المجاهدة اشتقاقا من الجهد وهو الطاقة المبذولة لعمل معين والجهاد كل صراع بين الحق والباطل اريد به وجه الله تعالى ، فالصراع بين المسلمين والمشركين يسمى جهادا وصراع الانسان مع نفسه جهادا ايضاً .
قال تعالى : (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى. فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى)(1) ، وثواب المجاهدة عند الله هدايته لعباده المجاهدين .
قال تعالى : (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا)(2) .
وقال تعالى: (وجاهدوا باموالكم وانفسكم في سبيل الله)(3)
وروى عن الرسول ﷺ انه قال : (رجعنا من الجهاد الاصغر الى الجهاد الاكبر) فقيل : يا رسول الله وما الجهاد الاكبر ؟ قال: (جهاد النفس) وقال الرسول ﷺ : (جاهدوا اهوائكم كما تجاهدون اعدائكم) .
وعن فضالة ابن عبد الله قال : قال رسول الله : (المجاهد من جاهد نفسه في الله) .
وقال الرسول : (ما من عمل احب الى الله تعالى من الجوع والعطش).
وقالﷺ: (الشيطان يجري من بني ادم مجرى الدم فضيقوا مجاري الشيطان بالجوع والعطش).
وقالﷺ : (جاهدوا انفسكم بالجوع والعطش فان الاجر في ذلك كاجر المجاهد في سبيل الله).
والمجاهدة عند اهل الطريقة هي عملية ليّ عنان النفس وترويضها على الطاعات وكسر حدة شهواتها وقد علموا بنظرهم الثاقب وبصيرتهم النيرة ان الجوع اقوى سلاح ضد هذه الشهوات .
قال الأمام الصادق عليه السلام : (طوبى لعبد جاهد لله نفسه وهواه . ومن هزم حينئذ هواه ظفر برضى الله . ومن جاوز عقله نفسه الأمارة بالسوء بالجهد والاستكانة والخضوع على بسط خدمة الله تعالى ، فقد فاز فوزا عظيما . ولا حجاب اظلم وأوحش بين العبد وبين الله تعالى من النفس والهوى ، وليس لقتلهما وقطعهما سلاح واله ، مثل الافتقار إلى الله سبحانه . والخشوع والجوع والظمأ بأنهار , والسهر بالليل ,فان مات صاحبه مات شهيدا , وان عاش واستقام أداه عاقبه إلى الرضوان الأكبر . قال تعالى عز وجل : (والذي جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وان الله لمع المحسن) .وإذا رأيت مجتهدا ابلغ منك في الجهاد فوبخ نفسك ولمها وعيرها تحثيثا على الازدياد عليه واجعل لها زمانا من الأمر وعنانا من النهي وسقها كالرابض للفارة الذي لا يذهب عليه خطوة من خطواتها , ألا وقد صحح أولها وأخرها وكان رسول الله يصلي حتى تتورم قدماه ويقول : أفلا لكون عبدا شاكرا أراد أن تعتبر به أمته فلا تغفلوا عن الاجتهاد والتعبد والرياضة بحال . ألا وانك لو وجدت حلاوة عبادة الله ورأيت بركاتها واستضاءت بنورها لم تصبر عنها ساعة واحدة ولو قطعت اربآ اربآ فما اعرض عنها من اعرض ألا بحرمان فوا يد السلف من العصمة والتوافيق )(4) .
قال السيد الشيخ عبد القادر الكيلاني قدس الله سره: (لا تشتغل بغسل ثياب بدنك وتذرن ثياب قلبك وسخة ، اغسل القلب أولا ثم اغسل الثياب أخرا , اجمع بين الغسلين والطهارتين ، اغسل ثيابك من الوسخ واغسل قلبك من الذنوب ولا تغتر بشيء فان ربك فعال لما يريد)(5) .
وقال قدس الله سره : (المؤمن يشتفي من نفسه إذا جاءها الأذية , يقول لها وعظتك فلم تتعظي من هذا حذرتك يا جاهلة يا كافرة يا عدوة الله . كل من لا يحاسب نفسه ولا يحاققها ولا يعظها لا يفلح قال النبي ﷺ : (من لم يكن له واعظ من نفسه لم ينفعه وعظ واعظ)(6) .
وقال أيضا :(اترك الشهوات فتركها فيه الشفاء وصفاء القلوب , الشبع من الحلال يعمي القلب ويكسره فكيف من الحرام ولهذا قال النبيﷺ : (الحمية راس الدواء والبطـنة راس الداء واكـل الجسـد ما اعــتاد. فالبطنة تطفيء نور الفطنة ومصباح الحكمة ونور الولاية )(7) .
قال الإمام الجنيد قدس الله سره : (سمعت السري السقطي يقول : يا معشر الشباب جدوا قبل أن تبلغوا مبلغي فتضعفوا وتقصروا كما ضعفت وقصرت , وكان في ذلك الوقت لا يلحقه الشباب في العبادة)(8) .
قال أبو عثمان المغربي رحمة الله : ( من ظن انه يفتح له بهذه الطريقة أو يكشف له عن شيء منها لا بلزوم المجاهدة فهو في غلط)(9) .
وقال أبوا على الدقاق رحمه الله تعالى : ( من زين ظاهره بالمجاهدة حسن الله سرائره بالمشاهدة قال تعالى : (والذي جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا). واعلم انه من لم يكن في بدايته صاحب مجاهدة لم يجد من هذه الطريقة شمة)(10) .
قال زكريا الأنصاري رحمه الله تعالى: (أن نجاة النفس أن يخالف العبد هواها ويحملها على ما طلب منها ربها )(11) .
قال محيي الدين ابن عربي رحمه الله تعالى في كتاب الفتوحات المكية : ( ولما رأت عقول أهل الأيمان بالله تعالى أن الله تعالى قد طلب منها أن تعرفه بعد أن عرفته بادلتها النظرية , علمت أن ثم علما أخر بالله لا تصل إليه من طريق الفكر , فاستعملت الرياضات والخلوات والمجاهدات وقطع العلائق والانفراد والجلوس مع الله بتفريغ المحل وتقديس القلب عن شوائب الأفكار إذ كان متعلق الأفكار الأكوان , واتخذت هذه الطريقة من الأنبياء والرسل ) .
وقال ابن عجيبة : ( المجاهدة فطم النفس عن المألوفات وحملها على مخالفة هواها في عموم الأوقات وخرق عوائدها في جميع الحالات )(12) .
ولما كانت النفس جاسوس إبليس اللعين ووسيلة في الإغواء فقد اشتد السالكون في محاربة هذا الجاسوس وتخذوا من الجوع سيفا بتارا لا ينثلم ضده , قال عبد الواحد بن زيد متحدثا عن أهل الطريقة : (والله مشوا على الماء ألا بالجوع ولا طويت لهم الارض ألا بالجوع )(13), فأنت ترى الاهتمام والتركيز على الجوع لان فيه يحصل صفاء القلب ونفاذ البصيرة ويزداد الفكر توقدا . وفي الجوع أيضا تذل النفس ويزول البطر والطغيان وتكسر شهوات المعاصي وبالجوع يحصل السالك خفة في البدن وزوال للنوم فهو المساعد الأول على السهر , قال يحيى بن معاذ رضي الله عنه : ( الشبع نهر في النفس ترده الشياطين والجوع نهر في الروح ترده الملائكة وتنهزم الشياطين من جائع نائم فكيف إذا كان قائما )(14) .
وقال ابو القاسم القشيري: (أساس باب الطريق هو الجوع لأنهم لم يجدوا ينابيع الـحكمة تحصــل ألا بـه )(15) , وحدد ابن عجيبة مراجع المجاهدة بثلاثة مراجع :
1- أن لا يأكل الا عند الفاقة .
2- أن لا ينام ألا عند غلبة شديدة .
3- أن لا يتكلم ألا عند الضرورة .
وهذا حال سيدنا السلطان حسين الكسنزاني قدس الله سره حيث بقي سنة كاملة طعامه فيها ملعقة صغيرة من العسل وقليل من الشاي في اليوم الواحد .
وهكذا كان حال أبيه الشيخ عبد القادر الكسنزاني وأخيه الشيخ عبد الكريم الكسنزاني قدست اسرارهما, جربوا فوجدوا النور كله في خلو البطن .
ولما كسر المريد نفسه بالجوع وذللها فقد أصبحت تنقاد أليه فعليه أن يوجهها إلى التهذيب والتأديب فيلزمها ترك الكبر والعجب والغرور والغضب وتحقير الناس والطمع في الدنيا وحب ألذات حتى تستقر وتى نفسها على حقيقتها ضعيفة ذليلة وتعلم قدرة الله فتقع في حبه تدريجيا فتأنس به وتستوحش عن غيره وتهيم في البراري حائرة مقبلة على العطش والجوع إقبالها على الطعام والشراب
وأول مرحلة في المجاهدة عدم رضا المرء عن نفسه وإيمانه بوصفها الذي اخبر عنه خالقها ومبدعها : (أن النفس لأمارة بالسوء)(16) .وعلمه أن النفس اكبر قاطع عن الله تعالى كما أنها أعظم موصل أليه وذلك أن النفس حينما تكون أمارة بالسوء لا تتلذذ ألا بالمعاصي والمخالفات , ولكنها بعد مجاهدتها وتركيزيتها تصبح راضية مرضية لا تســـير ألا بالـطــاعات والموافــقات والاستــئناس بالله تعالى (17) .
ولما كان طريق المجاهدة وعر السالك متشعب الجوانب , يصعب على السالك أن يلجه منفردا كان من المفيد عمليا صحبة مرشد خبير بعيوبها عالم بطرق معالجتها ومجاهدتها ,يستمد المريد من صحبة المرشد (شيخ الطريقة ) خبرة عملية بأساليب تزكية نفسه , كما يكتسب من روحانيته نفحات قدسية تدفع المريد إلى تكميل نفسه وشخصيته , وترقيه فوق مستوى النقائص والمنكرات ، فقد كان رسول الله ﷺ المرشد الأول والمزكي الأعظم الذي ربى أصحابه الكرام وزكى نفوسهم بقاله وحاله , كما وصفه الله تعالى بقوله : ( هو الذي بعث في ألاميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وان كانوا من قبل لفي ضلال مبين)(18)(19) .
(والخلاصة أن المجاهدة اصل من أصول الطريقة وقد قالوا من حقق الأصول نال الوصول ومن ترك الأصول حرم الوصول .
وقالوا أيضا : من لم تكن له بداية محرقة بالمجاهدات لم تكن له نهاية مشرقة والبدايات تدل على النهايات )(20) .
الهوامش:
(1) النازعات : 40-41.
(2) العنكبوت : 69 .
(3) التوبة : 41 .
(4) عادل خير الدين – العالم الفكري للإمام الصادق – 291 .
(5) جلاء الخاطر كلام السيد الشيخ عبد القادر – ص37 الناشر السيد الشيخ محمد الكسنزاني .
(6) جلاء الخاطر كلام السيد الشيخ عبد القادر – ص37 الناشر السيد الشيخ محمد الكسنزاني .
(7) المصدر نفسه.
(8) الرسالة القشيرية ص48 – 50 .
(9) المصدر نفسه .
(10) المصدر نفسه
(11) زكريا الأنصاري – تعليقات على الرسالة القشيرية .
(12) ابن عجيبه – معراج التشوف إلى حقائق التصوف .
(13) الرسالة القشيرية .
(14) المصدر نفسه .
(15) المصدر نفسه .
(16) يوسف : 53 .
(17) عبد القادر عيسى – حقائق عن التصوف – ص116 .
(18) الجمعة :2 .
(19) عبد القادر عيسى – حقائق عن التصوف – ص118 .
(20) عبد القادر عيسى – حقائق عن التصوف – ص129 .
المصدر :
السيد الشيخ محمد الكسنزان الحسيني – كتاب الطريقة العلية القادرية الكسنزانية – ص172-176 .