د. بشرى قبيسي
جاء في القرآن في سورة النساء: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء.
وتذكر الكتب المقدسة أيضاً، إن حواء أقدمت على فصل لا ينطبق على حكمة العقل والمنطق بتحريضها آدم على الأكل من الشجرة المحرَّمة …
وقد ترك هذا الحدث في ذهن البشرية صورة للمرأة التي سقطت من عليائها، وعلى هذا الأساس اعتبرت حواء المرأة التي لم تتفهم دورها جيداً.
ويقول ندرة اليازجي ((وهذه الصورة لسقوط المرأة تظل عقدة فينا وتترك في أعماقنا أثراً لا يمحى … )).
ولكن آدم لم يكن أفضل من حواء على الإطلاق فهي منه وهي شريكته وهي مكلفة كالرجل، مخاطبة مثله بأمر الله ونهيه، مثابة ومعاقبة كما يثاب ويعاقب.
تقول سيمون دي بوفوار في كتابها ((الجنس الثاني)) ما السبب الذي جعل هذا العالم، دائماً، ملكاً للرجال؟
ويلاحظ جان فريفيل في كتابه الاشتراكية: إن استعباد المرأة قد توافق زمنياً مع تلك المرحلة مما قبل التاريخ التي نهضت فيها الأسرة لمعارضة القبيلة وتطورت فيها الملكية الخاصة وانقسم المجتمع إلى طبقات ومهَّد الطريق لولادة الدولة بهدف السيطرة على التناحرات الطبقية. الرجل كان يتعاطى الصيد البحري والبري، والمرأة كانت تهتم بتغذية ذريتها وحمايتها، وكانت نشاطات المرأة تعطيها الأولوية على الرجل لأنها كانت مدعوة للحفاظ على النوع البشري. فكانت الآلهة المسؤولة عن الخصب أو المانحة للذكاء والعرافات اللواتي يقرأن المستقبل والجنيات الساحرات المقلدات سلطة فائقة للطبيعة من الجنس المؤنث، وبذلك كانت المرأة واهبة الأسرار ومعجزات تجسد قوى ما وراء الطبيعة، القوى الساحرة الغامضة.
ولكن مع اكتشاف المعادن والأسلحة المعدنية وولادة الحروب، ارتفع شأن الذكر وانقلب تقسيم العمل، وانحط عمل المرأة المنزلي إلى مرتبة ثانوية وظهرت الأسرة الرعوية وأصبحت المرأة أداة عمل وإنجاب، وبدلاً من أن تكون تابعة لدائرة أبيها أصبحت تابعة لدائرة زوجها، وصارت تقايض مقابل ماشية أو أسلحة، وأمست بادرة خيانة زوجية منها تعاقب بالموت وانتقلت المرأة إلى حالات اضطهاد مزدوج داخل المجتمع ككل، وداخل الأسرة.
وجاءت الأديان والتشريعات لتكريس تبعية المرأة وعزلتها المطلقة. فالأديان كلها وقفت موقفاً محدداً إزاء المرأة، وجسدت موقفها في قوانين وأساطير وروحانيات وتشريعات، وتطورت الثقافة وتطور المجتمع، وتبدل وجه المرأة، وتغيرت الصورة التي رسمت لها في البنية المجتمعية، وما زالت الأديان تحافظ على تراثها وبالتالي على موقفها تجاه المرأة.
وهنا لابد من التنويه، بأن أديان كثيرة قد تنبهت لهذا النزاع وأخذت تنظر إلى مكانة المرأة في المنظور الديني والحلول الممكنة لهذه المشكلة.
ومع عصر النهضة الأوروبية اكتسبت المرأة نوعاً من الاستقلال وشاركت في الحياة الفكرية ووجدت مَن يدافع عنها، وأما الثورة الفرنسية فألغت حق البكورية وأباحت الطلاق بعد ذلك بعامين لكنها رفضت منح المرأة حقوقها المدنية، وقانون نابليون جعل المرأة المتزوجة تحت وصاية زوجها. وقال نابليون ((إن الطبيعة جعلت من نسائنا عبدات لنا)).
فالمرأة نصف الرجل، والرجل والمرأة يصنعان التاريخ … ولا شك أن تاريخاً كان نصفه ميتاً لم يقم بدوره في عالم الحضارة خير قيام. ولقد أدى هذا التاريخ إلى مساوئ عديدة كالرق، والعبودية واستعمال النساء في الأغراض التي نالها الرجل. فتراجعت قيمة المرأة وتضاءلت.
وقد تكون معارك المرأة في سبيل الحصول على إنسانيتها الكاملة في جميع المجالات والحقول من أواخر المعارك التي بدأت في تاريخ الإنسان والتي لا تزال متخلِّفة عن غيرها في الوصول إلى أهدافها. وكأن هناك مؤامرة عامة تبتغي ألاّ تحصل المرأة على كامل إنسانيتها وكامل حقوقها …
وما زلنا نرى حتى يومنا هذا، بأن شعوباً تؤمن بفكرة الفيلسوف الألماني نيتشه القائلة ((إن الحضارة بدأت تنهار منذ أقدم الرجل على إعطاء المرأة حريتها)).
فهذا التفكير يعبر عن النظرة إلى المرأة من خلال جسدها، لكن عندما يبدأ التفكير بالنظر إلى المرأة من خلال عقلها وشخصيتها، فحينئذ تنطلق المرأة في ميدان الوجود والخلق.
وعندما تسعى المرأة لأن تتحرر من عالم صنعه لها الآخرون، إنما تسعى لكي تعي هي نفسها أولاً، وتسعى لكي يعي الآخرون وعيها وللمكانة التي وضعوها فيها.
وإذا كانت ثمة معركة تخوضها المرأة اليوم في سبيل تحررها، فالمعركة يجب أن تبنى على المعرفة التحليل الموضوعي والإعلام الصحيح والتخطيط العلمي.
إن مصدر الفروقات في منزلة الرجل والمرأة ليس في الأصل في طبيعة بيولوجية أو اجتماعية بل بالعكس. فالفروقات الفيزيولوجية أو الاجتماعية هي التي خففت من حدة التمييز بين الرجل والمرأة. فكلما تقدمت الاكتشافات العلمية زال ما كان يفرق بين الرجل والمرأة. فالذي يحدد مرتبية الرجل والمرأة هو حصيلة خلق تاريخي وتراكم وتطور ثقافي …
إن حقوق الرجل وحقوق المرأة تبدو في مساواة على صعيد استمرارية الجنس البشري. فالجنس الواحد، بهذا الشأن، لا ينفك أبداً عاجزاً لوحده من أن يصبح كلاً متكاملاً، مستقلاً وعاجزاً عن أن يؤمن بنفسه استمرارية. فالاستمرارية تدفعه نحو الجنس الآخر. وإن وضع المرأة دن منزلة الرجل هو نتيجة لتوزيع الأدوار الاجتماعية التي وضعها الرجل بحيث حصر المساواة الطبيعية ضمن دائرة ضيقة لينصرف إلى تحديد الأدوار في التعاون اليومي بينه وبين المرأة، وقد حاول أن يطمس معالم المرأة لأسباب عديدة أدّت كلها إلى عدم مشاركة المرأة في مسؤولية الحياة وأعطت الفرص للرجل ليظهر مواهبه ويعبّر عن شخصيته على حساب المرأة، واعتقدت المرأة أن تأخرها يعو إلى نقص في تركيبها الفيزيولوجي.
هذا، وأن وضع المرأة الدوني ومنزلتها التي جاءت دون منزلة الرجل هي نتيجة مباشرة لتوزيع الأدوار الاجتماعية: فبينما الفروقات الفيزيولوجية تفرض تكاملية ووحدة شمولية بين الرجل والمرأة، نرى تقسيم المهام والأدوار الاجتماعية يمزق هذه الوحدة.
وتقول سيمون دي بوفوار ((لا يولد الإنسان امرأة بل يصبح كذلك)).
فإن تأسيس الفروقات ما بين الرجل والمرأة على الطبيعة وعلى الأدوار السائدة يقود إلى نقض الميزة الروحية التي يتحلّى بها الشخص البشري. فلا تزال التربية متخلفة في حقل الروح والعقل، وهذا يؤدي إلى تخلف المرأة وتخلف الرجل على السواء.
إن المجتمع عندما يتأمل في نظامه التربوي ينساق إلى الحكم على هذا النظام وكأنه طبيعي ويسعى للمحافظة عليه. وبقدر ما تبرر التربية نفسها على أنها طبيعية بقدر ما تشيّد محافظتها وتقليدها وجمودها، وتربيتنا ما زالت تعلم المرأة أموراً هي في قمة التخلف وتبقيها في عالم الغريزة واللاعقلانية فتصبح قيم المرأة جسدية ومادية ومحافظة أكثر منها عقلانية وروحية وتقدمية. من هنا، تنشأ المرتبية ضمن المجتمع. وعندما تسعى التربية إلى تحويل المرتبية، إلى عقيدة تنقلها إلى أفراد المجتمع بواسطة هذه العقيدة. فتكون هذه التربية قد عمت الفكرة السلطوية.
ويقول ندره اليازجي في إنسانية المرأة: ((لقد طغت عليها سيرة التاريخ ومآسيه وأفكار المجتمع المتخلفة وفي هذا الاعتقاد انحطاط المرأة … فهي تقوم بأدوار ثلاثة: الزوجة والأم والخادمة .. ولكن دوراً رابعاً ظل منسياً وهو دور المرأة الإنسان)).
وحتى تقوم المرأة بهذا الدور، يجب أن تصقل مواهبها وتهتم بعقلها وروحها بالإضافة إلى جسدها، لأن المجتمع المنفتح والمتقدم والمتحرر حلَّ مكان المجتمع التقليدي المحافظ. وكل تربية تؤسس على التباين والتمييز بين الرجل والمرأة إنما تحكم على نفسها بالجمود. فالعلاقة الصحيحة بين الرجل والمرأة يفترض أن تكون علاقة إزاء شخص وكائن مقابل كائن آخر وليس علاقة تكامل كائن بآخر.
إذاً، لا يستقيم مجتمع من المجتمعات إذا كان نصفه ميتاً، واستقامة المجتمع هي تربية الشخصية الإنسانية إي تهذيب العقل والحواس والرفع من شأن الفرد. ومن المؤسف أن المجتمع لا ينظر إلى المرأة من خلال عقلها بل من خلال جسدها. وعندما تدرك المرأة أن قيمتها كإنسان أرفع من بقية القيم، فإنها تحقق وجودها الإنساني وتعمل على رفع مستواها.
لا شك أن تحقيق إنسانية المرأة عمل شاق وصعب في مجتمعات تعاني من عقدة النقص عند الرجل والمرأة معاً، ومن التخلف الفكري والإنساني. والشرور الاجتماعية القائمة قد نتجت من سوء استعمال للمفاهيم الإنسانية والاجتماعية ولا تتحقق الصفات الروحية ما لم تدرك المرأة قدراتها وما لم تدرك ويدرك الآخرون أنها مخلوق إنساني يمثل درجة عليا في سلم الوجود. فانتصار المرأة يعني انتصار الرجل وعظمتها تعني عظمته وصقل مواهبها تعني صقل مواهبها.
ونذكر أن الرجل من المرأة، والمرأة من الرجل. هي التي تأتي بالرجل إلى الوجود وهو الذي يأتي بها إلى الوجود. فهناك تفاعل دائم بين المرأة والرجل. ولما كانت المرأة طاقة كبرى من الفكر والروح، فإنها تستطيع أن تحقق إنسانيتها ومتى حققت إنسانيتها يستطيع كيانها أن ينير سبيل المجتمع.
لكن إذا ظلت المرأة في عرف المجتمع إنساناً فاقدة الأهلية أو قاصراً ولا ينظر إليها البعض إلا من خلال جسدها وجمالها فتكون نظرة الإنسان إليها كنظرته إلى أفضل حلّة يرتديها حينئذ، تظل العقلية الذكورية تحكم بقبضة حديدية وأن نوعاً من التفرقة العنصرية، إن صحّت التسمية، تظل تمارس ضد النساء وتمنعهن من الإبداع.