقامات التي يجب أن يتحقق بها المؤمن ، فنقول : إن قلت أن التوكل قلبي ؛ أي إنك تثق بمن تتوكل عليه في قلبك وينطقه لسانك ، فتقول: توكلت على الله ، أقول لك أن التوبة أيضاً قلبية ، وهي الندم بمعناها الشرعي والاصطلاحي وتتلفظها بلسانك ، وقد ذكر القرآن أيضاً أن التوبة تتعلق بالله فقط ، فقال : ( وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون ) ولكن بين ونبه كيف أن على المؤمنين أن يجيئوا إلى الرسول ويستغفرون الله أمامه ، ويستغفر لهم حتى تقبل توبتهم ، فقال تعالى : ( ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيما ) وفعل ( جاءوك ) مضارع مستمر لمخاطب حي موجود وهو النبي ، وهذا دليل حياته ، وأن حياته كحياة الشهداء عند ربهم ، فلقد نهانا الله تعالى أن نقول عنهم أموات وقال : ( ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون ) وذكر سبحانه نعمته عليهم بهذا الخلود وبين مراتبهم ، فقال : ( أولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ) وهذا لكيلا يتسنى لكل ناعق أن يقول : أن الرسول ميت في قبره ، وهو بافترائه هذا أبعد ما يكون عن الرسول ، وأراه قد احتمل بهتاناً وإثماً مبيناً. وفي طريقتنا العلية القادرية الكسنزانية مقام التوكل هو الإيمان بقدرة الله تعالى على إدارة الأمور، وتوجيهها ، والتصرف بالعبد كيفما يشاء سبحانه ، وعند ذلك يسلَّم العبد الأمور لله ويوكلها إليه ، وهو أوّل المقامات عندنا ، فبدون التوكل لا يدخل المريد ولا يعد سالكاً في طريق القوم ، لأنه قبل مقام التوبة .
ويقول القشيري عن التوكل هو تحقق ثم تخلق ثم توثق ثم تملق .تحقق في العقيدة ، وتخلق بإقامة الشريعة ، وتوثق بالمقسوم من القضية ، وتملق بين يديه بحسن العبودية .
وهو : تحقق وتعلق وتخلق ، تحقق بالله ، وتعلق بالله ، ثم تخلق بأوامر الله . وبعد هذا القول كله هل يتصور المسلم المؤمن أن قوله : ( توكلت على الله ورسوله ) يخرجه من التوحيد؟ .