الخليفة الاستاذ محمد هادي شهاب
إنَّ الأخبار في فضل الخوف والرجاء كثيرة ومتعددة وفي هذا الشأن سؤالٌ يطرحُ نفسَهُ
ألا وهو الخوف أفضل أم الرجاء؟ ويقول الإمام الغزالي في معرض ردِّهِ على السؤال قائلاً : سؤالٌ فاسدٌ يضاهي قـول القائل : الخبز أفضل أم الماء ؟
وجوابُهُ أن يُقال : الخبز أفضل للجائع والماء أفضل للعطشان فإن إجتمعا فهما متساويان وهذا لإنَّ كل ما يُراد لمقصود ففضلُهُ يظهر بالإضافة إلى مقصودِهِ لا إلى نفسه والخوف والرجاء دواءان تُداوى بهما القلوب فَفَضلُهما بحسب الداء الموجود فإن كان الغالب على القلب داء الأمن من مكر الله تعالى والإغترار به فالخوف أفضل وإن كان اليأس والقنوط من رحمة الله ، فالرجاء أفضل وكذلك إن كان الغالب على العبد المعصية فالخوف أفضل ويجوز أن يُقال مُطلقاً : الخوف أفضل على التأويل الذي يُقال فيه الخبز أفضل من السكنجبيل ، إذ يعالج بالخبز مرض الجوع وبالسكنجبيل مرض الصفراء ، ومرض الجوع أغلب واكثر فالحاجة إلى الخبز أكثر فهو أفضل ، فبهذا الإعتبار غلبة الخوف أفضل ، لأنَّ المعاصي والإغترار على الخلق أغلب ، وروي عن علي كرَّمَ اللهُ وجههُ أنهُ قال لبعض أولادهِ : يا بني ، خف الله خوفاً ترى أنك لو أتيتَهُ بِحسنات أهل الأرض لم يتقبلها منك وأُرجُ اللهَ رجاءً ترى أنكَ لو أتيتَهُ بسيئات أهل الأرض غـفرها لك ) (1) .
وعندما نقرأ هذا الكلام فإنّنا نذهب الى فكرة العبادة لله بالخوف أو بالرجاء وفي هذا يقول يحيى بن معاذ : ( من عَبَدَ الله تعالى بمحض الخوف غرق في بحار الأفكار ، ومن عبد الله تعالى بمحض الرجاء تاه في مفازة الإغترار ومن عبدَ الله تعالى بالخوف والرجاء معاً إستقام في محجة الإدّكار ) (2) .
وقال مكحول الدمشقي : ( من عبد الله تعالى بالخوف فهو حروري ، ومن عبد الله تعالى بالرجاء فهو مرجئ ، ومن عبد الله تعالى بالمحبة فهو زنديق ، ومن عبده بالخوف والرجاء والمحبة فهو موحِّد ) (3)
وذلك لأن الحب المجرد تتبسط فيه النفوس حتى تتوسع في أهوائها إذا لم يزعها وازع الخشية لله سبحانه وتعالى ثم يكتمل هذا العمل الصالح بالرجاء والمحبة معاً ، وغلبة الخوف هي الأصلح ولكن قبل الإشراف على الموت . وأما عند الموت فالأصلحُ غلبةُ الرَّجَاءِ وَحُسْنِ الظَّن لأن الخوفَ جارٍ مَجرى السَّوطِ البَاعِثِ عَلى العَمَلِ وَقَد إنقضى وَقْتُ العَمل ، ولأن غلبة الخوف قبل الموت أحرق لنار الشهوات وأقمع لمحبة الدنيا عن القلب ، ولذلك قال النبي الكريم ( صَلَّى اللهُ تَعَالى عَلَيْهِ وعلى اله وَسَلَّم ) :لا يموتَنَّ أحدُكُم إِلا وَهُوَ يُحسِنُ بِاللهِ الظَّن (4) .
وقال الإمام أحمد بن حنبل رضي الله تعالى عنه لإبنهِ عِنْدَ المَوْت : ( أُذْكُرْ لِيَ الأَخْبَار التي فِيهَا الرَّجَاء وَحُسْن الظَّنْ ) (5) .
والمقصود من ذلك كله أن يحبب الله إلى نفسهِ ، ولذلك أوحى الله إلى النبي موسى (عليه السلام وعلى نبينا أفضل الصلاة السلام ) أن حببني إلى عبادي . فقال : بماذا ؟ قال : بأن تذكر لهم آلائي ونعمائي ) (6) فإذاً غاية السعادة أن يموت محباً لله تعالى .
وروى ابن ماجة عن أنس أنَّ النبي دخل على شابٍّ وهو في الموت فقال : كيف تجدك ؟
فقال : أرجو الله يا رسول الله وأخاف ذنوبي .
فقال رسول اللهلا يجتمعان في قلب عبد مؤمن في مثل هذا الموطن إلا أعطاه اللهُ ما يرجو وأمَّنَهُ مِمَّا يَخَافْ (7).
وقد روى مُعْظَمُهُمْ هذا الحديث عن ثابت عن النبي(8).
(والخوف والرجاء يتمثلان بما يحمل الإنسان إلى طريق يبتغيه فعن الحسن البصري
(رضي الله تعالى عنه ) قال : الرجاء والخوف مطيتا المؤمن ) (9) .
وقال الفُضَيل :(الخوفُ أفضلُ مِنَ الرَّجَاءِ مَا دَامَ الرَّجُلُ صَحِيحَاً فَإذا نَزَلَ بِهِ الموتُ فالرَّجَاءُ أَفْضَل ) (10) .
فإذا امتزجَ خوف العبد برجائهِ عند وقت الموت فهو محمود فإنه تعالى عند ظن العبد
( أي بالغفران له إذا إستغفر والقبول إذا تاب والإجابة إذا دعا والكفاية إذا طلب وقيل المراء به الرجاء أي تأميل العفو وأنا معه حين يذكرني أي معه بالتوفيق والرحمة والهداية ) (11) .
و( روي أنّ مالكاً لقي أباناً فقال : إلى كم تحدِِّثُ الناسَ بِالرُّخَصِ ؟ فقالَ : يا أبا يحيى إني لأرجو أن ترى من عفو الله مالا تُخرِج له كساءك هذا من الفرح ) (12) .
فالخوف ليس حالة مصطنعة يفعلها الإنْسان أمام الناس فيكون خائفاً أو راجياً فالواجب علينا أن ( نعلق رجاءَنَا وَخَوْفَنَا جَمِيعَاً بإرَادَتِهِ وَهَذَا يُحَقِّق لَنَا التَّوَكُّلْ ) (13) .
والرجاء والخوف في مفهوم مهذبي الأخلاق ومؤدبي الأرواح يتلازمان لان التطلع إلي المرغوب يصحبه توقع لحدوث المكروه ، فيظل الإنسان راجياً وهو خائف ، ويظل خائفاً وهو راجٍ ، وبذلك يكون على الصراط بمفهوم قول الله تعالى عن عباده الطيبين : يَبْتَغُونَ إلى رَبِّهِمُ الوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَب وَيَرْجُوُنَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَه [سُوْرَةُ الإسراء : 57 ] .
( وقد أعطى أبو علي الروباذي تصويراً جميلاً لهذا التلازم بين الرجاء والخوف ، فصورهما بصورة جناحي طائر ، إذا استويا استوى الطير وتم طيرانه ، وإذا نقص أحدهما وقع فيه النقص . وإذا ذهب الجناحان صار الطائر في حد الموت ! . ويأتي حاتم الأصم فيجعل اصل الطاعة ثلاثة أشياء هي : الرجاء ، الخوف ، الحب فيضيف إليهما الحبَّ كما ترى . ويؤكد أبو علي الجوزجاني هذا حين يجعل الخوف والرجاء والمحبة من أسس التوحيد ، لان زيادة الرجاء تأتي من اكتساب الخير لرؤية الوعد ، وزيادة الخوف تأتي من كثرة الذنوب لرؤية الوعود وزيادة المحبة تأتي من كثرة الذكر لرؤية المنة فالراجي لا يستريح من الطلب والخائف لا يستريح من الهرب ،والمحب لا يستريح من ذكر المحبوب فالرجاء نور منور ، والخوف نارٌ منورة والمحبة نور الأنوار ) (14) .
وعن ابن مسعود ( رَضِيَ اللهُ عَنْه) قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم :{ الجَنَّةُ أَقْرَب إِلَى أَحَدِكُم مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ ، وَالنَّارُ مِثْلُ ذَلِكَ }(15) .
ومعنى ذلك أن ( الجَنَّةُ أَقرب منَ المُؤمِنينَ وَالنَّارُ دَانِيَةٌ مِنَ الكَافِرِين وللإنسان في حالة الحياة حرية التوجه الى طريق الخير أو الشر ليتحمل المسؤولية على أساس ذلك . فعلى كل إنسان أن يختار وان يتحمل نتيجة الاختيار ) (16)
__________
الهوامش:
(1) إحياء علوم الدين ، الغزالي / 4 : 156
(2) نفس المصدر / 4 : 156
(3) أمراض القلوب / أحمد ابن تيمية ت 72 ، المطبعة السلفية ، القاهرة ، الطبعة الثانية 1399 هـ / 1 : 75 .
(4) سنن الترمذي / 4 : 2205 برقم / 2877 ، ويُنظر مسند أبي يعلى ، أحمد بن علي بن المثنى الموصلي ، المتوفى.306 هـ ، إدارة العلوم الأثرية ، فيصل آباد / 4 : 2290 .
(5) إحياء علوم الدين / 4 : 158 .
(6) حلية الأولياء ، أبو نعيم الأصبهاني / 6 : 32 .
7) سُنَنُ التِّرمِذِي / 3: 311 قال أبو عيسى هذا حديث حسن غريب وينظر سُبُل السَّلام ، محمد بن إسماعيل الصنعاني ، ت 852 ، دار التراث العربي ، بيروت ، ط 4 / 1 : 26 .
(8) التَّذْكِرَة في أحوال الموتى وأحوال الآخِرة / 26 .
(9) الزهد لإبن أبي عاصم / 1 : 265.
(10) سير أعلام النبلاء / 8 : 432 .
(11) الديباج / 6 :44.
(12) ميزان الاعتدال في نقد الرجال /1: 129 .
(13) شرح العقيدة الواسطية ، إبن تيمية / 1: 224
(14) موسوعة أخلاق القرآن ، الشرباتي / 1 : 232
(15) صَحِيْحُ البُخَارِي / 5: 2380 وينظر : رياض الصالحين / 1 :643
(16) شرح رياض الصالحين ، الإمام النووي ، دار الكتب الحديثة ، مصر / 1 : 643 .