بقلم : المرابط بن عبد الرحمن
باحث في العلوم الشرعية
يقصد بالمعرفة في التصور الصوفي حصول العلم بالله تعالى ذاتا وصفات وأسماء وأفعالا، وهي أوجب الواجبات وأسنى الكرامات لأنها أصل الإيمان وغاية الإسلام، وأهم مصادرها ومنابعها في الفكر الصوفي الوحي بشقيه الكتاب والسنة ثم الإلهام، أما العقل عند الصوفية فمخلوق محدود مجاله الكون لا المكوّن والخلق لا الخالق، وليس ذلك تنقيصا منهم بميزان العقل وإنما القوة العقلية بمنظورهم تستعمل في تدبير الحياة المادية لأنها قوة مادية صادرة عن الكثافة الحسية، أما ما وراء المادة فسبيله القوة الروحية التي تستعمل في الغيبيات لأنها قوة معنوية نورانية صادرة عن اللطافة المعنوية، وإذا فبالرغم من منزلة العقل الرفيعة التي جعله الشرع فيها حيث أناط به التكاليف وجعل حفظه من مقاصده الأساسية باعتباره إحدى الإجماعيات الست التي أجمعت عليها الملل السماوية إلا أنه في الوقت ذاته لا يعتبر عند الصوفية مقياسا للحقائق الربانية لأنه من جهة العبد لا من جهة الرب وكذلك التجربة، ولهذا ورد في البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لن يبرح الناس يتساءلون حتى يقولوا هذا الله خالق كل شيء فمن خلق الله..” من هنا فالمعرفة عندهم من فعل القلب لا من فعل العقل، وقسموها في الجملة على النحو التالي:
1- معرفة الحق: وهي معرفة التوحيد العام التي تنقسم بدورها إلى قسمين: معرفة وهبية، ومعرفة كسبية، فأما الوهبية فإلْهاميةٌ وتتجلّى في ذلك الشعور الوجداني الذي جبلت وفطرت عليه كافة الموجودات الخلقية قال تعالى: ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال [الرعد: 15] وقال :يسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا [الإسراء: 44] وهذه المعرفة عامة يستوي فيها الموحدون والمشركون والمؤمنون والكافرون. وأما الكسبية فهي القائمة على عدم الشرك الجلي وهي خاصة بالمسلمين المؤمنين ووسيلتها التوحيد الجلي المجمل المكتسب عن طريق الدلائل والبراهين النقلية والعقلية وتتفاوت الناس فيها بقدر ما انكشف لكلّ منهم من عجائب القدرة وبدائع الصّنعة في عالم الملك لأنها مجال عام مفتوح للكلّ؛ وهي المعرفة الواجبة بالإجماع على كل عاقل بالغ بلغته الدعوة لأن الله تعالى أمر بها بواسطة الرسل فهي أول واجب وتَحْصل دون النظر والبحث وجمع وتحرير الأدلة والبراهين بل يكفي فيها التصديق والاعتقاد الجازم فقد اكتفى صلى الله عليه وسلم من أجلاف العرب بالتصديق والإقرار من غير تعلم دليل لقصورهم عن تحصيل اليقين، ومن هنا قال بعض أهل العلم إن المعرفة طرقها ثلاثة: إما بالعيان وقد أخبر الله سبحانه بأنه لا يصح لقوله تعالى: (لا تدركه الأبصار) وإما بالمثال ولا يصح أيضا لقوله تعالى: (ليس كمثله شيء) وإما بالأثر فلم يبق إلا هو.
2- معرفة الحقيقة: وهي معرفة التوحيد الخاص القائم على عدم الشرك الخفي وذلك حاصل للمحسنين من الأولياء العارفين رضي الله عنهم أجمعين، وهذه المعرفة وسيلتها التوحيد الخفي الذي يغاير الشرك الخفي وهو معرفة قيومية الله تعالى على كل شيء وإحاطة علمه وقدرته وقهره بكل شيء وأن كل شيء إنما وجد بإيجاده لـه وبقى بإمساكه له فلا موجد في الحقيقة إلا هو كل شيء هالك إلا وجهه…[القصص: 88] وهذه المعرفة عالَمها الملكوت وهي بدورها تنقسم إلى قسمين: معرفة يقينية أصلية وهي خاصة بالأنبياء وخلّص الأولياء وهي المنتهى الذي يمكن أن يبلغه الخلق من معرفة الحقيقة قال تعالى :وما أوتيتم من العلم إلا قليلا[الإسراء: 85] إذ لا يعرف الله بالكمال والحقيقة إلا الله تعالى؛ ومعرفة الإدراك والإحاطة وهي خاصة بالخالق دون الخلق فنصيب العارفين منها هو عجزهم عن معرفتها فقط إذ يستحيل على العارفين –فضلا عن غيرهم- أن يدركوا كنه المعية المحيطة بل لا يمكنهم ذلك البته. فمن ثم كان متعلق هذا النوع من أنواع معرفة الحقيقة ماهيةََ الكنه، وحظ المخلوق منه الحيرة والدهش لا غير. يقول ابن جزي في القوانين الفقهية: معرفة الله تعالى نوعان: خاصة وعامة، فالعامة حاصلة لكل مؤمن والخاصة هي التي ينفرد بها الأنبياء والأولياء وهي البحر الذي لا ساحل له ولا يعرف الله على الحقيقة إلا الله ولذلك قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: العجز عن درك الإدراك إدراك.
وفي ذلك يقول العلامة محمذ فال ولد متالي:
الخوض في إدراكه إشراك
والعجز عن إدراكه إدراك
والعجز عن إدراكه الصدّيق
قال هو الإدراك والتحقيق.
وبناء على ذلك ونتيجة له يقول الإمام الغزالي في كتاب التوحيد والتوكل من الإحياء: التوحيد أربعُ مراتبَ وينقسم إلى لب وإلى لب اللب، وإلى قشر وإلى قشر القشر إلى أن يقول: فالرتبة الأولى من التوحيد أن يقول الإنسان بلسانه لا إله إلا الله وقلبه غافل عنه أو منكر له كتوحيد المنافقين، والثانية أن يصدق بمعنى اللفظ قلبه كما صدق به عموم المسلمين وهو اعتقاد العوام، والثالثة أن يشاهد ذلك بطريق الكشف بواسطة نور الحق وهو مقام المقربين وذلك بأن يرى أشياء كثيرة ولكن يراها على كثرتها صادرة عن الواحد القهار، والرابعة: أن لا يرى في الوجود إلا واحدا وهي مشاهدة الصديقين وتسميه الصوفية الفناء في التوحيد لأنه من حيث لا يرى إلا واحدا فلا يرى نفسه أيضا وإذا لم ير نفسه لكونه مستغرقا بالتوحيد كان فانيا عن نفسه في توحيده بمعنى أنه فني عن رؤية نفسه والخلق.
وقال محمد بن موسى الواسطي: جملة التوحيد أن كل ما ينطق به اللسان أو يشير إليه البيان من تعظيم أو تجريد أو تفريد فهو معلول والحقيقة وراء ذلك.
ويقول سيدنا الشيخ التجاني: ما دمت ترى أنك موجود والله موجود فثم اثنان أين التوحيد؟ لا توحيد إلا إذا كان التوحيد بالله من الله إلى الله والعبد لا مدخل له فيه ولا مخرج، وهذا لا يصح إلا من طريق الفناء.
وبالتالي فكلٌّ من معرفة الحق ومعرفة الحقيقة تضمنتهما كلمة التوحيد لا إله إلا الله محمد رسول الله، فمعرفة الحق سبيلها الدليل والبرهان، ومعرفة الحقيقة سبيلها الذوق والوجدان، وما دامت المعرفة هي رأس المال عند أهل الحقيقة من الصوفية الأجلاء وأول الواجبات عند أهل الشريعة من الفقهاء العلماء فالذي يجب أن يعرفه المؤمن في حق المولى جل وعلا – والذي بموجبه يكون مؤمنا محققا لإيمانه وعلى بصيرة من دينه- هو حصول المعرفة التي هي الجزم المطابق للدليل القائم على اليقين، إذ هي المقصد والمطلوب في عقائد الإيمان، وبما أن وجوبها معلوم من دين الأمّة بالضرورة اختلف الجمهور القائل بوجوبها في صحة إيمان المقلد الجازم أم لا؟ فقال بعضهم المقلد ليس بمؤمن أصلا وقال بعضهم المقلد مؤمن إلا أنه عاص بترك المعرفة التي ينتجها النظر الصحيح إذا كانت له أهلية النظر في الأدلة الموصلة إلى المعرفة، وقال بعضهم إن النظر ومعرفةَ البراهين إنما هو مستحب فقط، وقال السنوسي في شرح أم البراهين: المراد بالدليل الذي تجب معرفته على جميع المكلفين هو الدليل الجملي وهو الذي يحصّل في الجملة للمكلف العلمَ والطمأنينة بعقائد الإيمان بحيث لا يقول قلبه فيها: لا أدري سمعت الناس يقولون شيئا فقلته.
يقول الدرديري في الخريدة:
وواجب شرعا على المكلف
معرفة الله العليّ فاعرف
على أن معرفة الحقيقة -وهي المعرفة اليقينية الوجدانية- تستوجب إماطة السوي بحصول التمكين والقرار مع الله تعالى، وهي أسمى من كل معرفة أخرى إذ ليس مرجعها الحواس التي لا تدرك الأشياء إلا بالحس. بل هي شهودية ذوقية وهي في نفسها عزيزة المرام صعبة المنال لأنها تتحير فيها الألباب والعقول وتنخفض المدارك والقوى البشرية عن أدانيها فضلا عن أقاصيها ولهذا قيل: من عرف الله كلّ لسانه. من هنا فإن إيمان الصوفي يقيني شهودي وهو الإيمان الكامل الذي لا يعتمد صاحبه التقليد ولا يستكفي بالاستدلال فقط وإنما يعتمد نور البصيرة في شهود الحضرة الربانية الأزلية الأبدية ويراقبها في كل تصرفاته وحركاته وسكناته.
وبذا تعلم أن معرفة الحقيقة من غير إدراك أو إحاطة معرفةٌ خاصة مقصورة على الأفذاذ والأعلام، وهي غاية المقاصد ومنتهى المطالب لأنها معرفة تعرّف وتعارف معًا قال تعالى :يؤتي الحكمة من يشاء.ومن يؤتى الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا [البقرة: 269]، أما الإدراك فهيهات أن يناله أحد لأن حقيقة الحق من حيث الإحاطة في غاية البعد عن التعقل الإنساني لأنها من باب “كان الله ولا شيء معه” [أخرجه البخاري]، وليس بإمكان الإدراكات الحسية التي تشارك البهائم فيها أن تدرك معية أو ماهية حقيقة خالقها وبارئها أو أن تعرفه معرفة تامة حقيقية لأنها فوق كل تصور وأعظم من كل تصوير وأجل وأكبر من أن يبلغها الذهن أو العقل أو يحيط بها العلم والفهم بل هي وراء كل تلك الأطوار لا تصافها بالعظمة والكبرياء والعزة والجلال والعلو والتعالي فقد قيل: لو أراد الخلق تنزيه الخالق إلا بلسان العجز ما استطاعوا قال صلى الله عليه وسلم “لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك” [رواه مسلم وأصحاب السنن]، ولا يستطيع أحد على الإطلاق أن يتفهم أو يتصور أو يتخيل أو يتوهم حقيقتها الكلية المطلقة من حيث ما هي هي لكونها تسربلت وتسترت بالغيب المطلق الذي لا يكيّف ولا يدرك، والعجز عن دركها بالكنه والحقيقة هو كمال التوحيد والمعرفة، إذ لا مشابهة ولا مجانسة ولا مماثلة ولا مشاكلة ولا مساواة ولا مناسبة ولا موازنة ولا مطابقة..فقد روى الترمذي في نوادر الأصول أن الله تعالى احتجب عن العقول كما احتجب عن الأبصار وإن الملأ الأعلى يطلبونه كما تطلبونه ولذا يقول الجنيد: انتهى عقل العقلاء إلى الحيرة، وقال ذو النون: غاية العارفين التحير. وقيل له –وقد أشرف على الموت- ما ذا تشتهي؟ فقال: أن أعرفه قبل أن أموت ولو بلحظة.
وكون الذات العلية من حيث هي لا تقبل الإدراك والحد لأنها في صِرْفيَة التجريد، ومنتهى كمال الإنسانية من معرفتها هو عجزهم عن إدراك حقيقتها لأن سبل الإدراكات البشرية منقطعة أمام ما ليس كمثله شيء، فلو اجتمعت عقول العالمين بأسرها ما بلغت كنه حقيقتها يقول أبو العباس أحمد بن محمد بن عطاء البغدادي: العقل آله للعبودية لا للإشراف على الربوبية.
وقديما قال أحد الأكابر: لا يعرف الله إلا من تعرّف إليه ولا يوحّده إلا من توحّد له ولا يؤمن به إلا من لطف به ولا يصفه إلا من تجلى لسره ولا يخلص له إلا من جذبه إليه ولا يصلح له إلا من اصطنعه لنفسه.
وقال أحد القوم: البادي من المكوّنات معروف بنفسه لهجوم العقل عليه والحق أعزُّ من أن تهجم العقول عليه وأنه عرّفنا نفسه أنه ربُّنا فقالألست بربكم ولم يقل من أنا؟ فتهجم العقول عليه حين بدا معرّفا فلذلك لم تدركه العقول والأبصار. وفي هذا الإطار يقول الإمام الغزالي: وكيف يطمع الإنسان في أن يعرف الله تعالى حق معرفته وليس يعرف نفسه حق معرفتها وإنما يعرف نفسه في أكثر الأحوال بأفعالها وأوصافها ولا يدرك ماهيتها. وعزى أحمد لسان الحق لابن خلدون في المقدمة قوله: ولا تثق بما يزعم لك الفكر من أنه قادر على الإحاطة بالكائنات وأسبابها والوقوف عند تفصيل الوجود كله وسفّه رأيك في ذلك واعلم أن الموجود عند كل مدرك في بادي رأيه منحصر في مداركه لا يعدوها والأمر في ذاته بخلاف ذلك والحق من ورائه فاتهم إدراكك ومدركاتك في الحصر ..وليس ذلك بقادح في العقل ومداركه بل العقل ميزان صحيح غير أنه لا تطمع أن تزن به أمور التوحيد والآخرة وحقيقة النبوة وحقائق الصفات الإلهية وكل ما وراء طوره فذلك طمع في محال.
هذا وقد قال الله تعالى ويحذركم الله نفسه والله رؤوف بالعباد [آل عمران: 30] وقال:وما قدروا الله حق قدره [الزمر: 67] وقال:يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما [طه: 111] وقال )ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء( [البقرة: 255] وقال :ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا [الإسراء: 36] وقال:قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون [الأعراف: 33] وقال : سبحان ربك رب العزة عما يصفون [الصافات: 180] والأحاديث المأثورة في هذا المعنى كثيرة معلومة.
لهذا فالمخلوق أيا كان لا يحد الخالق ولا يدركه باعتبار كنه ذاته وتجرده عن النعوت والتعينات بل الذي يدرك الله ويقدره حق قدره هو الله تعالى وحده لا غيره والعقول الآدمية ضعيفة محدودة لا تدرك من التوحيد والمعرفة إلا افتقار الصنعة إلى صانعها فتستدل مثلا على المؤثر بالأثر وعلى المكوّن بالكون وعلى الموصوف بالصفة وعلى المحدث بالحادث وعلى الواجب بالإمكان وعلى المُوجد بالوجود وعلى الفاعل بالفعل إلى غير ذلك من أساليب أهل النظر والكلام والتي لا تأمن –غالبا- من الخطإ ولا تسلم من الوهم.
وإذا فمن وقف مع عقله وجعل ما أدركه حسا هو أقصى غاية الكمال فهو مغبون لأن إدراك الإنسان محدود، إلا أن ما عسر على العقل تصوره لا يؤاخذ به الإنسان عقوبةً بفضل الله تعالى بل ما وراء طور عقله من ذلك يكفيه الإيمان به ورد معناه إلى الله تعالى:
لم يمتحنا بما يعيا العقول به
حرصا علينا فلم نرتب ولم نهم
ولكن مع ذلك فكمالاته عز وجل لا نهاية لها ومن كان اعتماده في معرفتها على الاستدلال العقلي وما يقره أهل الكلام من الجلامدة فهو على الحقيقة غير عارف به لأن شموس معارفه حجبت بسحب الآثار وأكدار الأغيار على حد قول القائل:
ما رأيت الله فاعـلا
رأيت جميع الكائنات مِــــلاحا
وإن لم تر إلا مظاهر صَنعته
حجبت فصيرت الحسان قِباحا
فالتقليد طريق عوام المسلمين من أهل علم اليقين، والاستدلال طريق الخاصة من أهل عين اليقين، وطريق الشهود طريق خاصة الخاصة من أهل حق اليقين، وذلك أن ترى الوجود كله من الله تعالى وحده رؤية كشفية ذوقية تحققية، وعلى ذلك فالعقل -الذي هو أشرف لطائف الإنسان- ينشد الوصول إلى معرفة الله تعالى ووحدانيته مستعينا بالأدلة المحسوسة لأن كل صنعة لا بد لها من صانع وإن كان يلزم من التفكر في تلك الأشياء رؤية الله بعين القلب لأنه لا يغيب عن مخلوقاته طرفة عين والآثار كالمرآة للناظر فمن تأمل فيها رأى مؤثرها ولا تحجب إلا من سبقت عليه الشقاوة فلذلك ترى أهل العقول الربانية لا يلتفتون إلى دلائل العقول الحسية لأن معرفة حقيقة الحق في الحقيقة وراء المعقول والمحسوس لأنها ترتفع معها كل الوسائل والوسائط الكونية لانعدام الشبيه والنظير والمثيل، وحسبك الفطرة التي فطر الله الناس عليها وما يوجد في النفوس ضرورةً من افتقار العبودية ومعرفة الربوبية. أما من عرفها به على حد قول الصديق: عرّفني نفسه. فهو الذي سلك السبيل القويم والصراط المستقيم، وأرباب البصائر في ذلك تتفاوت مراتبهم ومشاهدهم وتختلف أنظارهم وأحوالهم كل على قدر قسطه وإشراق نور المعرفة في قلبه؛ ولذا قال الأخفش في معنى قوله تعالى: ما قدروا الله حق قدره[الأنعام: 91] أي ما عرفوه حق معرفته، وللآية وجهان في التفسير:
الأول: أن المشركين ما عرفوا الله حق معرفته وما عظموه حق عظمته حين أشركوا به غيره وهذا المعنى يقتضي أن المؤمنين يعرفون الله حق معرفته وذلك حملا على المعرفة التي فرضت عليهم شرعا وكلفوا بتحصيلها وهي تنزيهه تعالى عن النقائص ووصفه بالكمالات.
الثاني: أن المؤمنين ما عرفوه حق معرفته حملا على المعرفة التي لم تفرض عليهم وهي معرفة الحقيقة والكنه لأنه لا يصل إليها أحد أبدا فهي منتفية قطعا في حق المخلوق.
ولما كانت شمس النهار إذا ظهرت لم تشاهد النجوم فكذلك شمس المعرفة إذا أشرقت أفنت الآثار والرسوم ولم يبق إلا الحي القيوم. يقول ابن عقيل الحنبلي في كتابه الفنون: ما أعجب شأن العارف وأعجب شأن الخلق معه تَبذَّل التجارُ منهم في طلب الأرباح وتنمية الأموال وتبذَّل المحبون والعشاق والمتيمون في محبة الأشخاص ولم يلاموا وتبذل قوم في محبة الطيور والخيل والصيد ولم يعابوا، تبذل قوم في عبادة بارئهم فكثر اللوام والعذال واستهجنت منهم الأحوال والأقوال وقيل فيهم كلُّ مقول ونسبوا إلى كل عظيم من الخطإ ومهول وقيل ما لهم عقول.
ومن ظفر بهذا القدر من المعرفة بحكم الاختصاص والعناية فقد نال من الله الحظ الأوفر، على أنه لا سبيل له إلى استكناهه أو الإحاطة به من جميع جوانبه لكون المحيط لا يحاط به قال تعالى:وإذا قلنا لك إن ربك أحاط بالناس[الإسراء: 60] وقال:والله من ورائهم محيط [البروج: 20] وقال:وكان الله بما يعملون محيطا [البقرة: 108] وقال:ولله ما في السماوات وما في الأرض وكان الله بكل شيء محيطا[البقرة: 126] وقال:ألا إنه بكل شيء محيط [فصلت: 54] وبالتالي فمعرفة الحق التكليفية أعم ومعرفة الحقيقة التشريفية أخص على أن تفهّم هذه الأخصية يتوقف على معرفة تلك الأعمية ومن هنا قيل:
حقيقة الحق شيء ليس يعرفه
لا المجرِّد فيه حق تجريد
وقيل أيضا:
فلما استبان الصبح أدرج ضوؤُه
بإسفاره أضواءَ نور الكواكب
وقيل أيضا:
لم يبق بيني وبين الحق تبياني
ولا دليلٌ ولا آياتُ برهــان
هذا تجلى شموس الحق نائرةً
قد أزهرت في تلاليها بسلطان
لا يعرف الحق إلا من يُعرِّفُه
لا يعرف القِدَمي المحدَث الفاني
لا يُستدل على الباري بصنعته
رأيتم حدثا بنبي عن ازمــان
هذا عبارة أهل الانفراد به
ذوي المعارف في سر وإعلان
هذا وجودُ وجودِ الواجدين له
بني التجانس أصحابي وخُلَّاني
فبحار المعرفة الإلهية إذا لا ساحل لها والإحاطة بما لله محال ودقائق المعارف الربانية وحقائق العلوم اللدنية مواهبُ ومنحٌ يختص بها الحق من شاء من عباده الذين تمحّضوا لطاعته ومراقبته فأخلصوا له النية والعمل وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة[البينة: 5].
وعلى ضوء ذلك فالمعرفة أولها دلالة الصنعة على الصانع ووسطها دلالة الصانع على الصنعة وغايتها تلاشي كل ما دون الحق كما قال عز وجل: كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام [الرحمن: 26- 27] وقال: يمحو الله ما يشاء ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب [الرعد: 39]، وعن سيدنا علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أنه قال: ما يسرني أن الله تعالى أماتني طفلا وأدخلني من الجنة الدرجات العلى فقيل: ولم قال لأنه أحياني حتى عرفته.
وقال مالك ابن دينار: خرج الناس من الدنيا ولم يذوقوا أطيب الأشياء فيها قيل وما هو؟ قال المعرفة بالله ثم أنشد:
إن عرفان ذي الجلال لعزٌّ
وضياءٌ وبهجة وسرور
وعلى العارفين أيضا بهاء
وعليهم من المحبة نور
فهنيئا لمن عرف إلهـي
هو والله دهره مســـــرور
ليس للعارفين غيرك هَــمّ
أنت والله سؤلهم يا غفور
وقال أحد الأكابر: المعرفة هي حَقْر الأقدار إلا قدرَ الله وأن لا يشهدَ مع قدر الله قدرا.
وقال قي حقيقتها الشيخ زروق: حقيقة المعرفة سريان العلم بجلال الحق سبحانه أو جماله أو هما في كلية العبد حتى لا يبقى له من نفسه بقية فيشهد كل شيء منه وله فلا يبقى لوجود شيء نسبة عنده دونه.
وسُئل الشيخ سيدي أحمد التجاني عن حقيقة المعرفة بالله تعالى فأجاب بقوله: المعرفة الحقيقية أخذ الله للعبد أخذا لا يعرف له أصلا ولا فصلا ولا سببا ولا يتعقل فيه كيفية مخصوصة ولا يبقى لـه شعور بحسه وشواهده وممحواته ومشيئته وإرادته بل تقع عن تجلّ إلهي ليس له بداية ولا نهاية ولا يوقف له على حد ولا نهاية.
وقال شيخ الإسلام الشيخ ابراهيم إنياس: بأنها الكشف عن أسماء الله وصفاته ونتيجتها مراقبة الله وإخلاص العمل له.
وقال أيضا: من عرف الله فليس له مع الخلق لذة ومن عرف الدنيا فليس لـه في معيشته لذة ومن انفتحت عين بصيرته بهت ولم يتفرغ للكلام.
وقال ذو النون المصري: علامة العارف ثلاثة: لا يطفئ نور معرفته نور ورعه، ولا يعتقد باطنا من العلم ينقض عليه ظاهرا من الحكم، ولا تحمله كثرة نعم الله عز وجل على هتك أستار محارم الله تعالى.
وقسم الشيخ أحمد دحلان المعرفة إلى: عامة وخاصة.
فالعامة هي الإقرار بالوحدانية والتصديق بالغيب كأنه معاين.
والخاصة هي التي تجذب بها القلوب إلى المحبوب وينشأ عنها التبتل له والأنس به تعالى والطمأنينة بذكره والحياء منه والهيبة له. وقال فيها: ومعرفة الله تعالى هي أعلى المطالب وأسمى المواهب والمعنى بها ما يقع من تجلى الحق تعالى لقلوب خواصه وتحقق أسرارهم بأحديته وذلك لِما أفاض الله عليهم سبحانه من أنوار الشهود وأطلعهم عليه من مكنون الوجود فانغمسوا في بحار الأنوار وغرقوا في المعاني والأسرار.
وقال الإمام الغزالي في الإحياء بعد شرح وبيان: فإن من طال فكره في معرفة الله سبحانه وقد انكشف له من أسرار ملك الله ولو الشيء اليسير فإنه يصادف في قلبه عند حصول الكشف من الفرح ما يكاد يطير به ويتعجب من نفسه في ثباته واحتماله لقوة فرحه وسروره وهذا ما لا يدرك إلا بالذوق والحكاية فيه قليلة الجدوى.
وقال في نفس المصدر لما ذكر معرفة الله تعالى والعلم به: والرتبة العليا في ذلك للأنبياء ثم الأولياء العارفين ثم العلماء الراسخين ثم الصالحين.
وصنف ذو النون المصري المعرفة ثلاثة أصناف:
* الأول: معرفة التوحيد وهي خاصة بعامة المؤمنين.
* الثاني: معرفة الحجة والبرهان وتلك خاصة بالحكماء والبلغاء والعلماء المخلِصين.
* الثالث: معرفة صفات الوحدانية ونعوت الفردانية وهي خاصة بأهل ولاية الله المخلَصين الذين يشاهدون الله بقلوبهم حتى يظهر الحق لهم ما لم يظهره لأحد من العالمين.
وقال الشيخ الأكبر ابن عربي اعلم أن المعرفة ضربان: معرفة العام، ومعرفة الخاص؛ أما الأولى فهي معرفة تحصل بالاستدلال وتسمى علم اليقين، وأما الثانية فعلى قسمين: عين اليقين ومعرفة حق اليقين، فالقسم الأول معرفة تحصل بواسطة الشهود وهي مقام خواص الأولياء، وأما القسم الثاني فهو معرفة تحصل للروح بعين المشاهدة وذلك يكون عند سلامة حواس القلب من جميع الكدورات النفسانية وتجرده عن التعلقات البدنية وصفائه عن الصفات البشرية فهناك تظهر للروح معرفة الله تعالى.
وقال الشيخ سيدي أحمد التجاني كما في جواهر المعاني: أهل العرفان هم الغائبون في الله عن كل فان مشاهدون لجلال الله وجماله العالمون بصفاته وأسمائه.
ويمكن تقسيم الناس في المعرفة إلى ثلاثة أقسام:
- عارف بأفعال الله وذلك من خلال آثار حكمته وإتقان صنعته إذ في كل شيء دليل قاطع وبرهان ساطع على وجود رب العالمين، وهذا هو مقام عوام المسلمين قال تعالى : لا يُسأل عما يَفعل وهم يسألون[الأنبياء: 23] وقال والله خلقكم وما تعملون [الصافات: 96]، وهذه المرتبة التي هي درجة علم اليقين تناسب من معاني الكلمة المشرفة لا إله إلا الله أي لا معبود بحق إلا الله لأنها توجب السكون لعبادة الله قال تعالى:واعبد ربك حتى يأتيك اليقين [الحجر: 99].
2.عارف بصفات الله وأسمائه وهو مقام خواص المؤمنين قال تعالى: ليس كمثله شيء وهو السميع البصير [الشورى: 9] وقال: هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون هو الله الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى يسبح له ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم [الحشر: 22- 23- 24-] وهذه المرتبة التي هي درجة عين اليقين تناسب من معاني كلمة الإخلاص لا إله إلا الله أي لا مقصود بحق إلا الله وهي توجب الركون إلى المراقبة بنوعيها الكبرى والصغرى قال صلى الله عليه وسلم: “الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك” [رواه مسلم].
3.عارف بذات الله وهي معرفة مقام الأنبياء والرسل وأفاضل من الصديقين والأولياء والصالحين قال تعالى: ليس كمثله شيء وقال: ولم يكن له كفؤا أحد [الإخلاص: 4]، والسيد في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي خاطبه رب العزة بقوله: فاعلم أنه لا إله إلا الله [محمد: 19] وقال عن نفسه: “..أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له..” [متفق عليه]، وهذه المرتبة هي درجة التوحيد الخاص ألا وهو توحيد الذات الذي هو لب لباب التوحيد وثمرة مقام الإحسان وحقيقة حق اليقين وتناسب من معاني كلمة الشهادة لا إله إلا الله أي لا موجود بحق إلا الله، وهي درجة المعرفة التي توجب فقدان السوي مطلقا لقول الله تعالى )ما زاغ البصر وما طغى( [النجم: 17]؛ ومن هنا قسم أهل البصائر من أهل المعرفة مراتب النظر إلى ثلاثة أقسام:
أ)- مرتبة العامة: قال تعالى )فلينظر الإنسان مم خلق( [الطارق: 5] وقال :فلينظر الإنسان إلى طعامه إنا صببنا الماء صبا ثم شققنا الأرض شقا فأنبتنا فيها حبا وعنبا وقضبا وزيتونا ونخلا وحدائق غلبا وفاكهة وأبا متاعا لكم ولأنعامكم [عبس: 24- 25- 26- 27- 28- 29- 30- 31- 32] وقال: أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها ومالها من فروج والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج تبصرة وذكرى لكل عبد منيب [ق: 6- 7- 8].
ب)- مرتبة الخاصة: قال تعالى :إن في اختلاف الليل والنهار وما خلق الله في السماوات والأرض لآيات لقوم يتقون [يونس: 6] وقال )أو لم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض.وما خلق الله من شيء..( [الأعراف: 185].
ج)- مرتبة خاصة الخاصة: قال تعالى :إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب [آل عمران: 190] وقال :وفي الأرض ءايات للموقنين وفي أنفسكم أفلا تبصرون..[الذاريات: 20- 21] وقال :سنريهم ءاياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق. أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد ألا إنهم في مرية من لقاء ربهم ألا إنه بكل شيء محيط.[فصلت: 53- 54].
وعليه فتعريف ذات الحق سبحانه -وليس تحديدها- أنها هي عين الوجود المطلق الذي لذاته يجب وجوده أو الغيب المطلق أو غيب الغيب الذي لا يُكيّف ولا يُأيّن، وحقيقة ذاته هي كنه ذلك الغيب الذي يضيق نطاق النطق والتصور عنه إذ كنه الشيء جوهره وحقيقته، أو كنه ذلك الكنه الذي لا يعلمه إلا هو والمسمى بذات الذات المتمثلة في دائرة الإطلاق والإحاطة حيث لا مرآة ولا متجلَّى له بل حيث لا حيث وذلك لا يبلغ أحد كنه وصفه ولا حيلة للوجود كله في الوصول إليه ولا إلى الوقوف عليه إذ لا خبر للعالمين عنه دنيا وبرزخا وأخرى بوجه من الوجوه لأن الحق هو فيه كما علم نفسه بنفسه فقط. ومن هنا قال الجنيد قولته الشهيرة: كل ما خطر ببالك فالله بخلاف ذلك. وقال أحدهم في ذلك:
طلبنا طلابا أن نكون ذوي علم
لكنهك بالسر المنوّر والفـهم
فبان لنا أن لا ينال بحيلـة
وطالبه قد كان في أعظم الجرم
فلما علمنا أن غير موجد
صبرنا عليه صبر أولي العــــزم
وذلك أن المراقبة الدائمة هي أعلى وأغلى شيء عند أفراد الرجال المقربين من أهل الرسوخ والتمكين ولا يعلم حقيقة ما يترتب عليها من مشاهد ربانية إلا المتحققون المحقون من أهل الحق والحقيقة معًا جعلنا الله منهم بمنه وكرمه، وهذه المشاهد هي محل حيرة واضطراب ودهش الكمّل الأكابر خصوصا مشهد الحيرة والمَجْلى الأكبر الذي لبعد مرامه وصعوبة مسلكه لا يستطيع حمل أعبائه إلا المصطفون الأخيار، فأهله مستغرَقون في الشهود مأخوذون عن أنفسهم ولا أمر لهم مع ربهم لأنهم معه على الحقيقة والباقون معه على التبعية والحكم لأعلى الحقيقة. يقول أبو سعيد الخزاز: إن أول باد من الحق تعالى قد أخفاهم في أنفسهم وأمات أنفسهم في أنفسهم واصطنعهم لنفسه وهذا أول دخول في التوحيد من حيث ظهور التوحيد بالديمومية. يقول فخر الدين الرازي في تفسير قوله تعالى: (وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض ..) هو إشارة إلى مراتب الدلائل والبينات (وليكون من الموقنين) إشارة إلى درجات أنوار التجلي وشروق شمس المعرفة والتوحيد.
وهذا المشهد الإلهي الرفيع لا يقف على حد في التفصيل لأنه فوق التعبير وصاحبه لا نطق له ولا حس ولا تمييز لأنه خرج عن طبعه وعادته ومألوفاته وهو الذي يكون العبد فيه مختطَفا عن شهود الخلق مصطلَما عن نفسه بما استولى على قلبه من سلطان ونور تجلى الحق فيه فلا يرى ولا يشهد ثمة أثرا ولا عينا ولا رسما ولا طللا، فلشدة انطماسه في جلال الله تعالى وعظمته وقدرته وهيبته غاب عن اسمه ووسمه وتحقق سره بالوجود الحقيقي في كل متعيّن بلا تعين به لأن الحق جل وعلا لا ينحصر في شيء ولا يتقيد بشيء فهو المطلق المنزه عن كل القيود الخلقية والسمات الحدثية، ومن شاهد ذلك بقلبه انفصل بسره عما سوى الله تعالى طبقا لقوله صلى الله عليه وسلم “أن تعبد الله كأنك تراه” وكقول حارثة: كأني أنظر إلى عرش ربي بارزا. وكقول عبد الله ابن عمر رضي الله عنهما: كنا نتراءى الله عز وجل في الطواف.
وبناء على ما تقدم فإن الحق هو كما أثبت لنفسه من الكمالات الملازمة لذاته كما ورد في قوله: ليس كمثله شيء وهو السميع البصير فشطر الآية رد على الممثلة المشبهة ونهايتها رد على النفاة المعطلة وذلك على التحقيق أمر خارق للعادة المألوفة لدى الناس وإنما تتحصل معانيه وتجلياته وما ينطوي عليه من الذخائر والكنوز بالخاصية الإلهية التي هي عين دائرة السعادة أو دائرة الفضل التي منها اتخذ الله إبراهيم خليلا وموسى كليما ومحمدا صلى الله عليه وسلم حبيبا، وهذه الدائرة جلت عن أن توزن أو تقاس بموازين عقول البشر القاصرة العاجزة وإنما ميزانها الصحيح والوحيد هو قدرة الله تعالى ومحض جوده وفضله وكرمه وإحسانه وهي من تجليات ونفحات عطاء الحضرة القدسية التي لا يحجرها شيء أيا كان، ومواهبها وإمدادات فضلها وامتنانها متدفقة وطافحة بلا شرط ولا سبب لأن بحار قدرته واسعة، ومن هنا فهذه الخاصية المتمثلة في هذه الدائرة هي اختصاصه تعالى واصطفاؤه الذي هو عبارة عن السعة والإحاطة، وهي أدل دليل وأوضح برهان على أن فضله جل وعلا لا يتقيد بصورة فلو تقيد بها لما تجاوز آدم عليه السلام ولا يتقيد بحقيقة إذ لو تقيد بها لما تجاوز الحقيقة المحمدية والحاصل أن معرفة الذات العلية المقدسة هي الهدف والغاية من خلق الثقلين قال تعالى :وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون [الذاريات: 56] أي ليعرفون كما في ابن كثير عن ابن جريج، والمعرفة العلم النافع أو العلم الذي لا يقبل الشك إذا كان المعلوم ذات الله سبحانه وتعالى. واختلف في المعرفة نفسها ما هي والفرق بينها وبين العلم وأيهما أجل؟ فقال البعض: المعرفة أجل لأن العلم مجاله الأحكام المتعلقة بالخلق، والمعرفة بساطها الحق والأنبياء يقولون غدا عند السؤال لا علم لنا ولا يقولون لا معرفة لنا، والعلم أعطى لآدم وداود وسليمان عليهم السلاموعلم آدم الأسماء كلها [البقرة: 31] ولقد ءاتينا داود وسليمان علما [النمل: 15]، والمعرفة أعطت لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فلعرفنهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول [محمد: 30] والعلم يبحث في الكون والمعرفة توصل إلى المكوّن، والعلم يبحث في الأشياء المتعددة المتفرقة، والمعرفة تُعني بالواحد الأحد، والعلم يبحث في المجال الحسي المادي، والمعرفة تبحث في المجال المعنوي الروحي، ووسائل العلم الحواس والمدارك، ووسائل المعرفة الذوق والبصيرة.
وقال البعض الآخر العلم أجل لأن الله تعالى تَسمّى به ولم يتسم بالمعرفة فقال:عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا [الجن: 26] وقال: عالم الغيب والشهادة العزيز الحكيم [التغابن: 18] وقال: يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما [طه: 110]، وبذا يتبين أن العلم هو إدراك الشيء بتفكر وتدبر، والمعرفة كشف حقائقه على ما هي عليه، أو قل: العلم هو علم الأوصاف والأحوال العامة، والمعرفة: العلم بذات الشيء. وقيل: العلم أوسع دائرة من المعرفة لتعلقه بالجزئيات والكليات والبسائط والمركبات، بخلاف المعرفة فلذلك يقال في الله عالم لعموم ما تعلق به علمه ولا يقال فيه عارف لأنه يوهم القصور ويستدعي سبق الجهل. مع أنه لا فرق عندي بين العلم والمعرفة كما سبق وأن ذكر، يقول الإمام القشيري: المعرفة على لسان العلماء هي العلم، فكل علم معرفة وكل معرفة علم، وكل عالم بالله تعالى عارف وكل عارف عالم، وعند هؤلاء القوم المعرفة: صفة من عرف الحق بأسمائه وصفاته، ثم صدق الله تعالى في معاملاته، ثم تنقى عن أخلاقه الرديئة، ثم طال بالباب وقوفه ودام بالقلب اعتكافه، وصدق الله في جميع أحواله. على أن العلم علمان: علم ظاهر، وعلم باطن؛ فالظاهر ينقسم إلى قسمين: علم أديان وعلم أبدان؛ فعلم الأديان هو علم العقائد والعبادات وعلم الأبدان هو علم الحياة اليومية فالأول فرض عين والثاني فرض كفاية. والعلم الباطن أيضا علمان:- بناء على رأي ابن العباس الدينوري- علم قيام العبد بقيامه مع الله وعلم بعلم الله بالعبد وهو العلم المغيب عن العباد، وقد ينقسم إلى العلم لله وإلى العلم بالله وله تقسيمات أخرى يضيق المجال عن تتبعها.
وقيل تَبيّنُ الأشياء على الظواهر علم وتبينها على استكشاف بواطنها معرفة. وقيل أيضا: أباح الله العلم للعامة وخص أولياءه بالمعرفة. وقال أبو بكر الوراق: المعرفة معرفة الأشياء بصورها وسِماتها والعلم علم الأشياء بحقائقها. وقال أبو سعيد أحمد بن عيسى الخزاز: المعرفة بالله هي علم الطلب لله من َقْبل الوجود له، والعلم بالله هو بَعد الوجود، فالعلم بالله أخفى وأدقُّ من المعرفة بالله. معناه أن معرفة الله تعالى قبل وجود موجوداته وبعدها وأما العلم بالله فهو إضافةً إلى معرفة وجوده العلمُ بصفاته استدلالا بموجوداته. وقيل العلم يتعلق بالصفة والمعرفة تتعلق بالذات؛ والمعرفة من سمات الحوادث ولذا لم يصف الله بها نفسه ولا وصفه بها رسوله عليه الصلاة والسلام، وضرب الغزالي مثلا للفرق بينهما فقال: العلم كرؤية النار مثلا والمعرفة كالاصطلاء بها.
وإذن فالمعرفة هي صحة العلم بالله أو تحقق القلب بوحدانيته، أو قل: المعرفة ظهور الحقائق وتلاشي الشواهد وعلامتها حياة القلب مع الله تعالى وسرها وروحها التوحيد. فقد ورد أنه أوحى إلى داوود عليه السلام أتدري ما معرفتي؟ قيل: حياة القلب في مشاهدتي.
وتتحقق المعرفة – بناء على رأى الإمام الغزالي – بطرق مختلفة تتمثل فيما يلي:
– عن طريق دلالة الخلق على الخالق وهذه معرفة الفعل وليست معرفة الذات.
– عن طريق إثبات صفات الحياة والعلم والقدرة لله.. ونحو ذلك وهي معرفة بالأوصاف لا بالحقيقة.
– عن طريق إثبات استحالة صفات معينة عليه سبحانه وتعالى كالحدوث والعرضية.. وما أشبه ذلك وهذا علم بسلب أمور عنه وليس علما بحقيقة الذات.
وعليه فالله عز وجل لا يحيط بكنه جلاله سواه ولا يعرفه حق المعرفة إلا إياه وكل ما يعرفه المرء في هذا المجال هو معرفة ناقصة غير كاملة لأن الإنسان من شأنه النقصان ولو أن له استعدادا يقدر به على تحصيل الكمال النسبي لا الذاتي وفي كتب الأنبياء المتقدمين: يا إنسان أعرف نفسك تعرف ربك ونجد مصداقه في قول الله تعالى في القرآن الكريم : ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه [البقرة: 130] أي جهلها.
والمعرفة حيث هي، هي غاية المطلب والرغائب ونهاية الآمال والمآرب ومن فتح له باب التعرّف فقد منّ الله عليه بنعمة كبرى وخصوصية عظمى، ولذلك كان مراد الشارع ومدار الشرع على توحيد الله ومعرفته ومن هنا جاء في الصحاح أنه صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ بن جبل لما بعثه إلى اليمن قاضيا ومربيا “إنك ستقدم على قوم أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله”. وفي رواية للبخاري: “فليكن أول ما تدعوهم إليه أن يوحدوا الله”. ذلك لأن العقيدة الصحيحة هي أساس المعرفة الصحيحة.سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم [البقرة: 32].
_____________
المصدر: موقع المنار والرباط :
http://www.manarebat.com/modules.php?name=News&file=article&sid=178&mode=thread&order=0&thold=0