هو سرور يدخل القلب فيشعر العبد باراحة بفعل دخول ذلك السرور الى قلبه ناشرا الهدوء في اعصابه مبرزا البشاشة على قسمات وجهه .
ورضا المؤمن يكون عندما تسره المصيبة كما تسره النعمه ويصل الرضا بالمؤمن الى حب كل شيء يرضي الله تعالى لاجل محبته سبحانه فيرى قدر الحياة خيرا ورحمة وينظر اليه بعين الرضا لعلمه وايمانه ان وراء كل فعلا من افعال الجليل حكمة خفية قال تعالى : ( فعسى ان تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا )(1) , ولما رضي المؤمنون عن ربهم في ابتلائه لهم رضي عنهم لصبرهم ورضاهم فتحقق قوله تعالى: ( رضي الله عنهم ورضوا عنه)(2) , فالرضا عنه سبحانه وتعالى بتقليل القليل من خيره الكثير وبعدم الاعتراض على الحكم والقضاء , فحقيقة المؤمن ان يكون راضيا ثابتا على حال واحدة لا يتغير مهما طرات عليه من تحولات والمقصود حالته النفسية فان ابتلاه الله في بدنه لم يحب العافية حتى ينقله الله من حال الى حال اخرى فيرضى بما رضي الله ويحب ما يحب وذلك هو حقيقة الايمان قال الرسول ﷺ : ( ذاق طعم الايمان من رضي بالله ربا )(3) , فالرضا به وعنه امر محمود مطلوب واما الرضا منه فهو امر لا يقول به الا من جهل مقام ربه لان الله سبحانه واسع غير متناه فمن رضي منه بالقليل ما عرفه وقال الرسول ﷺ : ( من سعادة ابن ادم رضاه بما قضى الله له من شقاوة ابن ادم سخطه بما قضى الله) , وقال ﷺ : (ومن سخط فله السخط) .
فليس امام المؤمن العابد الصابر غير الرضا بما قدر عليه وبذلك رضا الله وليس الرضا في الصبر وتحمل البلاء فحسب انما يكون الرضا في عدم الاعتراض على الحكم وان يكون العبد ساخطا على نفسه لائما لها ويراها مقصرة مهما بلغت حدا في العبادة . قال الامام كرم الله وجهه : ( راس اطاعة الله الصبر والرضا عنه فيما احب العبد او كره ) , فمن عرف الله حق معرفته واحبه شديد حبه رضي بقضائه سواء كان مفرحا او محزنا فلا راى له فيما يجري .
قال الامام جعفر الصادق عليه السلام : ( صفة الرضا ان يرضي المحبوب والمكروه , والرضا شعاع نور المعرفة . والراضي فان عن جميع اختياره . والرضي حقيقة هو المرضي عنه , والرضا اسم يجتمع فيه معاني العبودية .وتفسير الرضا سرور القلب , سمعت ان محمد الباقر يقول تعلق القلب بالموجود شرك , وبالمفقود كفر , وهما خارجان من سنته , واعجب بمن يدعي العبودية لله كيف ينازعه في مقدوراته حاشا الراضين العارفين عن ذلك) .
قال السيد الشيخ عبد القادر الكيلانيقدس الله سره :كل الدائرة على الرضا بالقضاء وترك الاداره واسطراح القلب بين يدي مقلبه .
ما اقل التوحيد فيكم ما اقل الرضا عن الله تعالى فيكم , ما اكثر شرككم بالاسباب والخلق . قد اتخذتم فلانا وفلانا اربابا من دون الله عز وجل تضيفون اليهم والضر والنفع والعطاء والمنع . لا تفعلوا ارجعوا الى ربكم عز وجل , مالكم باب اخر كل الابواب مغلقة الا بابه ,كل واحد منكم ليتطهر وليضع جبهته على التراب ويتقرب ويعتذر ويعترف بذنوبه ويتعرض لنواله وليسال حوائجه ويشكو اليه من جميع ما يضيق به صدره
هو ربكم عز وجل لا رب لكم غيره , الهكم لا اله لكم غيره , كل من تقدمكم عاملهم بالباساء والضراء والشدة والرضا ليعرفوه ويشكروه ويصبروا معه ويتوبوا اليه , العقوبات للعوام والكفارات للمؤمنين المتقين والدرجات للصالحين .
وقال ابن عجيبة : (الرضا تلقي المهالك بوجه ضاحك او سرور يجده القلب عند حلول القضاء , او ترك الاختيار على الله فيما دبر وامضى , او شرح الصدر ورفع الانكار لما يرد من الواحد القهار )(4) .
وقال ابن عطاء الله الاسكندري : ( الرضا نظر القلب الى قديم اختيار الله تعالى للعبد وهو ترك التسخط )(5) .
وقال المحاسبي : (الرضا سكون القلب تحت مجاري الاحكام )(6) .
وقال الجنيد البغدادي قدس الله سره : (الرضا ترك الاختيار )(7) .
وقال رويم (الرضا استقبال الاحكام بالفرح )(8) .
وقال ابو علي الدقاق قدس الله سره : ( ليس الرضـا ان لا تحس بالبلاء وانما ان لا تعترض على الحكمو القضاء )(9) .
والرضا هو محبة الله من غير طلب وصول بل حب في كل الاحوال بعد وقرب رضا وسخط , دون التفات الى الراحة المحب ولا رجعة عن المحبة لان الله سبحانه وتعالى لم يقض شيئا الا في صالح وخير العبد وان المؤمن الذي عمر الايمان قلبه وانتشر حب الله فيه وملك عليه عقله لا يحس بقضاء الله مهما كان نوعه .
فتساوت لديه الافراح والاخزان واختلطت عنده المشاعر والاحاسيس فكونت شيئا واحدا هو محبة الله والرضا اسمى مقاما وارفع رتبة من الصبر اذ هو السلام الروحي الذي يصل بالعارف الى حب كل شيء في الوجود يرضي الله تعالى حتى اقدار الحياة ومصائبها يراها خيرا ورحمة ويتاملها بعين الرضـا فضــلا وبركة )(10) .
واعلم ان الله تعالى لا يرضى عن عبده الا اذا رضي العبد عن ربه في جميع احكامه وافعاله وعندها يكون الرضا متبادلا كما اشار الى ذلك الحق تعالى بقوله : ( رضي الله عنهم ورضوا عنه) , ولقد ادرك السادة اهل الطريقة سر هذا الترابط بين الرضائين (فقد كان سفيان الثوري يوما عند رابعة العدوية فقال اللهم ارض عني فقالت اما تستحي من الله ان تساله الرضا وانت عنه غير ارض ؟ فقال استغفر الله )(11) .
ورضا الله تعالى عن العبد هو اسمى منزلة ورافع رتبة واعظم منحه قال تعالى : ( ومساكن طيبة في الجنات عدن ورضوان من الله اكبر)(12) .
وقال الامام الطوسي عن الرضا ( ان العبد لما صدق في محبته وقعت بينه وبين الله تعالى المفاوضة والتسليم فزالت عن قلبه التهم وسكن الى الحسن اختياره من احبه ونزل في حسن تدبيره وذاق طعم الوجود له فامتلا قلبه فرحا ونعيما وسرورا فغلب ذلك الم المصائب والبلوى , فيستخرج منه اذا نزل به كبيرة فتارة يتنعم بعمله به اذا علم انه يراه ما فيه الصلاح فيراه تارة يشكو اليه شكوى المحب الى حبيبه ,وتارة يئن اليه ,وتارة يطمع ان يراه راضيا عنه )(13) .
ويقول الامام الهروي الرضا على ثلاث درجات :
الدرجة الاولى : رضا العامة وهو الرضا بالله ربا وهذا قطب رحى الاسلام وهو يطهر من الشرك الاكبر ولا يصبح الا بثلاث شرائط :
أ- ان يكون الله عز وجل احب الاشياء الى العبد .
ب- ان الله سبحانه وتعالى اولى الاشياء بالتعظيم عنده .
ج- ان الله سبحانه وتعالى احق الاشياء بالطاعة .
الدرجة الثانية : الرضا عن الله وبهذا الرضا قطعت ايات التنزيل وهو الرضا على كل ما قضى وقدر من اوئل مسالك اهل الخصوص ولا يصح الا بثلاث شرائط :
أ- استواء الحالات عند العبد .
ب- سقوط الخوصه مع الخلق .
ج- الخلاص من المسالة والالحاح .
الدرجة الثالثة : الرضا برضا الله فلا يرى العبد لنفسه سخطا ولا رضا فيبعثه على ترك التحكم وحسم الاختيار واسقاط التميز ولو ادخل النار )(14) .
الهوامش :
(1) النساء :19 .
(2) المائدة : 119 .
(3) رواه السيوطي في الفتح الكبير .
(4) ابن عجيبة – معراج التشوف الى حقيقة اهل التصوف –ص8 .
(5) الامام القشيري – الرسالة القشيرية – ص89 .
(6) المصدر نفسه – الصفحة نفسها .
(7) المصدر نفسه – الصفحة نفسها .
(8) المصدر نفسه – الصفحة نفسها .
(9) عبد المنعم حفني – معجم مصطلحات الصوفية .
(10) عبد القادر عيسى – حقائق عن التصوف – ص 248 .
(11) الغزالي – احياء علوم الدين –ج4 ص 336 .
(12) التوبة : 72 .
(13) محمد هشام – مدارج السالكين – ص640 .
(14) نجم الدين ابي بكر – منازل السائرين – ص82 .
المصدر:
السيد الشيخ محمد الكسنزان – كتاب الطريقة العلية القادرية الكسنزانية – ص248- ص252 .