سمي الصدق صدقا لقوته في نفسه لان الكذب لا قوة فيه ( وقولهم في شيء صدق أي صلب )(1).
والصدق أيراد الحقيقة كاملة من غير زيادة أو نقصان ويقترن الصدق بالإخلاص لان المريد إذا اخلص فهو صادق وإذا صدق فهو مخلص والصدق يجب إن يكون في القول والعمل والنية , فالصدق في القول هو أن يصدق قلب المريد ما يقوله لسانه من ذكر وتوحيد وبمعنى أخر إن يصدق لسان المريد قلبه ويتم التوحيد في العمل .
وصدق العمل يكمن في أن يكون ذلك العمل خالصا لله دون رياء أو نفاق فصدق المريد مع شيخه يكون في التزامه تعليمات الشيخ واستمراره على الأوراد التي كلفه بها الشيخ لأجل السير به نحو النجاة والتقرب به من حضرة الجليل فان صدق المريد في نيته طلبا لوجهه تعالى عليه الصدق في العمل مع الشيخ والتزام طاعته لان العهد مقطوع سابقا فيجب الوفاء به والوفاء للشيخ يعني الوفاء لله تعالى : ( من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه )(2) , فحقيقة الصدق أن يستوي عند المريد سره وعلانيته وان يتحد قوله وفعله مع قلبه ونيته فيكون بذلك صديقا قال تعالى : (هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم )(3) .
والصدق في مقدمة الأعمال الصالحة للسالكين لأنه عين العبادة فبدونه تنفى كثير من الأمـــور , قــال الرســول ﷺ : ( عليكم بالصدق فان الصدق يهدي إلى البر وان البر يهدي إلى الجنة ومازال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا)(4), ويحتل الصدق موقع الشمس بين بقية الأعمال فهو النور الذي بدونه لا تقوم العبادات ولا تصلح كنور الشمس الذي بدونه لا تقوم حياة .
قال الإمام الصادق عليه السلام (الصدق نور متشعشع في عالمه كالشمس يستضيء بها كل شيء تغشاه من غير نقصان يقع على معناها) (5) .
وقال السيد الشيخ عبد القادر الكيلانيقدس الله سره : ( الصادق لو لقي الخلق كلهم ما حل له النظر إلى غير محبوبة عز وجل وما تكبر في عيني رأسه الدنيا وما تكبر في عيني قلبه الآخرة وما تكبر في عيني سره غير المولى عز وجل زعاق المنافق من لسانه وراسه وزعاق الصادق من قلبه وسر قلبه على باب ربه وسره داخل عليه لا يزال يصرخ على الباب حتى يدخل النار )(6) .
وقال قدس الله سره : ( يا كذابين الصادق لا يرجع , الصادق لا ظهر له ,الصادق أمام بلا وراء , صدق بلا كذب ,قول وعمل ودعوى وبينة ,ما يرجع عن محبوبة عز وجل بسهام تاتيه بل يتلقاها بصدره , حبك للشيء يعمي ويصم , من علم ما يطلب هان عليه ما يبذل , المحب الصادق في محبته أبدا يقتحم الإخطار في طلب محبوبة عز وجل ولو كان بين يديه نار غاص فيها يهجم على مالا يتجاسر عليه غيره صدقه يحمله على ذلك محبته وقلة صبره عن محبوبة عز وجل تحمله على ذلك البلايا تظهر وتميز بين الصادق الكاذب ما أحسن ما قال بعضهم شعرا :
وفي حالة السخط لا في الرضا يبين المحب من المبغض)(7)
فالصادق الحق يلازم حالة الصدق وان بذل في ذلك مهجته وألا فان اختل صدقه خشية الخطر خرج من زمرة الصادقين قال الجنيد البغداديقدس الله سره : (حقيقة الصدق إن تصدق في مواطن لا ينــجيك منــها إلا الــكذب )(8) , فهذه هي صفة من الصادقين الذين لا يسمعون لومة لائم ولا عذل عاذل في حبهم لله ولنا مثال في صحابة الرسول ﷺ من الرجال والنساء الذين صدقوا مع الرسول ﷺ عهدهم فلم يردعهم اللوم والتعذيب ولا التجريح حتى كان البعض منهم يكوى بالحديد المحمى والأخر يضرب بالسياط وثالث يحرم من الطعام فما اختل عهد احد منهم ولا تهاون احدهم في صدق قوله وفعله فنالوا بذلك درجات الصادقين أمثال بلال وخباب وصهيب وعمار وياسر وسمية .
وروي أن فرعون عندما اشتد في عذاب زوجته أسيا قال لها : أتدري عن دين موسى ؟ فقالت : انك تغلب نفسي , وقلبي في عصمة ربي لو قطعتني اربأ ما زدت ألا حبا , فهذا صدق عهد مع الله قولا وفعلا , سرا وعلانية .
قال أبو الحسن الزنجاني : (اصل ألعباده على ثلاثة أركان العين والقلب واللسان : فالعين بالعبرة , والقلب بالفكرة , واللسان بالصدق والتسبيح والذكر)(9) .
والصادق لا يرى من الناس ألا الصدق فتراه يصدق ما يقولون لأنه لا يعرف غير ذلك فيصق الكاذب لأنه لا يعرف الكذب وهكذا نرى ادم عليه السلام قد صدق إبليس في كذبه لأنه عليه السلام صادق لا يعرف حقيقة أخرى غير الصدق وهذا المعنى لدى ادم عليه السلام لا يسع معنى أخر ضده . الصادق يجب إن لا تحدثه نفسه بأنه صادق بل يرى صدقه دائما غير متكامل وهذا حاله كحال الإخلاص قال سهل بن عبد الله التستري : (اول خيانة الصادقين حديثهم مع أنفسهم )(10), لان المريد متى رأى نفسه أو ظن انه مخلص صادق وقع في آفة العجب والغرور , والصادق في حبه وعهده تنعدم في عينه الرؤية فلا يرى سوى محبوبة وتعمى عينه عمن سواه فلا تكبر امامه الدنيا ولا الآخرة ولا يعظم في نفسه ثواب أو عقاب يكابد الأهوال في طلب محبوبة ويهون عليه ما يبذل من مال وجهاد للنفس .
وسئل أبو يزيد البسطامي ما اسم الله الأعظم ؟ فقال : اروني الأصغر حتى اريكم الأعظم , ما هو إلا الصدق اصدق وخذ أي اسم شئت ,أسماء الله سبحانه وتعالى كلها عظيمة .
وذكر الإمام الغزالي للصدق معان ستة فقال : (اعلم إن لفظ الصدق يستعمل في ستة معان : صدق في القول وصدق في النية والإرادة ,وصدق في العزم ,وصدق في الوفاء بالعزم وصدق في العمل وصدق في تحقيق مقامات الدين كلها فمن اتصف بالصدق في جميع ذلك فهو صديق :
1- صدق اللسان يكون في الأخبار وفيه يدخل الوفاء بالوعد والخلف فيه .
2- صدق في النية والإرادة ويرجع ذلك إلى الإخلاص وهو إن يكون باعث في الحركات والسكنات ألا الله تعالى .
3- صدق في العزم على العمل لله تعالى .
4- صدق الوفاء بالعزم بتذليل العقبات .
5- صدق في الأعمال حتى لا تدل أعماله الظاهرة على أمر في باطنه لا يتصف به .
6- الصدق في مقامات الدين كالخوف والرجاء والتعظيم والزهد والرضا والتوكل والحب )(11) .
(فالصدق صفة ينبعث منها العزم والتصميم والهة والترقي في مدارج الكمالات والتخلي عن صفات الناقصة المذمومة, وهو سيف الله في يد السالك يقطع به حبال العلائق والعوائق التي تعترض طريقة في سيره إلى الله تعالى ولولاه لما استطاع أن يتطلق في مدارج الترقي ولكان معرضا للوقوف والانقطاع )(12).
وتظهر أهميه الصدق وعظم أثاره في اعتباره ارفع الدرجات بعد النبوة والرسالة عند الله عز وجل قال تعالى : ( ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين انعم الله عليهم من النبين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا)(13),فقد جعل الله سبحانه وتعالى الصديقين رفاقا للأنبياء والصدق من تساوت أفعاله وأقواله واتسمت بالصدق والإخلاص ,قال أبوا قاسم القشيري (اقل الصدق استاوء السر والعلانية , والصادق من صدق في اقواله والصديق من صدق في جميع اقواله وأفعاله وأحواله ).
الهوامش:
(1) احمد فارس – معجم مقاييس اللغة .
(2) الأحزاب : 23.
(3) المائدة : 119.
(4) رواه الاربعه .
(5) عادل خير الدين – للامام جعفر الصادق – العالم الفكري
(6) جلاء الخاطر من كلام الشيخ عبد القادر – الناشر الشيخ محمد الكسنزاني – ص33 .
(7) جلاء الخاطر من كلام الشيخ عبد القادر – الناشر محمد الكسنزاني –ص33.
(8) الرسالة القشيرية .
(9) مكاشفة القلوب للغزالي .
(10) الرسالة القشيرية .
(11) احياء علوم الدين : ج4 , ص334.
(12) حقائق عن التصوف عبد القادر عيسى- ص206 .
(13) النساء :69.
المصدر :
السيد الشيخ محمد الكسنزان – كتاب الطريقة العلية القادرية الكسنزانية – ص127-131 .