الصبر لغة الحبس صبرت نفسي على ذلك الامر حبستها , والصبر من الحجارة ما اشتد وغظ (1) . وهو تكريس الطاقة البشرية لتحمل ما يقع على الانسان من جهد سواء كان فكريا او نفسيا او جسديا ويصيبه باذى معين .
والصبر من صفات الانبياء والمرسلين قال تعالى مخاطبا رسوله الكريم ﷺ : ( فاصبروا كما صبر اولو العزم من الرسل )(2) ,وجعل الله سبحانه وتعالى الفلاح في الصبر بقوله جل وعلا : (يا ايها الذين امنوا اصبروا وصابروا ورابطوا وتقوا الله لعلكم تفلحون )(3) , ويوصي الله سبحانه وتعالى رسوله الكريم ﷺ بموالاة الصابرين العابدين لله حق عبادته بقوله : ( واصبر نفسكم مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه )(4) , والصبر يمحو السيئات والخطايا ويقرب العبد من حضرة الجليل قال رسولﷺ : ( ما يزال البلاء بالمؤمــن والمؤمنة في نفــسه وماله وولده حــتى يلقى الله وما عليه خطيئة), وقال ﷺ : ( ما يصيب المسلم من نصب ولا صبر ولا هم ولا حزن ولا اذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها الا كفر الله بها من خطايا )(5) , والصبر من الشــجاعة قال الامــام علــي كرم الله وجهه : ( البخل عار والجبن منقصه والصبر شجاعة )(6) والصبر نوعان :
صبر على الدنيا وصبر على الدين
فصبر الدنيا يبدا بالشكر على الرخاء ومعرفة الانسان لنعم الله وفضله عليه ومن ثم شكره عليها بانفاقها في مجال يرضيه وعدم استخدامه هذه النعم في معصية الله فلا تسخر العقول النيرة للاجرام ولا تستخدم الاموال لارتكاب الفواحش وانتهاك محارم الله .
والبصر على البلاء من صفات الصالحين لان الدنيا دار امتحان اذ ان الله تعالى يختبر ايمان عبده بانواع المصائب فالمريض الصابر على بلائه والفقير الصابر على جوعه وهكذا .
واما الصبر على الحكم فذلك هو قمة الصبر على الدنيا لان الله سبحانه وتعالى حبب الى العبد الدنيا وزخارفها ثم قضى عليه ما شاء ليرى مدى صبره وتحمله فاذا صبر العبد جرت تلك المقدرات عليه وهو ماجور عليها وان جزع فهي جارية عليه وله منها الوزر على جرعه فيها ومن ذلك بلاء العبد بالموت والفراق .
روي عن النبي ﷺ انه مر بامراة تبكي على قبر صــبي لها فقال : ( اتقــي الله واصبري ) وانه ﷺ قال عند وفاة ولده ابراهيم : ( ان العين لتدمع والقلب ليحزن ولكن لا نقول ما يغضب الرب وانا بك يا ابراهيم لمحزنون ) .
وقال الامام جعفر الصادق عليه السلام (الصبر يظهر ما في بواطن العباد من النور والصفاء والجزع يظهر ما في بواطنهم من الظلمة والوحشة , والصبر يدعيه كل احد , وما يثبت عنده الا المخبتون , والجزع ينكره كل احد ,وهو بين على المنافقين, لان نزول المحنه والمصيبة مخبر عن الصادق والكاذب) .
قال السيد الشيخ عبد القادر الكيلاني قدس الله سره : (اصبر على اذية الخلق والجيران , فان في الصبر خيرا كثيرا كلكم مامورون بالصبر اصبروا على الامر بالقدر حتى ينقلب السماع يقينا , الصبر اساس الخير الملائكة ابتلوا فصبروا, والانبياء ابتلوا فصبروا وانتم على اثر القوم فافعلوا كفعلهم واصبروا كصبرهم , القلب اذا صح لا يبالي بمن خالفه ومن وافقه بمن حمده ومن ذمه , ومن اعطاه ومن نعمه , بمن قربه ومن ابعده بمن قلبه او رده القلب الصحيح يمتليء توحيدا وتوكيلا ويقينا وايمانا ومن الله عز وجل قربا يرى الخلق كلهم بعين العجز والذل والفقر ومع ذلك لا يتكبر على طفل صغير منهم)(7).
وقال قدس الله سره : ( ويحك اذكر جوع الجياع وعري العراة , ومرض المرضى وحبس المحبوسين , وقد هان عليك ما عندك من البلاء , اذكر اهل القبور في اهوال القيامه , اذكر علم الله عز وجل فيك ونظراته اليك وسابقته لك وقد استحيت منه , اذا ضاق بك الامر فتفكر في ذنوبك وتب منها وقل لنفسك بذنوبك ضيق الحق عليك , اذا تبت من الذنوب واتقيت الحق عز وجل جعل لك من كل هم فرجا ومن كل ضيق مخرجا قال الله عز وجل : (ومن يتق الله يجعل له مخرجا . ويرزقه من حيث لا يحتسب)(8) ,اذا وافقت ولم تنازع وشكرت ولمتفكر ,ورضيت ولم تسخط وسكنت ولم تشك اليس الله بكاف عبده )(9) .
وقال قدس الله سره : ( يا فقراء اصبروا على فقركم وقد جـاءكم الغنى في الدنيا والاخــــرة عــن النـــــبي ﷺ قال : (الفقراء الصبر جلساء الله عز وجل يوم القيامة ) ,الفقراء الصبر جلساء الرحمن عز وجل اليوم بقلوبهم وغدا باجسادهم ,ما من مؤمن الا عند الموت يكشف عن بصره فيرى ماله في الجنة فيطيب له الموت والسكرات )(10) , فالصبر اذن حبس للنفس لتقبل ما حكم الله ، قال ابن عجيبة : (الصبر حبس القلب على حكم الرب)(11) , والصبر على الدنيا دليل على عمق الايمان بالله ومحبته قال ابو الدرداء :(ذروة الايمان الصبر للحكم والرضا بالقدر ) , قال القناد رحمه الله : (الصبر ملازمة الواجب في الاعراض عن المنتهى عنه والمواظبة على المامور به )(12) .
والسادة اهل الطريقة لا يرضون بالقدر فحسب بل يشعرون بمتعة الالم في صبرهم . قال ذو النون المصري لمريض كان يزوره : ليس صادقا في حبه من لم يصبر على ضربه , فقال المريض : بل ليس صادقا في حبه من لم يتلذذ بضربه .
والصبر في الدنيا يكون بالتحمل بلا شكوى للناس فان شكى ربه الى الناس خرج من حدود الصبر قال بشر الحافي : (الصبر الجميل هو الذي لا شكوى فيه للناس )(13) ,انما جواز الشكوى من الله الى الله سبحانه وتعالى بدليل شكوى النبي ايوب عليه السلام فقد شكى الى الله الضر ومع ذلك لم يخرجه من دائرة الصابرين ، قال القناد رحمه الله : (الصابر من يصبر في الله ولله ولا يجزع ولا يتمـكن منــه الجــزع ويتوقع منه شكوى )(14) .
واما الصبر على الدين فيشمل الصبر على اجتناب المحارم والتزام الطاعات والصبر على الامر بالمعروف والنهي عن المنكر فالصبر على الطاعات يبدا بالتغلب على الشهوات النفسية وشدة تعلقها بمغريات الحياة خاصة ما حرم منها فان النفس مغرمة بكل ما هو محرم من قبل الله تعالى لذا فان تربية اهل الطريقة تبدا من هنا أي محاولة السيطرة على الشهوات النفس وكسرها بالرياضات والتسبيح وسد جميع المنافذ المؤدية الى المحرمات ثم المشبوهات ثم تدريجا حتى يصل الى تقليل الاستفادة من الحلال وهي درجة الورع ثم ياتي الصبر على مواصل العبادات وتحمل القيام بها وما يتبعها من جهد طلبا لوجهه تعالى .
وحينما يخلص المريد مع شيخه من تصفية قلبه من غير حب الله وتعوده على الصبر في الدنيا والدين وجب عليه الان الصبر على اذى الناس وطعنهم في دينه اسوة بسيدنا محمد ﷺ حيث بث دعوته في مكة فاذاه المشركون وادموره فقابل جهلهم بنبله ومسح الدم عن وجهه ودعى لهم بالـهداية واستــغفر لــهم وقال: ( الهم اغفر لقومــي فـانهم لا يعلمون)(15).
وهذا نجده اليوم في ال بيته الطاهرين مشايخ الطريقة الكسنزانية من بذل لاموالهم وجهدهم في سبيل نشر تعاليم الدين الحنيف وصبر وجهاد في هذا المجال لقد ورثوا قدست اسرارهم عن النبي ﷺ دعوته وجهاد هو تعاليمه وراياته كما ورثوا عنه حبه لله وتقواه وصبره ونبله واستقامته .
ان الصبر يتمثل في هذا المجال بالصبر على اقوال الناس واذاهم بالتكذيب فهو نعمة من الله تعالى ينعم بها على العبد لمن يشاء ولا تجاريها نعمة اخرى سوى التجلي الرباني , قال الرسول ﷺ : ( ما اعطي احد عطاء خيرا واوسع من الصبر ) , والصبر يختلف باختلاف السالكين فصبر الناس العامة يكون في حبس القلب على مشاق العباده وترك جميع المهنات من قبل الله عز وجل وصبر السالكين المتقدمين يكون في مجاهدتهم للنفس مع مراقبة القلب ودوام حضوره مع الله وصبر اهل الطريقة الواصلين حبسهم لارواحهم في الدوام العكوف والنظر الى الله .
والصبر من اشد الاعمال على النفس لانه يحبسها عما تطلب ويثبتها في مواجهة ما تكره فلولا ايمان المؤمن بقدرة الله وحبه ما صبر ولا احتسب ,ولكنه امن وعمل صالحا ثم اهتدى الى نور الله بواسطة الشيخ العارف فكان الصبر على بلاء المحبوب متعة كبيرة بالنسبة للسالك .
ويقسم الصبر الى ثلاثة اقسام
صبر على الطاعات ,
صبر على المعاصي ,
وصبر على المصائب .
فالصبر على الطاعات هو الاستقامة على شرع الله والمثابرة الدائمة على العبادات والصبر على ما يتعرض ذلك من انواع الابتلاء .
والصبر على المعاصي هو مجاهدة النفس نزواتها ومحاربة انحرافها وتقويم اعوجاجها وقمع دوافع الشر والفساد والتي يثيرها الشيطان فيها .
واما الصبر عن المصائب فان الله تعالى يختبر ايمان عباده – وهو اعلم – بانواع المصائب ويمتحن المؤمنين بصنوف المحن كي يميز الخبيث من الطيب والمؤمن من المنافق قال تعالى : ( الم ,احسب الناس ان يتركوا ان يقولوا امنا وهم لا يفتنون )(16)(17) .
الهوامش :
(1) احمد بن فارس – معجم مقاييس اللغة .
(2) الاحقاف: 35 .
(3) ال عمران :200 .
(4) الكهف : 28 .
(5) رواه البخاري ومسلم .
(6) نهج البلاغ للامام علي .
(7) جلاء الخاطر من كلام الشيخ عبد القادر .
(8) الطلاق :3-2 .
(9) جلاء الخاطر من كلام الشيخ عبد القادر .
(10) المصدر نفسه .
(11) لابن عجيبة – معراج التشوف الى حقائق التصوف .
(12) سعاد الحكيم – المعجم الصوفي .
(13) طبقات الصوفية للملمي .
(14) المصدر نفسه .
(15) عبد القادر – حقائق عن التصوف – ص225 .
(16) العنكبوت:2-1.
(17) عبد القادر عيسى –حقائق عن التصوف – ص225.
المصادر:
السيد الشيخ محمد الكسنزان – كتاب الطريقة العلية القادرية الكسنزانية – ص136-140 .