مشتاق الكاتب
حين امتدح رب العزة سيدنا إبراهيم (عليه السلام)، قال عنه : {إِنَّ إِبْراهيمَ كانَ أُمَّةً } النحل : 120 ، وحين تأولها الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي قال : « قال بعضهم : أمة : أي معلماً للخير عاملا به » .
والأمة كما ذكر الشيخ الأكبر ابن عربي (رضي الله عنه): « هو معلم الخير ، فنرجو بما نورد من هذا العلم للناس : أن يكون حظي من تعليم الخير ، وأن نقوم ونختص بأمر واحد من جانب الله من العلم به ، مما لا نُشارَك فيه نقوم فيه مقام الأمة » .
والمعنى العام لهذه الصفة هو أن في كل شخص من الأمة خصلة من الخصال المحمودة يتمتع بها ويختص ، وحين نقول عن شخص بأنه أمة ، فكأننا نقول : بأن ذلك الشخص قد جمع جميع الخصال المحمودة والموجودة في أفراد هذه الأمة .
ولكن الباري سبحانه حينما أراد أن يمتدح حضرة سيدنا ونبينا محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ، ذكره بلفظة أمي والتي تكررت في القرآن الكريم (6) مرات بصيغ مختلفة .
وتقول الدكتورة سعاد الحكيم عن معنى هذا اللفظ والذي يحتمل عدة معاني : « قد سألنا الدكتور عبد الكريم اليافي عن معنى لفظ الأمي في القرآن فأجاب :
للأمي عدة معان : ومنها نسبة للأمم ، وذلك أن النسبة للجمع ترجع إلى النسبة للمفرد .
وما يعنينا والذي نؤيده من معاني كلمة الأمي : هو أنها تعني النسبة للأمم ، فهو النبي الأممي ، وليس كما يحلو للبعض بأن يفسرها بأنها تعني : الذي لا يقرأ ولا يكتب ؛ لأن هذا التفسير يدحضه قوله تعالى : {وَما كُنْتَ تَتْلو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بيَمينِكَ } العنكبوت : 48 ، وحين نثبته أنه أممي ، فأمميته صلى الله تعالى عليه وسلم ليست مقتصرة على الإنس والجن فحسب ، وإنما على كل المخلوقات ، كما قال تعالى : { وَما مِنْ دابَّةٍ في الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطيرُ بِجَناحَيْهِ إِلّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا في الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إلى رَبِّهِمْ يُحْشَرونَ } الأنعام : 38 ، وأنه كما أخبرنا الحق سبحانه وتعالى عنه {وَما أرْسَلْناكَ إلا رَحْمَةً لِلْعالَمِين } الأنبياء : 107 .
ففي اصطلاح الكسنزان يعرفون الأمية بأنها : هي الرجوع إلى الأصل الروحي والأخذ منه دون غيره ، وهذا ما كان عليه النور المحمدي أثناء انقطاعه في كهف النور أمياً ، أي : راجعاً إلى ربه آخذاً منه ، فهو أصله الذي منه صدر .
بل وذهب أهل التصوف إلى معاني روحية سامية في معنى النبي الأمي يقول الشيخ ابن عطاء الأدمي : « النبي الأمي : هو النبي الذي لا يدنسه شيء من الأكوان ، يعني : الذي لا يشغله شيء من الكون » .
ويقول الشيخ الأكبر ابن عربي : « النبي الأمي : هو الذي يدعوا على بصيرة مع أميته ، والأميون : هم الذين يدعون معه إلى الله على بصيرة ، فهم التابعون له في الحكم » .
ويقول الشيخ نجم الدين الكبرى : « الأرواح كلها خلقت من روح النبي ، وأن روحه أصل الأرواح ، ولهذا سمي : أمياً ، أي : أنه أم الأرواح ، فكما كان آدم – (عليه السلام)- أبا البشر ، كان النبي أبا الأرواح وأمها ، كما كان آدم أباً وحواء أماً » .
ويقول الشيخ إسماعيل حقي البروسوي : « معنى الأمي : أنه أم الموجودات وأصل المكونات … فلما كان هو أول الموجودات وأصلها سمي : أمياً ، كما سميت أم القرى ؛ لأنها كانت مبدأ القرى وأصلها ، كما سمي أم الكتاب » .
وهو النبي الخاتَم الدائر على فضائل جميع الأنبياء والمرسلين ، فهو أولهم في الوجود وآخرهم في البعث ، فلقد ورد في الحديث في سنن ابن ماجة عن ابن عباس أن النبي (صلى الله تعالى عليه وسلم) قال : { نحن آخر الأمم وأول من يحاسب} . يقال : أين الأمة الأمية ونبيها ، فنحن الآخرون الأولون وما الأنبياء والمرسلون بالنسبة إليه إلا مظاهر له ، وخلفاء عنه ، ونواب حضرته (صلى الله تعالى عليه وسلم)، فلم يبعث الله نبياً قط إلا بشر به ودعا إلى الإذعان له والإيمان به ، قال تعالى : { الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } الأعراف : 157 ، وإن الذي مكتوب عندهم في التوراة اسماً وصفة ، ونص ما في التوراة على ما في صحيح البخاري ، عن عبد الله بن سلام : « يا أيُّهَا النَبِيُّ إنَّا أرسلَنَاكَ شَاهِداً ومُبَشَّراً ونَذِيراً ، وحِرزاً للأمِّيينَ ، أنتَ عَبدِي ورَسُولِي ، سَمَّيتُكَ المُتَوكلَ ، لِيسَ بفَظٍ ولا غَليظٍ ولا صَخَّابِ في الأسوَاقُ ، ولا يُجَازِي بالسَّيِّئةَ السَّيِّئة ، ولكِن يَعفُو ويَصفَحُ ، ولَن يَقبِضَهُ الله حَتَّى يُقِيمَ بِهِ المِلَّةَ العَوجاءَ ؛ بِأن يَقُولُوا : لا إله إلاَّ الله ، فَيفتَح بِها أعيُناً عُمياً ، وآذاناً صُمّاً ، وقُلُوباً غُلفاً » .
ومما في التوراة أيضاً ، وهو مما أجمع عليه أهل الكتاب ، وهو باق في أيديهم إلى الآن ؛ أن الملك قد نزل على إبراهيم ، فقال له : في هذا العام يولد لك غلام اسمه إسحاق ، فقال إبراهيم : يا رب ليت إسماعيل يعيش يخدمك ، فقال الله لإبراهيم : ذلك لك ، قد استجيب لك في إسماعيل ، وأنا أباركه ، وأنميه ، وأكثره ، وأعظمه بماذماذ (1)، وتفسيره : محمد ﷺ .ومن ذلك مما في التوراة أيضاً : أن الرب تعالى جاء من طور سيناء ، وطلع على « ساغين » ، وظهر من جبل فاران ، ويعني طور سيناء : موضع مناجاة موسى ، وساغين موضع عيسى ، وفاران هي مكة ، موضع مولد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، وفي التوراة أيضاً : أن هاجر أم إسماعيل لما غضبت عليها سارة ، تراءى لها ملكٌ ، فقال لها : يا هاجر ، أين تريدين ، ومن أين أقبلتِ ؟ فقالت : أهرب من سيدتي سارة ، فقال لها : يا هاجر ، ارجعي إلى سارة ، وستحملين وتلدين ولداً اسمه إسماعيل ، وهو يكون عَين الناس ، وتكون يده فوق الجميع ، وتكون يد الجميع مبسوطة إليه بالخضوع . وهذا الذي وعدها الملك إنما ظهر بمبعث النبي ﷺ وظهور دينه وعلو مكانه ، ولم يكن ذلك لإسماعيل ولا لغيره من أولاده ، لكن الأصل يشرف بشرف فرعه ، وفي التوراة أيضاً : أن الله أوحى إلى إبراهيم (عليه السلام): قد أجبت دعاءك في إسماعيل ، وباركت عليه ، وسيلد اثني عشر عظيماً ، وأجعله لأمة عظيمة .وفي بعض كتبهم : ( لقد تقطعت السماء من بهاء مُحمدٍ المحمود ، وامتلأت الأرض من حمده ، لأنه ظهر بخلاص أمته ) .ونص ما في الإنجيل : أن المسيح قال للحواريين : إني ذاهب عنكم ، وسيأتيكم الفارقَليط ، الذي لا يتكلم من قِبل نفسه ، إنما يقول كما يقال له . والفارقليط بالعبرانية : اسم محمد ﷺ، وقيل معناه : الشافع المشفع .فبما أن الأمم لم تخل من رسول منذ زمن نبي الله آدم أبو البشر (عليه السلام) وإلى يوم القيامة كما قال الله تعالى : {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } النحل : 36 ، وإن أي رسول إنما هو نائب لسيدنا محمد (صلى الله تعالى عليه وسلم)، فإن نبينا هو النبي الأممي المبعوث إلى جميع الأمم من العالمين ، من أول الدنيا إلى آخرها .
________
الهوامش :
(1) :ومن أسمائه صلى الله عليه وسلم الأعجمية الواردة في الكتب السالفة السماوية بالسريانية والعبرانية والرومية وهي واحد وعشرون اسماً : قِدمَايَا ، آخِرَايَا ، أَحيَدُ ، أَخُونَاخُ ، البَارِقليطُ ، الفارقليطُ ، البرقيطِس ، التَّقلِيط ، المُنحَمِنَّا ، مُؤُذمَاذ ، مَاذمَاذ ويعني محمد ، مُوذمُوذ ، مَيذمَيذ ، حِمطَايَا ، حميَاطَا ، حَبَنطَا ، سَرِخيطِس ، طَاب طَاب ، كَنديدَه ، المُشَفَّحُ ، زَرِبيَالِ .
المصادر :
القرآن الكريم
تفسير البحر المديد لابن عجيبة
موسوعة الكسنزان فيما اصطلح عليه أهل التصوف والعرفان للسيد الشيخ محمد الكسنزان