الحمد لله الذي أيد الإسلام بالعلماء العاملين والمشايخ الكاملين وقطع بواضح أدلتهم حجج أهل الزيغ ، الذين هم كالأنعام بل أضل سبيلا ، وأوضح بلوامع بوارق سيوف براهينهم شبهات المبتدعين اللئام ، فسبحان من قيض لهذه الشريعة من بطون سادتها من الأنام من يميط عن وجوه عذراتها اللثام وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له موصوف بصفات الكمال على الدوام وأشهد أن سيدنا ومولانا محمـداً عبده ورسوله الذي أنزل عليه الكتاب تبياناً و هدىً ورحمة لسائر الأنام ، الذي سن السنن وبين الشرائع وأظهر الدين وتمم الأحكام ، صلى الله تعالى عليهِ وعلى آلهِ الطاهرين وصحبه هداة الأمة المنتجبين ، الناقلين لنا مسائل الدين وسلم تسليما.
( وبعد ) : فهذا مبحث خُصص لتوضيح الأدلة التي تدمغ حجج أهل الزيغ والضلال منكري التوسل ، من الذين جعلوا من يتوسل بالرسول الأعظم وبالأنبياء والأولياء والصالحين مشركا كافراً ، فاستباحوا دماء المسلمين وعاثوا في الأرض فساداً ، فإذا سألتهم عن أمة الرسول ولغاية اثني عشر قرناً ، أي قبل ظهورهم قالوا : إنها كافرة مشركة ، وإذا سألتهم عن المذاهب الأخرى وأئمتها لا يقرونها ، ومن أشنع قبائحهم أَنهم تجاوزوا على الخلفاء الراشدين ، ومن ذلك قولهم في أبى بكر الصديق في قوله عندما سأله الرسول الأعظم :ما أبقيت لأهلك يا أبا بكر ؟ قال : الله ورسوله (1) ، قالوا : قد أشرك أبا بكر ، وقالوا عن عمر بن الخطاب t عندما توسل بالعباس في الاستسقاء : هذا رجل استعان بغير الله ، ثم تجاوزوا الحدود على حرمة النبي الأكرم سيدنا محمد فقالوا : إنه مات كسائر البشر ، فهو لا يرى ولا يسمع ولا يضر ولا ينفع ، وكما قال أحدهم : ( إِن عصاي هذه خيرٌ من محمد ) . وقد قسمنا هذه الرسالة إلى – مقدمة وفصلين – تناول الفصل الأول بايجاز مناقشة معنى الوسيلة ورد شبهات المغرضين حول ثبوتها وبيان عقيدة المسلمين في هذه المسألة ، وأما الفصل الثاني فقد خصص لذكر الأدلة حول الموضوع بشكل مفصل من الكتاب الكريم والسنة المطهرة واقوال العلماء سلفا وخلفاً .
الفصل الأول : معنى الوسيلة
الوسيلة لغةً : قال ابن الأثير : ( هي في الأصل : ما يُتوصل به إلى الشيء ويتقرب به ، والوسيلة هي الشفاعة يوم القيامة ) فالوسيلة هي الوساطة التي لا يمكن بلوغ الهدف أو الوصول إلى المبتغى إلا بها .
الوسيلة اصطلاحاً : هي كل ما يوصلنا إلى الحق تعالى ورضاه ويبعدنا عن سخطه وغضبه في الدنيا والآخرة .
أنواع الوسيلة
دلّت السنة المطهرة على أن هناك ثلاثة أنواع من الوسائل لا يمكن بلوغ الهدف أو الوصول إلى المبتغى( الله تعالى ) إلا بها وهي :
النوع الأول : التوسل إلى الله تعالى بأسمائه وصفاته ودعائه ونحوها ، وهذا النوع متفق عليه .
النوع الثاني : التوسل إلى الله تعالى بالطاعات والأعمال الصالحة ، كما في حديث الثلاثة أصحاب الغار الذي سُد عليهم وتوسلهم بأعمالهم الصالحة ففرج عنهم ، وهذا النوع لاخلاف فيه أيضاً.
النوع الثالث : التوسل إلى الله تعالى بالأنبياء والأولياء والصالحين سواء كانوا أحياءً أم أمواتا وهو موضوع الرسالة هذه ، فهذه الأنواع الثلاثة من الوسائل هي المرادة بقوله تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتــَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَة وجاهدوا في سبيله لعلكم تفلحون وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (2) ، وهو ما سنوضحه في رسالتنا هذه .
الوسيلة هي الشفاعة
قال تعالى : مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ (3)
يقول المفسرون : ليس لأحد أن يشفع عنده إلا إذا أذن له في الكلام ، وهذا يعني أَنَّ الله تعالى سيأذن لبعض عباده من الأنبياء والأولياء بالشفاعة بأمره وإِرادته ، ولما كانت الشفاعة ثابتة بين الخالق والمخلوق فقد ثبتت الوساطة بينهما ، لأن الشفاعة هي الوساطة ، وكل النصوص الجازمة بقطعية ثبوت الشفاعة هي في الحق والحقيقة أدلة لإثبات اتخاذ الوسيلة إلى الله تعالى (4) .
الوسيلة وطلب المدد – الاستعانة – الاستغاثة
يستنكر المغرضون على المسلمين أن يستعينوا أو يستغيثوا أو يستمدوا العون من الأنبياء والأولياء والصالحين محتجين في ذلك بأقوال ما أنزل الله بها من سلطان ، تارةً تكون حديثاً موضوعاً ، وتارةً أخرى تكون تأويلاً مغرضاً لنص قرآني أو حديث نبوي شريف ، ولولا خوف الإطالة لفصلنا الرد على أقوالهم وتُرّهاتهم كلمة كلمة ، ولكننا اقتصرنا على الإشارة إلى بعض الصحاح التي تفند كل آرائهم السقيمة وتقتلعها من جذورها ، فالأمر أوضح من أن يطال به : لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَـى السَّـمْعَ وَهُوَ شَهِيد (5).
إن المراد من الاستعانة أو الاستغاثة بالأنبياء والأولياء والصالحين أمور ثلاثة :
الأول : أن يعينه الصالح ويمده مادياً .
الثاني : أن يعينه بدعائه أو استغفاره له .
الثالث : أن يمده مدداً روحياً عن بُعد .
ولكل وجه من هذه الوجوه أدلته الثابتة من الكتاب والسنة والإجماع ، فأما حكم الأمرين الأول والثاني ، فيكفي لبيان ثبوتهما أن ننقل إجماع العلماء المتقدمين على لسان الإمام تقي الدين السبكي حيث قال : اعلم إنه يجوز ويحسن التوسل والاستغاثة والتشفع بالنبي إلى ربه سبحانه وتعالى ، وجواز ذلك وحسنه من الأمور المعلومة لكل ذي دين من المسلمين ، ولم ينكر أحد ذلك من أهل الأديان ولا سمع به في زمن من الأزمان حتى جاء ابن تيمية فتكلم على ذلك بكلام يلبس فيه على الضعفاء إلا غمار ، وابتدع ما لم يسبق في سائر الاعصار ، وحسبك أن إنكار ابن تيمية للاستغاثة والتوسل قول لم يقله عالم قبله ، وصار به بين أهل الإسلام مُثْلَةً ، وقد وقفت له على كلام طويل في ذلك ، رأيت من الرأي القويم أن أميل عنه إلى الصراط المستقيم ، ولا أتتبعه بالنقض والابطال ، وأقول : إن التوسل بالنبي جائز في كل حال ، قبل خلقه ، وبعد خلقه ، في مدة حياته في الدنيا ، وبعد موته ، في مدة البرزخ وبعد البعث ، في عرصات القيامة والجنة ، وكيف يحل لمسلم أن يتجاسر على منع هذا الأمر العظيم الذي لا يرده عقل ولا شرع ؟ ! وليس هذا المعنى مما تختلف فيه الشرائع حتى يقال : إن ذلك شرع من قبلنا ، فإنه لو كان ذلك مما يخل بالتوحيد لم يحل في ملة من الملل ، فإن الشرائع كلها متفقة على التوحيد ، فإنه لاشك أن للنبي قدراً عنـده ومن أنكر ذلك فقـد كفر ، فمتى قال : أسألك بالنبي فلا شك في جوازه ، وكذا إذا قال بحق محمد (6) .
ويقول الشيخ أحمد زيني دحلان : « إن مذهب أهل السنة والجماعة صحة التوسل وجوازه بالنبي في حياته وبعد وفاته وكذا بغيره من الأنبياء والمرسلين ( صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ) ، وكذا بالأولياء والصالحين كما دلت عليه الأحاديث ، لأنا معاشر أهل السنة لا نعتقد تأثيراً ولا خلقاً ولا إيجادا ولا إعداما ولا نفعاً ولا ضراً إلا لله وحده لاشريك له »(7) .
وأما إجماع المتأخرين فننقله على لسان رئيس رابطة علماء العراق الشيخ العلامة عبد الكريم المدرس في قوله : « إن جعل التوسل شركاً وكفراً معارضة صريحة لقواعد الإسلام … فإذا وقفنا وتوجهنا إلى الضريح الأنور وخاطبناه فخطابنا معه له أصل في الدين ، وهو الخطاب معه في تشهدنا لكل صلاة ، ومعنى ذلك أنه له روح عالية الدرجات موهبة من الله سبحانه بفضائل لا يعلمها إلا هو وأنه تعالى يخبره ويعلمه بصلاة المصلين وخطاب الحاضرين والغائبين . وإذا توسلنا به على معنى طلب الدعاء منه ، فطلب الدعاء مشروع وروحانيته المنورة لا فرق بين عالم علاقته المادية الدنيوية وعلاقته البرزخية … وإذا توسلنا بذاته الشريفة أو بجاهه العظيم أو بحقه الجسيم ، أي حق رعايته للعبودية الخالصة عند الله تعالى بفضل إحسانه ولطفه أو فضل طاعته وأعماله وجهاده في تبليغ الدين المبين ، فكل ذلك واقع في الروايات الصحيحة »(8) . فطلب الإمداد المادي ورد في الكتاب والسنة ، أما في الكتـاب : فقال تعالــى : فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ (9) . وقال تعالى على لسان ذي القرنين : قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً . قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً (10) . وأما من السنة فقد وردت أحاديث كثيرة تنطق بذلك ، منها : روى البخاري في كتاب الزكاة أن رسول الله قال : إن الشمس تدنو يوم القيامة حتى يبلغ العرق نصف الأذن فبينما هم كذلك استغاثوا بآدم ثم موسى ثم محمد (11) .
روى مسلم عن عمر tأن رسول الله قال : إن رجـلاً يأتيكـم من اليمن يقال له أويس لا يدع باليمن غير أم له قد كان به بياض فدعا الله فأذهبه عنه إلا موضع الدينار أو الدرهم ، فمن لقيه منكم فليستغفر لكم (12) .
قال النووي : ( وفيه استحباب طلب الدعاء والاستغفار من أهل الصلاح وإن كان الطالـب أفضل منـهم ) ، فإذا قصد بقوله أمدني أو أغثني أو نظرتك ، على طلب الدعاء منه فلا مانع من ذلك .
أما من يمـنع ذلك ويستدل بقولـه تعالى : إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ(13) ، وبقولـه لابـن عـباس : إذا استعـنت فاستـعن بالله (14) ، وبقــوله : لا يستغاث بي إنما المغيث هو الله (15) .
فالجواب عنه : إن الإعانة تكون حقيقية ومجازية ، فالمعين الحقيقي هو الله وطلب الإعانة من غيره مجاز ، لأن المعين لك – وهو البشر – لولا إمداد الله له بالعون والقوة لما استطاع أن يعينك ، فالاستعانة بالإنسان هي استعانة بالقوة والملكة والسلطة التي منحها الله إياها ، إذ لاحول ولاقوة إلا بالله . فالآية حصرت الاستعانة الحقيقية بالله تعالى وكذا وصية النبي لابن عباس t من هذا القبيل ، والآية والحديث فيهما توجيه للعبد أن لا ينسب إلى المخلوق لاحول ولاقوة ولو طلب العون المجازي منه . وإذا لم توجه الآية والحديث هذا التوجيه فإنهما سيتعارضان مع قوله تعالـى : وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى (16) ، وقولـه : والله في عون العبد مادام العبد في عون أخيه(17) . أما حديث : لايستغاث بي الذي احتج به المنكر فإنه ضعيف ، لأن في سنده ابن لهيعة فلا يقاوم الأحاديث الصحاح ولا مدلول الآية .
فهذه لمحة مما ردّ به العلماء على أقوال المنكرين للاستعانة والاستغاثة المادية أو دعاء الصالحين واستغفارهم لمن يلجئ لهم في ذلك من خلق الله .
الإعانة أو الإغاثة الروحية
إن المراد من الإعانة الروحية ( الدرك ) من قبل الأنبياء عليهم السلام والمشايـخ الكـاملين ( قدس الله أسرارهم ) هو : قدرتهم – أي المستعان بهم من الصالحين – على معونة وإغاثة الخلق عن بُعد بإذن الله تعالى ، ويمكن تقسيم هذه الاعانة الروحية على ثلاثة أقسام :
القسم الأول : الاعانة في أمور الهداية و الإيمان .
يقول تعالى : وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا (18) .
ويقول تعالى : وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (19) .
ويقول : وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى (20) .
القسم الثاني : الإغاثة الروحية عن بُعد في أمور الدنيا ، كما سيرد في حديث سارية .
القسم الثالث : الاغاثة الروحية في أمور الآخرة . والأدلة الواردة في الشفاعات ومن يشفعون يوم الحساب أكبر دليل على ذلك .
إن طلب الاستغاثة أو المدد الروحي من الانبياء أو الاولياء والصالحين سواء كانوا احياء أم أمواتاً جائز لاشيء فيه اطلاقا ولكن ضمن التفصيل الآتي :
إن اعتقد المستغيث أو المستمد أن هذا النبي أو الولي يمد ويغيث كما يمد ويغيث الله سبحانه وتعالى على حد سواء ، فهذا كفر وشرك والعياذ بالله ، ونحن نبرأ إلى الله تعالى منه ومن معتقده أياً كان .
وإن عنى بذلك الاستمداد أن هذا النبي أو الولي يتشفع له عند الله ، وأن الحق تعالى هو الذي سيغيثه ويعينه اكراما لهذا الولي ، فلا شيء في ذلك ، ولا يكون ذلك كفراً .
ومما تقدم نخلص إلى القاعدة الشرعية التي قال بها الإمام أبو حامد الغزالي وهي :
( كل من ينتفع به حياً ينتفع به ميتاً ) ولعـل من أوضـح الأدلة على ثبوت الاغاثة الروحية وقطعيتها للأولياء الحديث الصحيح المشهور بحديث ( قـرب النوافل ) ، فقـد أخرج البخاري في صحيحـه عن أبي هريرة أن الله تعالى يقـول في الحديث القدسي : من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب ، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه ، وما يزال يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها وإن سألني لأعطينه وإن استعاذني لأعيذنه(21) ، إن هذا الحديث المطهر لينص صراحةً على أن من عباد الله من تكون كل حركاته وسكناته بالله تعالى ، فلا يسمع إلا بالله ، ولا يبصر إلا بالله ، ولا يتكلم إلا بالله ، وهو يقوم بالله ، ويقعد بالله ، ويقدر بالله ، ويؤثر في الأشياء بالله تعالى ء فهو ممده ومعينه ومكرمه بتلك القدرة التأثيرية معجزةً كانت أو كرامة ، يقول الله تعالى في الحديث القدسي :عبدي أطعني أجعلك ربانياً تقول للشيء كن فيكون (22) فمـن ينـل تكريم الربانية :وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ(23) بفضل الله تعالى ورحمته وحسن إخلاصه في عبادته وطاعته تصبح لديه القدرة والمقدرة على أن يسمع ويرى عباد الله تعالى عن بُعد ، استغاثوا به أم لم يستغيثوا ، ويستطيع أن يعينهم ويغيثهم (يدركهم) إن لزم الأمر بإذن الله تعالى وحده لا شريك له في ملكه ولا مانع لما يعطي من رحمته : هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (24) .
فالحق تعالى هو السامع المبصر المعين على الحقيقة وليس للنبي أو الولي المكرم إلا الوساطة الروحية بينهما ، والذي يؤكد لك ذلك جميع معجزات الأنبياء فكلها قدرات تأثيرية خارقة أظهرها الله تعالـى لخلقـه بوساطـة رسلـه :سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (25) .
وأما بالنسبة للأولياء ومقدرتهم على التغييروالتاثير ، والنفع والضر بالله تعالى فكل كرامات الأولياء المجمع على صحتها في الكتاب والسنة تؤديها ومنها :
قال تعالى على لسان سليمان : قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ . قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ . قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ (26). فهذا العبد الصالح آصف بن برخيا قد تمكن بقدرة الله تعالى من نقل عرش بلقيس بما فيه من اليمن إلى فلسطين في أقل من طرفة عين ، أفلا يستطيع أن يغيث (يدرك) مستغيثاً به عن بعد إذا شاء الله ذلك ؟ اللهم بلى ، فبمشيئته تعالى كل شي جائز وممكن . ومن ذلك ما أخرجه أبو نعيم عن عمر بن الحارث قال : ( بينا عمر يخطب يوم الجمعة إذ ترك الخطبة وقال يا سارية الجبل مرتين أو ثلاثاً ، ثم أقبل على خطبته ،
فقال بعض الحاضرين : لقد جن إنه لمجنون ، فدخل عليه عبد الرحمن بن عوف وكان يطمئن إليه .
فقال : أنك لتجعل لهم على نفسك مقالا ، بينما أنت تخطب إذ أنت تصيح يا سارية الجبل ، أي شيء هذا ؟
قال : إني والله ما ملكت ذلك ، رأيتهم يقاتلون عند جبل يؤتون من بين أيديهم ومن خلفهم فلم أملك أن قلـت : يا سارية الجبل ، ليلحقوا بالجبل .
فلبثوا إلى أن جاء رسول سارية بكتابه : إن القوم لقونا يوم الجمعة فقاتلناهم حتى إذا حضرت الجمعة سمعنا منادياً ينادي يا سارية : الجبل مرتين ، فلحقنا بالجبل ، فلم نزل قاهرين لعدونا حتى هزمهم الله وقتلهم ) (27) .
فهذا نص صريح وقطعي أيضا في أن الله تعالى قد أكرم الخليفة الثاني بأن جعله يرى ما يحصل في نهاوند وهو في الحجاز ، وأن يدرك سارية وجيشه إلى الجبل فيعينهم .. ترى يا منكري الكرامات والإغاثة الروحية كيف تفسرون هذه الحقيقة ؟ بل كيف تؤولونها ؟ نظر تطوى له الحدود والمسافات فيرى البعيد قريباً ، وسمع تضمحل أمامه الحواجز و الغشاوات فيسمع النداءات والاستغاثات ، وصوت يقطع الأجواء والفضاءات ليجيب الاستعانات . إن الذي يريد أن يؤول هذا النص أو غيره لهو كمن يريد أن يحجب ضوء الشمس بالغربال فلا شك أنه من حزب الشيطان .
فهذه لمحة عن المدد الروحي والقوة الروحية التي يكرم الله تعالى بها عباده الصالحين ، فهو سبحانه مصدرها الحقيقي وليس للعبد فيها إلا الوساطة تكريماً له .
الوسيلة بين السبب والمسبب
يتضح مما تقدم أن المؤمن لابد أن تكون له في جميع أحواله نظرتان :-
النظرة الاولى : نظرة توحيد لله عز وجل بأنه وحده مسبب الأسباب والفاعل المطلق في هذا الكون ، المنفرد بالإيجاد والإمداد ولا يجوز للعبد أن يشرك معه أحداً من خلقه ، مهما علا قدره أو سمت مرتبته من نبي أو ولي .
النظرة الثانية : نظرة للأسباب التي أثبتها الله تعالى بحكمته إذ جعل لكل شيء سبباً . فالمؤمن يتخذ الأسباب ، ولكنه لا يعتمد عليها ولا يعتقد بتأثيرها الإستقلالي . فإذا نظر العبد إلى السبب واعتقد بتأثيره المستقل عن الله تعالى فقد أشرك ، لأنه جعل الإله الواحد آلهة متعددة . وإذا نظر للمسبب وأهمل اتخاذ الأسباب فقد خالف سنة الله الذي جعل لكل شيء سبباً . والكمال هو النظر بالعينين معاً فتشهد المسبب ولا تهمل السبب ولتوضيح هذه الحقيقة نسوق هذه الأمثلة :-
إن الله تعالى هو وحده خالق البشر ، ومع ذلك فقد جعل لخلقهم سبباً عادياً وهو التقاء الزوجين وتكوين الجنين في رحم الأم وخروجه منه في أحسن تقويم .
إن الله تعالى هو وحده المميت ، ولكن جعل للإماته أسباباً ، وهو ملك المـوت ، فإذا لاحظنا المسبـب قلنا : اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ (28) ، وإذا قلنا فلان قد توفاه ملك الموت لا نكون قد أشركنا مع الله إلهاً آخر لأننا لاحظنا السبب كما بينه الله تعالى في قوله تعالى : قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُم(29) . وكذلك فإن الله تعالى هو الرزاق ، لكنه جعل للرزق أسبـاباً كالتجارة والزراعة ، فإذا لاحظنا المسبب أدركنا قوله تعالى : إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (30) ، وإذا لاحظنا السبب بمعرض التوحيد وقلنا فلان يُرزق من كسبه ولا نكون بذلك قد أشركنا ، فرسول الله يقول : ما أكل أحد طعام قط خيراً من أن يأكل من عمل يده (31) ، وقد جمع الرسول الأعظم بين النظرتين توضيحاً وبياناً في الكمال في قوله :والله المعطي وأنا القاسم (32) .
وكذلك الأمر بالنسبة للإنعام ففي معرض التوحيد قوله تعالى : وَمَا بـِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ (33) ، لأنه المنعم الحقيقي وحده . وفي معرض الجمع بين ملاحظة السبب والمسبب قوله تعالى :وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْه(34) ، فليس الرسول الأعظم شريكاً في عطائه وإنما سيقت النعمة لزيد بن حارثة بسببه ، فقد أسلم على يديه وأعتق بفضله وتزوج باختياره . وكـذلك بالنسـبة للإستعانة إذا نظرنا إلى المسبب وجدنا : قوله تعالى : وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (35) ، وإذا نظرنا للسبب وجدنا : قوله تعالى : وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى (36) ، وفي الحديث الشريف قوله : والله في عون المرء ما دام المرء في عون أخيه(37) ، فإذا قال المؤمن لأخيه : أعنّي على حَمل هذا المتاع لا يكون مشركاً مع الله تعالى أحداً ، ولا مستعيناً بغير الله تعالى ، لأن المؤمن ينظر بعينه فيرى السبب والمسبب ، وكل من يتهمه بالشرك فهو ضالٍ مضل . وهكذا الأمر بالنسبة للهداية ، إذا نظرنا للمسبب ، فالهادي هو الله وحده ، لهذا قال تعالى لرسوله الكريم : إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ (38) ، وإذا لاحظنا السبب نرى قوله تعالى : وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (39) ، أي : تكون سبب في هداية من أراد الله هدايته . والعلماء العارفون والمرشدون هم ورثة الرسول الأعظم في هداية الخلق ودلالتهم على الله تعالى ، فإذا استرشد مريد بشيخه فقد أتخذ سبباً من أسباب الهداية التي أمر الله بها جعلهم عليها أئمة يهدون إليها ، ولهذا قال تعالى : وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا(40) . فصلة المريد بشيخه صلة روحية لا تفصلها المسافات والحواجز المادية ، وإذا كانت الجدران والمسافات لا تفصل أصوات الأثير الذي نسمعه من المذياع فكيف تفصل بين الأصوات المطلقة ، لذا قالوا : ( إن شيخك ينفعك في بعده كما ينفعك في قربه ) . وبما أن الشيخ هو سبب هداية المريد إذا تعلق به وطلب منه المدد لا يكون قد أشرك بالله تعالى ، لأنه يلاحظ السبب كما أوضحنا سابقاً مع اعتقاده أن الهادي والممد هو الله تعالى ، وأن الشيخ ليس إلا سبب أقامه الله لهداية خلقه وإمدادهم بالنفحات القلبية والتوجيهات الشرعية ، ورسول الله هو البحر الزاخر الذي ينهل منه هؤلاء الشيوخ وعنه يفيضون . فإذا سلمنا بقيام الصلة الروحية بين المريد والشيخ ، سلمنا من قيام المدد المترتب عليها ، لأن الله يرزق بعضاً ببعض في أمر الدنيا والدين .
التعبير المجازي لا يعني كفراً
إن الفرق بين مقام الخالق والمخلوق هو الحد الفاصل بين الكفر و الإيمان ونعتقد أن من خلط بين المقامين فقد كفر والعياذ بالله ، فلكل مقام حقوقه الخاصة ، ولكن هناك أموراً ترد في هذا الباب ولاسيما ما يتعلـق بالنبي وخصائصه التي تميزه من غيره من البشر وترفعه عليهم هذه الأمور ، قد تشتبه على بعض الناس لقصر عقولهم وضعف تفكيرهم وضيق نظرهم وسوء فهمهم ، فيبادرون إلى الحكم بالكفر على أصحابها وإخراجهم عن دائرة الإسلام وإننا نبرأ إلى الله سبحانه وتعالى من ذلك . وإننا بفضل الله تعالى نعرف ما يجب لله وما يجب لرسوله الأعظم ونعرف ما هو محض حق لله تعالى ، وما هو محض حق لرسوله الأعظم من غير غلوٍ ، ولا إطراء يصل إلى حد وصفه بخصائص الربوبية ، والألوهية في المنع ، والعطاء ، والنفع ، والضر الاستقلالي ( دون الله تعالى ) . أما الفناء في محبته وطاعته والتعلق به ، فهذا واجب ومطلوب ، فإن الله تعالى عظم النبي في القرآن بأعلى أنواع التعظيم ، كما في قوله تعالى : وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (41) ، وقـال كذلك : لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (42) . ولم يقل الله تعالى في كتابه الكريم يا محمد كما قال يا موسى ويا عيسى أبن مريم ويا لوط ويا إبراهيم ، بل يارسول الله ، يا نبي الله وهذا من تعظيمه له . فيجب أن نعظم من عظمه الله تعالى وأمر بتعظيمه ، وقال تعالى : وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (43) ، وقال تعالى : وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَه (44) . ومن ذلك الكعبة المعظمة والحجر الأسود ومقام إبراهيم ، فإنها أحجار وأمرنا الله تعالى بتعظيمها بالطواف بالبيت ، ومس الركن اليماني ، وتقبيل الحجر الأسود ، وبالصلاة خلف المقام ، وبالوقوف للدعاء عند المستجار وباب الكعبة ، ونحن في ذلك كله لم نعبد إلا الله سبحانه وتعالى ، ولم نعتقد تأثيراً لغيره فلا يثبت شيء من ذلك لأحد سوى الله تعالى . ولا شك أن المجاز العقلي مستعملٌ في الكتاب والسنة ومن ذلك : قوله تعالى : وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً (45) ، فإسناد الزيادة إلى الآيات مجاز عقلي ، لأنها سبب في الزيادة والذي يزيد حقيقته هو الله تعالى وحده . وقوله تعالى : يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً(46) ، فإسناد الجعل على اليوم مجاز عقلي ، لأن اليوم محل جعلهم شيباً ، فالجعل المذكور واقع في اليوم والجاعل حقيقة هو الله تعالى . وقوله تعالى : وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً . وَقَدْ أَضَلُّوا
كَثِيراً(47) ، فإن الإضلال إلى الأصنام هو مجاز عقلي ، لأنها سبب في حصول الإضلال والهادي والمضل هو الله تعالى وحده . وقوله تعالى حاكياً عن فرعون : يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً (48)، فإسناد البناء إلى هامان مجازٌ عقليُّ إذْ لا يبني هو بنفسه والباني هم العمال . وقد تمسكت طوائف من أهل الضلالات بذيل شبهة ظواهر الألفاظ بلا نظر إلى القرائن ولا المقاصد بغير النظر إلى الجمع بما لا يؤدي إلى التعارض . وكما يقال ( قتل الأمير فلان ) لا يعني قتله بيده بل أمر بقتله ، أو قوله قتله السياف والسياف السبب ، لأن آلة القتل هي السيف والقاتل الحقيقي هو الله تعالى : وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى (49) ، وقال للذي ناوله التمرة : خذها لو لم تأتها لأتتك (50) ، فهل التمرة تأتي بنفسها فهذا تعبير مجازي . وعلى هذا فإن المريد إذا قال : مدد يا شيخي ، أو أغثني يا شيخ ، فلا شيء من الشرك في قوله هذا البته وما هو إلا تعبيرًٌ مجازي المراد منه طلب المعونة من الله تعالى بوساطة المكرم عنده ، فما زال المستغيث يعتقد أن الشيخ سبب ، وأن الله تعالى هو المسبب المؤثر على الحقيقة ، وأن الله تعالى هو الذي سيعينه بوساطة شيخه إكراما للشيخ ، فهو خارج دائرة الشرك أو الكفر بشتى أنواعه وصوره الظاهرية والخفية ، بل هو ممن يأخذ ويعمل بالاسباب التي سن الله تعالى الوجود عليها .
الوساطة ليست شركاً
تنفث أفعى الضلالة والفتن سمومها بشكل أفكار ضالة مضلة لقتل عقيدة الناس في فهم حقيقة الوساطة ، فيطلقون الأقوال هكذا جزافاً هنا وهناك بأن الوساطة شرك ، وأن من أتخذ وساطة بأي كيفية كانت فقد أشرك بالله تعالى ، وإن شأنه بهذا شأن المشركين
القائلين : مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى (51) ، ويعمدون إلى تطبيق الآيات التي نزلت بحق المشركين على المؤمنين ليدعموا فكرهم السقيم في نفي الوساطة أو الوسيلة ومن تلك الآيات قوله تعالى : وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ . إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (52) . وقوله تعالى : وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ(53) ، إلى غير ذلك من الآيات النازلة في المشركين ، وهذا الكلام مردود والاستدلال بهذه الآيات في غير محله ، وذلك لأن هذه الآيات الكريمة وغيرها صريحة في الإنكار على المشركين عبادتهم للأصنام واتخاذها آلهة من دونه تعالى وإشراكهم إياها في دعوى الربوبية ، وهم يعتقدون أنها أرباب من دون الله ويعظمونها أكثر من تعظيم الله ، أما المؤمنون الموحدون فبعيدون كل البعد عن هذه الجهالات ، والمقارنة الآتية بين عقيدة المسلمين بالوسيلة وبين عقيدة المشركين بالأوثان تكشف وتبين بدقة المراد من هذه الايات الكريمة وترد كل مكائدهم إلى نحورهم .
عقيدة أهل السنة بالوسيلة عقيدة المشركين بالاوثان
المسلمون ما اعتقدوا إلا إلهاً واحداً ،فعندهم الأنبياء أنبياء ، والأولياء أولياء ليس إلا.
أما المشركون فقد اعتقدوا أن الاصنام آلهة
المسلمون لا يعبدون إلا الله وحده لاشريك له .
المشركون اعتقدوا في أصنامهم آلهة تعبد من دون الله .
المسلمون لم يعبدوا الأنبياء والأولياء
المشركون عبدوا تلك الآلهة بالفعل
إن اتخاذ الأنبياء والمشايخ الكاملين وسائل لكونهم عباد الله المكرمين ، وإن قلوبهم عرش الرحمن .
أما الأصنام فهي جمادات لا تضر من جهة ولاتنفع من ناحية لكونها ليست ذات منـزلة عند الله ولاقربة منه .
فكيف يجوز إذن لأحد أن يجعل المؤمنين الموحدين مثل أولئك المشركين ، إذ أن سبب كفر المشركين هو عبادتهم لوسائلهم غير المأذون بها من الله تعالى ، وهذا بخلاف ما عند المسلمين ، ألا ترى أن الله تعالى لما أمر المسلمين باستقبال الكعبة في صلاتهم قد توجهوا بعبادتهم إليها ، واتخذوها قبلة ، وليس العبادة وتقبيل الحجر الأسود لها ، إنما عبودية لله تعالى واقتداء بالحبيب محمد ولو أن أحد المسلمين نوى العبادة لها لكان مشركاً كعبدة الأوثان . فالوساطة لابد منها ، وهي ليست شركاً ، وليس كل من اتخذ بينه وبين الله تعالى وساطة يعَدّ مشركاً ، وإلا لكان البشر كلهم مشركين بالله ، لأن أمورهم جميعاً تنبني على الوساطة !! فالنبي تلقى القرآن بوساطة جبريل u ، وهو الوساطة العظمى للصحابة ( رضي الله عنهم ) فقد كانوا يفزعون إليه في الشدائد فيشكون إليه حالهم ويتوسلون به إلى الله تعالى ، ويطلبون منه الدعاء فما كان يقول لهم : أشركتم وكفرتم ، فإنه لا يجوز الشكوى إليّ ولا الطلب مني ، بل عليكم أن تذهبوا وتدعوا وتسألوا بأنفسكم فإن الله أقرب إليكم مني ، بل يقف ويسأل مع أنهم يعلمون كل العلم أن المعطي حقيقة هو الله تعالى ، وأن المانع والباسط والرازق هو الله تعالى ، وأن الحبيب محمداً يعطي بإذن الله وفضله وهو الذي يقول :والله المعطي وأنا القاسم(54) ، وبذلك يظهر أنه يجوز وصف أي بشر عادي بأنه فرج كربة وقضى حاجة ، أي : كان وساطة فيها ، فكيف بالسيد الكريم والحبيب العظيم محمد المصطفى ؟ وهو سيد الكونين والثقلين وأفضل خلق الله على الإطلاق ، ألم يقل النبي كما جاء في الصحيح :من فرج عن مؤمن كربة من كرب الدنيا فرج الله عنه يوم القيامة(55) ، فالمؤمن مفرج الكربات : والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه (56) ، فالمؤمن معين . فالمؤمن هنا فرج وأعان وأغاث وقضى وفزع مع أن المفرج والقاضي والمعين حقيقة هو الله وهو صاحب اللواء المعقود والمقام المحمود ، صاحب الكرم والجود سيدنا وحبيبنا محمد .
رد الشبهات
سنرد هنا على بعض الشبهات التي لايفتأ المغرضون من بثها بين الناس لنرى معاً كم هي بعيده تلك الدعاوى الفارغة عن الحق والحقيقة ، ومنها : المنكر : يحتج بقوله تعالى :فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاع(57) ، ويرى أنه بناءاً على هذه الآية لاحاجة إلى طلب الدعاء من الأولياء . الردّ : إن الآية الكريمة إذا أخذت على المعنى اللفظي فإن الله سبحانه يجيب جميع من يدعوه ، وبما أنه لا يتحقق ذلك لجميع الداعين فإن للآية احتمالات أخرى في معناها ، وهي قوله تعالى : دَعْوَةَ الدَّاع ، إذْ يجب أن يكون في هذا الداعي صفات معينة وخواص محددة إذا اتصف بها أجُيب دعاءه ، وإذا فقدها أنحبست عنه الإجابة بسبب فقده هذه الصفات والخواص . وأول هذه الخواص وأهمها أن يكون من المتقين لقوله تعالى في آية أخرى :إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ(58) . والمتقي : هو الرجل الصالح ، والوالي الناصح الذي لا يخاف غير الله تعالى ، فلو وضعنا رجلاً صالحاً لا يخاف إلا الله تعالى في غرفة وأدخلنا عليه أسداً قوياً جائعاً وتحرك قلبه بالخوف من هذا المخلوق لما حسبناه من المتقين ، فالتقوى مرتبة عالية لا ينالها إلا من هداه الله إلى طريق التقوى واعتقد في قلبه اعتقادا صحيحاً ، إن الذي يحرك الساكنات ، ويسكن المتحركات هو الله وحده لا شريك له ، وجميع المخلوقات نواصيها بيد الحي
القيوم ، فهو لا يتوكل إلا عليه ، ولا يخاف إلا إياه ، وقد قيل : من خاف من الله خاف منه كل شيء ومن لم يخف من الله خاف من كل شيء . وقد وجدت في أمة الرسول الحبيب محمد سلسلة من الأولياء والصالحين المتقين الله تعالى حقاً ويقيناً وصدقاً يستغاث بهم إلى يوم القيامة، أنفاسهم مع الحق ، لا يغفلون عنه لحظة وأجسادهم بين الخلق يمشون بين الناس بالنصيحة . وقد ورد في الأثر ، أن سيدنا علياً كان جالساً تحت جدار عالٍ فجاء إعرابي يستفتيه ، فلما اقترب الأعرابي مال الجدار لينهار فقال : سيدنا علي سبحان الله ، فوقف عن السقوط ونادى إلى الأعرابي وأفتاه وقام سيدنا علي t وانهار الجدار مكانه فهذه هي درجة المتقين . وقد ذكر لنا في كتاب قلائد الجواهر : أن سيدنا الغوث الأعظم عبد القادر الكيلاني كان يعظ الناس على المنبر ، فنـزلت اليه من سقف المسجد أفعى كبيرة تدلت إلى أن وصلت عنقه بين ثوبه وجلده ، وهو يتكلم ولم يتغير ولم تتغير نبرات صوته حتى انتهى مجلسه ، فخرجت من جسده ووقفت أمامه ، وقال لها : ليس تحقيراً لكِ ما أنتِ إلا دويدةٍ يحركك القدر ، فهذه درجة المتقين . ونقل إلينا بالتواتر الصحيح أن السلطان حسين الكسنزاني كان جالساً أمام باب الخلوة ، فسقط عليه حجر كبير يزن أكثر من ألف طن وهو جالسٌ في الذكر مع الله تعالى ، وبقيت محجوزة في الهواء ساعة حتى أكمل ورده وسقطت مكانه ، فهذه درجة المتقين . وقد ذكر لنا تاريخ التصوف العريق قصص وروايات عن أولياء الله تعالى ، وهم جلوسٌ مع الأسود والنمور والأفاعي ، ويستخدمونها أحياناً كما يستخدم أحدنا
حماره ينقلون عليها متاعهم ، فكيف لا والله سبحانه وتعالى قال في حقهم : يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ (59) ، تقربوا إلى الله تعالى بالذكر ، حتى أصبح جليسهم ، كما ورد في الحديث القدسي :أنا جليس من ذكرني (60) . وإذا صحُت المجالسة فمن يستطيع الاعتداء على رجلً يجلس في حضرة الملك ؟ فكيف بمن يجلس مع ملك الملوك وقد امتلأ قلبه وروحه من نور المصطفى المستمد من نور الله تعالى ؟ المنكر : يحتج بقوله : وإذا سألت فاسأل الله (61) . ومن فهم من ظاهره منع السؤال من الغير مطلقاً ، أو منع التوسل بالغير على الأطلاق فقد أخطأ الطريق وغالط نفسه كل المغالطة ، وذلك لأن من اتخذ الأنبياء والصالحين وسيلة إلى الله لجلب خير منه أو دفع ضّرٍ ، فما هو إلا سائلٌ الله وحده أن ييسر له ما طلب أو يصرف عنه ما شاء متوسلاً إليه من توسل به ، هو في ذلك أخذ بالسبب الذي وضعه الله تعالى لينجي العبيد في قضاء حوائجهم منه ، ومن أخذ بالسبب الذي أمر الله بسلوكه لينال مراده فما سأل السبب بل سأل واضعه فقول القائل : يارسول الله أريد أن ترد عني أو تزيل عني البلاء أو أن تذهب مرضي ، فمعنى هذه الأشياء من الله تعالى بواسطة شفاعة الرسول وبذلك كله ما سئل في حاجته إلا الله عز وجل . وقال : إن لله خلقاً خلقهم لحوائج الناس يفزع الناس إليهم في حوائجهم أولئك الآمنون من عذاب الله (62) . ولو أجرينا الحديث على ظاهره لما سأل جاهل ، عالماً ، ولا واقع في مهلكة ، غوثاً ، ولا دائنٌ ديناً قضاء ما عليه ، ولا مستقرض قرضاً ، فالمقصود من الحديث ليس ما توهموه فإنه فاسد واضح الفساد كما تبين ، وإنما المقصود منه الترهيب من سؤال الناس أموالهم بلا حاجة إليها طمعاً منها والقناعة بما يسر الله تعالى ، وإن أردت المزيد فأسأل الله الذي بيده كل شيء ولا تسأل غيره . وإلا فاقعد في مكانك ولا تتحرك وقل : ربي أعطنـي ماء أشرب ، وأعطنـي طعاماً آكل ، اصنع لي فراشاً كي أنام ، لأنك إن سألـت غيره فقـد سألت غير الله ، وهذا بهتان عظيـم ، فالله سبحانـه خلق الأسباب والمسببات ، وقال تعالـى : فَأَتْبَعَ سَبَباً(63) .
عقيدة أهل التوسل
إن الذين أجمعوا من علماء المسلمين على جواز التوسل بالأنبياء والصالحين أو استحبابه لا يقصدون بذلك تأثير شيء منهم بإيجاد أو نفع أو دفع ضر ولا غير ذلك ، ولا يعتقدون ذلك البتة ، بل جميع المسلمين الذين يجيزون التوسل ، ويعتقدون أن الله تعالى هو الفعال لما يريد ، وهو المنفرد بالأيجاد والإعدام والنفع والضر ، وهو من بديهة العقائد عندهم . ويعتقدون أن الله تعالى هو المسبب لاشريك له في ذلك ، ولكن الله تعالى أمر باتخاذ الأسباب ، وجعل الرسول الأعظم سيدنا محمداً على قمة هذه الأسباب والأولياء والصالحين بعده وهذا تكريم من الله تعالى لهم ، لأنهم أقرب الناس إلى الله تعالى وأعلاهم درجات فقد قال تعالى : وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ (64) . يفزع الناس لهم ويسألونهم بتكريمه لهم ومنـزلتهم عنده لدفع الضر والبلاء ، ولا يختلف ذلك إن كانوا أحياء أو أمواتاً ، لأن الأحياء منهم لا تنقص منزلتهم عند الأموات ، وقد يكونون أصفى وأعلى في الدار الآخرة من الحياة الدنيا . وكل من ادعى بصحة التوسل بالأحياء دون الأموات فقد أشرك ، لاعتقاده أن الحي يؤثر والميت لا يؤثر وعندنا الحي والميت ليس له تأثيرٌ إستقلالي ، بل التأثير من الله تعالى لمنـزلتهم عنده وحبه لهم وحبهم له ، ولذلك نقول في تعبيرنا : اللهم إنا نسألك بجاه الغوث عبد الكريم الكسنـزاني ، أي : بمنـزلته عند الله ، فالله تعالى يكرمنا لمنـزلته عنده تعالى ، ليكون بذلك حقٌ للمؤمنين لترقي منازلهم ، ويكونون وسيلة يستشفع بهم عند الله تعالى . إن الله تعالى يحب أولياءه وقال فيهم : يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَه (65) ، إذ هم الفانون فيه ، أنفاسهم معه ، وقال في حقهم : ولئن استعاذنـي لأعيذنه (66) ، وحصنهـم مـن الشيطان في قوله تعالى : لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ(67) ، وقال تعالى فيهم :وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ (68) ، فهل من العدل الإلهي أن يتعامل معهم كما يتعامل مع المنافقين والحاسدين والمتكبرين في الأرض والذين يكفرون المسلمين ويقتلونهم ويسلبونهم أموالهم ويغتصبون نساءهم عدواناً وظلماً ؟ حاشا لله تعالى :أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ(69) .
_______________________
الهوامش :
[1] – المستدرك على الصحيحين ج 1 ص 574 .
[2] – سورة المائدة ، آية35 .
[3] – البقرة : 225 .
[4] – لزيادة الفائدة انظر أدلة الشفاعة في الفصل الثاني .
[5] – ق : 37 .
[6] – الإمام تقي الدين السبكي – شفاء السقام في زيارة خير الانام ( بيروت ) ، ص153–156 ، بتصرف .
[7] – الشيخ أحمد زيني دحلان – مصباح الانام وجلاء الظلام – ص181 .
[8] – الشيخ عبد الكريم المدرس – نور الإسلام – ص 136 – 137 .
[9] – القصص : 15 .
[10] – الكهف : 94 – 95 .
[11] – صحيح البخاري ج 2 ص 536 .
[12] – ميزان الإعتدال في نقد الرجال ج 1 ص 447 .
[13] – الفاتحة : 4 .
[14] – المستدرك على الصحيحين ج 3 ص 624 .
[15] – مجمع الزوائد ج 10 ص 159 .
[16] – المائدة : 2 .
[17] – صحيح مسلم ج 4 ص 2074 برقم 2699 ، انظر فهرس الأحاديث .
[18] – الأنبياء : 73 .
[19] – الشورى : 52 .
[20] – المائدة : 2 .
[21] – ورد في صحيح ابن حبان ج 2 ص 58 .
[22] – ورد بصيغة اخرى في صحيح البخاري ج 5 ص: 2384 برقم 6137 ، .
[23] – آل عمران : 79 .
[24] – سورة ص : 39 .
[25] – الفتح : 23 .
[26] – النمل : 38 ، 39 ، 40 .
[27] – أخرجه البيهقي وابو نعيم وابن عساكر وغيرهم ، انظر كتاب الصواعق المحرقة لابن حجر الهيتمي ص101 .
[28] – الزمر : 42 .
[29] – السجدة : 11 .
[30] – الذاريات : 58 .
[31] – صحيح البخاري ج 2 ص 730 .
[32] – ورد بصيغة اخرى في صحيح البخاري ج 1 ص: 39 برقم 71 ، انظر فهرس الأحاديث .
[33] – النحل : 53 .
[34] – الأحزاب : 37 .
[35] – يوسف : 18 .
[36] – المائدة : 2 . [37] – صحيح مسلم ج 4 ص 2074 برقم 2699 .
[38] – القصص : 56 . [39] – الشورى : 52 .
[40] – الأنبياء : 73 .
[41] – الانشراح : 4 .
[42] – الحجر : 72 .
[43] – الحج : 32 .
[44] – الحج : 30 .
[45] – الأنفال : 2 .
[46] – المزمل : 17 .
[47] – نوح : 23 ، 24 .
[48] – غافر : 36 .
[49] – الأنفال : 17 .
[50] – صحيح ابن حبان ج 8 ص 33 .
[51] – الزمر : 3 .
[52] – فاطر : 13 ، 14 .
[53] – يونس : 106 .
[54] – ورد بصيغة اخرى في صحيح البخاري ج: 1 ص: 39 برقم 71 .
[55] – صحيح مسلم ج: 4 ص: 1996.
[56] – صحيح مسلم ج: 4 ص: 2074 برقم 2699 .
[57] – البقرة : 186 .
[58] – المائدة : 27 .
[59] – المائدة : 54 .
[60] – كشف الخفاء 1 / 201 – 202 .
[61] – المستدرك على الصحيحين ج: 3 ص: 623 برقم 6303 .
[62] – المعجم الكبير ج: 12 ص: 358 .
[63] – الكهف : 85 .
[64] – الزخرف : 32 .
[65] – المائدة : 54 .
[66] – ورد في صحيح ابن حبان ج: 2 ص: 58 .
[67] – الحجر : 42 .
[68] – ص : 47 .
[69] – الجاثية : 21 .
المصدر : السيد الشيخ محمد الكسنزان الحسيني – موسوعة الكسنزان فيما اصطلح عليه اهل التصوف والعرفان – ج21 – ( مادة و س ل ) .