الزهد الشيء القليل ورجل مزهد أي مقل (1) , والزهد تفريغ القلب والنفس من حب الدنيا وزينتها وامتلاؤهما بحب الله ومعرفته .وهو ادبار عن الدنيا واقبال على الاخرة من غير تاسف عليها ولا اعجاب في تركها ولا طلب تقدير هذا العمل وان يرى الزاهد ترك الدنيا راحة والبحث عنها افة , ويخلص الزهد في القران الكريم بقوله تعالى : (لكيلا تاسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما اتاكم )(2) .
وسيد الزهاد في الدنيا هو سيدنا محمد ﷺ فقد كان ازهد الناس في الدنيا مع امكان مطاوعتها اياه وانقيادها له حتى انتقل ﷺ الى الرفيق الاعلى , فالدنيا زائلة ومتاعها في الاخرة قليل قال تعالى : (ما الحياة الدنيا الا لعب ولهو واللدار الاخرة خير للذين يتقون افلا تعقلون)(3) . وقال تعالى : (المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير املا)(4) .
وقد جعلت الدنيا وما تحويه من مغريات فتنة وامتحانا للعباد قال تعالى : (انا جعلنا ما على الارض زينة لها لنبلوهم ايهم احسن عملا)(5) .
وكان الرسول ﷺ يدعوا اصحابه الى الزهد في الدنيا وترك مغرياتها فقال ﷺ : ( كن في الدنيا كانك غريب او عابر سبيل)(6) , وقال ﷺ : (الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر)(7) وقال : (ازهد في الدنيا يحبك الله , وازهد فيما عند الناس يحبك الناس)(8) , ويؤكد ﷺ ان الزهد في الدنيا هو قصر الاكل فيقول ﷺ : (ما انا في هذه الدــنيا الا كراكب استــظل تحــت شجرة ثم راح وتركها)(9) , وقالﷺ : (حب الدنيا راس كل خطيئة)(10).
الا ترى كيف احب ما ابغضه الله واية خطيئة اشد جرما من هذا . ومن زهده ﷺ عن ابي بكر الصديق رضي الله عنه قال: كنت مع النبي ﷺ فجعل يدفع عنه شيئا ويقول : (اليك عني ,اليك عني) , ولم ار معه احدا فقلت : يا رسول الله ﷺ اراك تدفع شيئا ولا ارى معك احدا فقال : (هذه الدنيا تمثلت لي بما فيها فقلت لها اليك عني فتنحت وقالت اما والله لئن انفلت مني لا ينفلت مني من بعدك) .
وهكذا قال لها الامام علي كرم الله وجهه عندما تمثلت له بصورة حسناء فنهرها وقال : (غري غيري ,غري غيري )(11) , وقال كرم الله وجهه : (ازهد في الدنيا يبصرك الله عورتها )(12) , والزهد يكون بترك الدنيا مع قدرة عليها وليس في ادبارها عن المرء فتكون في قلبه بعيدة عن متناول يده ويدعي الزهد انما يجب ان تخرج من قلبه قبل كل شيء .
والفقير لا يملك الدنيا بل يملك قوة الارادة والكفاح فيها والسعي خلفها فان ترك البحث عنها مع فقرة عد من الزاهدين كذلك .قال ابو عبد الله عليه السلام : (ليس الزهد في الدنيا باضاعة المال ولا بتحريم الحلال بل بالزهد ان لا يكون بما في يدك اوثق منك بما في يد الله )(13) .
وقال السيد الشيخ عبد القادر الكيلاني قدس الله سره : (حقيقة الزهد ترك الدنيا وترك الاخرة وترك الشهوات واللذات وترك الوجود وترك طلب الحالات والدرجات والمقامات والكرامات وترك كل شيء سوى رب البريات حتى لا يبقى الا الخالق عز وجل اليه المنتهى وهو غاية الامل واليه تصير الامور )(14) , وقال قدس الله سره : (من صح زهده في الخلق صحت رغبتهم فيه وانتفعوا بكلامه والنظر اليه اذا صح زهد القلب في الخلق وزهد السر في جميع ما سوى الله عز وجل القرب منه كان القرب في الدنيا خليله وفي الاخرة انيسه )(15) .
وقال ايضا : (ويحك القلب يزهد لا الجسد يا متزهد بالظاهر زهدك مردود عليك قد خبات عمامتك وقميصك , ودفنت ذهبك في الارض ,قطع الله عز وجل جلدك وراسك ان تتب قد فتحت دكانك تبيع فيه النفاق , ويل لك المؤمن زهد قلبه , قرب ربه عز وجل في سره , الدنيا واخرة على بابه في خزانته لا في القلب , قلبه فارغ من مولاه , فكيف يسع غيره وقد امتلا به وبذكره وقربه ؟ قلبه فارغ منكسر لاجل مولاه عز وجل فلا جرم يكون عنده قال الله عز وجل في بعض كلامه : (انا عند المكسرة قلوبهم من اجلي), انكسرت نفوسهم بترك الدنيا وانكسرت قلوبهم لاجل المولى عز وجل فلما تحقق لهم الانسكار جاء اليهم وجبر كسرهم ,وجاء الطبيب فطببهم . هذا هو النعم لا نعيم الدنيا والاخرة )(16) .
قال الامام جعفر الصادق عليه السلام : (الزهد مفتاح باب الاخرة والبراءة من النار وهو تركك كل شيء يشغلك عن الله تعالى , من عير تاسف على قوتها ولا اعجاب في تركه . ولا انتظار فرج منها , ولا طلب محمدة عليه , ولا غرض لها بل يرى فوتها راحة وكونها افة ويكون ابدا هاربا من الافة معتصما بالراحة والجوع على الشبع وعافية الاجل على محنة العاجل ,والذكر على الغفلة وتكون نفسه في الدنيا وقلــبه في الاخرة )(17) .
وقال بعض اهل البيت : (لو كانت الدنيا باجمعها لقمة في فم طفل كيف حال من نبذ حدود الله وراء ظهره في طلبها والحرص عليها )(18) .
والزهد هو اعظم مقام عرف به اهل الطريقة حيث لم يقيموا للدنيا وزنا ولم يرفعوا بها راسا اذ محبة الله ورسوله ﷺ لا تنال الا بالزهد في الدنيا , والمراد به هو انصراف الهمة الى الله تعالى عن سهل بن سعد الساعدي ان رسول الله ﷺ قال: (لو كانت الدنيا تعدل عند الله عز وجل جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء)(19) .
والزهد ثلاثة انواع عند اهل الطريقة
زهد العامة من الناس : هو ترك الدنيا ما زاد عن حاجتهم لادامة الحياة .
وزهد السالكين : يكون في ترك القليل طمعا في الكثير فتركوا الدنيا لان متاعها في الاخرة قليل واقلبوا على الاخرة .
وزهد العارفين : الذين زهدوا في كل شيء سوى الله قال ابو يزيد البسطامي : (زهدت في الدنيا ثم زهدت في الاخرة ثم زهدت في كل ما سوى الله فناداني الحق ما تريد ؟ فقلت اريد ان لا اريد), فهذا هو التجرد من الارادة في الحركات والسكنات وكل شيء فكان بالله ولله ومن الله .
ويرجع سبب النجاء اهل الطريقة الى الزهد في الدنيا الى ثلاثة اسس
1- انهم عملوا بان الدنيا ظل زائل وخيال زائر والرحيل منها الى دار البقاء اما الى نعيم واما الى العذاب .
2- عملوا ان وراء الدنيا داراء الدنيا دار اعظم منها قدرا واجل خطرا وهي دار البقاء قال تعالى : (قل متاع الدنيا قليل والاخرة خير لمن اتقى)(20) .
3- عملوا ان زهدهم فيها لا يمنعهم شيئا كتب لهم وان حرصهم عليها لا يجلب لهم مالم يقض لهم منها فما اصابهم لم يكن ليخطئهم وما اخطاهم لم يكن ليصيبهم(21) .
والزهد في الدنيا يقسم حسب ما تحويه من مغريات
الزهد في الطعام : اعلى درجات الزهد في الطعام هي ان يكتفي السالك بما يدفع عنه الجوع ولا يتقد بغداء او عشاء ويقتصر على لقيمات يقمن صلبه .
والدرجة الثانية : ان يتقيد الزاهد بالغداء والعشاء ولكن لا يدخر شيئا .
والدرجة الثالثة : ان يتقيد الزاهد بالغداء والعشاء ويدخر قوت يوم واحد وان زاد خرج عن حدود الزهد .واما الادم فاعلى درجات الزهد فيه الملح والخل ثم ياتي بعده الزيت والدرجة الثالثة هي اللحم في الاسبوع مرة وان زاد خرج عن حدود الزهد :
ويصف بعضه زهدا في الملابس والمسكن واثاث البيت : وهذا كله زهد في الدنيا وهو صفة من صفات اهل الطريقة العارفين بالله وهم زاهدون عمن سواه وهدفهم ان يشرق نور ربهم عليهم ويشع في قلوبهم .
الهوامش :
(1) ابن فارس – معجم مقاييس اللغة .
(2) الحديد :23 .
(3) الانعام : 32.
(4) الكهف :46 .
(5) الكهف : 7 .
(6) رواه السيوطي في الفتح الكبير – ج2 .
(7) رواه مسلم .
(8) رواه ابن ماجه .
(9) رواه الاربعه .
(10) رواه السيوطي في الفتح الكبير .
(11) جلاء الخاطر من كلام الشيخ عبد القادر – ص25 .
(12) المصدر نفسه .
(13) المصدر نفسه .
(14) جلاء الخاطر من كلام الشيخ عبد القادر – ص25 .
(15) المصدر نفسه .
(16) المصدر نفسه .
(17) عادل خير الدين – للامام جعفر الصادق – العالم الفكري – ص191 .
(18) المصدر نفسه .
(19) رواه الترمذي .
(20) النساء :77.
(21) عبد القادر عيسى – حقائق عن التصوف .
المصدر :
السيد الشيح محمد الكسنزان-كتاب الطريقة العلية القادرية الكسنزانية- ص244-248 .