القلب عند أهل الطريقة له معنيان :
الأول : هو اللحم الصنوبري الشكل ، المودع في الجانب الأيسر من الصدر ، وهذا القلب يكون للبهائم أيضاً، بل وللميت كذلك .
وثانيهما : لطيفة ربانية روحانية ، لها تعلق بالقلب الجسماني كتعلق الأعراض بالأجسام ، والأوصاف بالموصفات ، وهو حقيقة الإنسان [1] .
وهذا المعنى هو المراد كلما ذكر لفظ (القلب) في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة ، والى هذا المعنى أشار تعالى بقوله : إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ [2] . فلو كان المراد بلفظ القلب في الآية الكريمة هو العضو اللحمي لدل ذلك على ان البعض يمكنهم العيش بدون هذا العضو وهو أمر محال ، ولهذا فالمقصود بالقلب في الآية الكريمة هو الجانب غير المادي في هذه المضغة .
والقلب في المفهوم الصوفي لا يقل أهمية عن القلب بالمعنى البايولوجي ، فكما ان صحة القلب وسلامته من الناحية البايلوجية مهمة جداً ، وربما تكون الأهم من بين جميع الأعضاء في الجسم البشري ، فإن أهمية طهارة القلب ونقائه و سلامته من الناحية الروحية ( غير المادية ) لا تقل في الأهمية عنها ، وذلك لأنه وكما كان حضرة الرسول الأعظم ::ص:ك يعلم الصحابة الكرام ان القلب هو محل نظر الله إلى عباده ، فقد كان يقول : إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم [3] .
وهذا المحل أو الموضع غير المادي يشبه المضغة المادية في كونه معرض للعديد من الأمراض – غير البايلوجية طبعاً – كمرض الكبر أو الحسد أو العجب أو النفاق أو غيرها ، يقول تعالى مخبراً عن حال المنافقين : فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ [4].
وهذه الأمراض التي قد تعتري القلوب يتوسع أثرها السيئ إلى جميع أنحاء الجسم الإنساني – المادي و غير المادي بحسب تعبير الطب التفاعلي – يقول : أَلاَ وَإِنَّ فِى الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلاَ وَهِىَ الْقَلْبُ [5] .
بمعنى ان المرض القلبي يؤثر على حياة الفرد كلها من حيث أقواله وأفعاله وأحواله ، وهذا بالطبع ينعكس على محيطه الذي يعيش فيه بالسلب ، ولهذا اعتنى القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة أيما اعتناء بصلاح القلوب ومحاولة شفائها وعلاجها من أمراضها الخفيه ، فقال سبحانه مادحا القلوب الصافية : يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ . إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [6] . وواضح من نص الآية الكريمة تفضيل الحق سبحانه لسلامة القلوب من الأمراض على كل شيء في الحياة ولو كانوا فلذات الأكباد . وما ذلك إلا لينبه على أثر القلب بالنسبة للفرد بشكل خاص والمجتمع الذي يعيش فيه بشكل عام .
وهنا وحول هذه النوع من العلاج لسنا بحاجة إلى ذكر مدى تخلف الطب التقليدي في هذا المجال ، ولا نقول انه ينكر هذا النوع من (الأمراض القلبية) بل هو لا يعرفها أصلاً ، فهذا العلم فيه خلط كبير بينه وبين (الأمراض النفسية) ، فإذا كان الطب التفاعلي الذي يقول بتأثير بعض النواحي السيكولوجية على صحة الإنسان لم يعترف به رسمياً إلا قبل عقود قليلة ، فكيف يكون الحال مع أمراض لم يتطرق لها الطب التقليدي أصلاً ؟!
على كل حال ، ان أمراضا مثل النفاق أو الحسد أو الشغف بحب الدنيا أو غيرها من الأمراض التي لها ما لها من آثار سلبية في المجتمعات الإنسانية .
وقد توسعت كتب الصوفية في عرض هذه الأمراض من حيث المعنى والدرجات والأقسام وطرق العلاج وما إلى ذلك مما يمكن مراجعته في محله ، وما يهمنا هنا هو الأسلوب الروحي الذي تتبعه الطريقة الكسنـزانية في شفاء هكذا أمراض .
ويبدو انه لا يختلف في شيء عن الأساليب التي اتبعتها الطريقة مع بقية الأمراض السابقة ، فالمساعدة الروحية من قبل مشايخ الطريقة هي الوسيلة الشفائية لجميع الأمراض وفي جميع الحالات ، إلا ان الفرق بينها جميعاً مسألة الوقت ، وهنا وبخصوص هذا النوع من الأمراض يشترط الإرادة ، أي ينبغي على المريد او من يريد هذا الشفاء ان يسعى في تطبيق أوامر شيخ الطريقة بحذافيرها ، كما يشترط عليه ان يكون ذو رابطة قلبية قوية مع الشيخ ، ومعنى هذه الرابطة هو الإخلاص في محبة الشيخ فوق كل شيء اقتداءً بقوله : لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [7] ،
والشيخ في تعاليم الطريق بين مريديه كالنبي بين أصحابه ، فهذه الشروط ضرورية جداً في مسألة شفاء الأمراض القلبية ، لأنها من صميم السلوك في الطريقة ، وهو طريق يصفه الشيخ محمد الكسنـزان بأنه « سهل لأهله وصعب على غير أهله » .
هناك عامل مهم جداً في علاج الأمراض القلبية والنفسية وهو ما يسمى بعامل
( القدوة الصالحة ) حيث تتميز الطريقة بخاصية إعطاء المرضى والمريدين بل وحتى عوام الناس فرصة الإقتداء بالشخصية المثالية والتي يصطلحون على تسميتها في الطريقة الكسنـزانية بـ ( الإنسان الكامل ).
ان فائدة القدوة الصالحة في الصحة النفسية والقلبية تتمثل في قولهم للإنسان : اذا أردت ان تتمتع بصحة نفسية وقلبية فعليك أن تسعى لتكون مثل الأنبياء والأولياء ، وهم في ذلك لا يكتفون في مقام التربية والمعالجة بالتنظير وإعطاء الأطروحات وإصدارات التعليمات أو النصائح والإرشادات من دون ان يشفعوه بمصداق جلّي للشخصية الكاملة السليمة متمثلة بشخص شيخ الطريقة .
ان أدبيات الطريقة الكسنـزانية في مجال القدوة الصالحة تتمتع بـ :
1. وجوب ان يكون للطريقة شيخ حي حاضر وارث للقوة الروحية الكاملة ممن سبقه ، ولا ينتقل إلى العالم الآخر الا بعد ان يورِّث تلك القوة إلى الشيخ الذي يليه .
وبالتأكيد أن من يمتلك تلك القوة الروحية التي تسمى ( مشيخة الطريقة ) وهي القادرة على فعل الأعاجيب في الغير ، لا بد ان يكون حاملها ( وارثها ) هو الأولى في الاستفادة منها من حيث الكمال ، ويصح ان نصفه قائلين : أنه كامل بها مكمل لغيره بها أيضا . وقد جاء في كتاب الطريقة العلية القادرية الكسنـزانية عن هذه المسالة ما فحواه : إن شيخ الطريقة هو المأذون من الله تعالى وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ [8] . وهو الولي المرشد مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا ([9]) .
وهو من أهل الصنع الإلهي الخصوصي وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي [10] وهو خليفة الله في الأرض إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً [11] . وهو الجامع للأسرار الروحية وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ ([12])
فمشيخة الطريقة أمر يختص به الله من يشاء من عباده الصالحين ليكون حاملاً أمانة الوراثة الروحية للأنبياء والأولياء والصالحين حتى يورثها لمن يليه قبل انتقاله إلى العالم الآخر[13].
2. صورة ذلك الكمال النفسي والقلبي والروحي يتم التعبير عنها في الطريقة بمصطلح ( الفناء ) ، فالشيخ وبواسطة هذه القوة الروحية ( فانٍ ) في الشيخ الذي قبله ، والشيخ الذي قبله فان كذلك فيمن هو قبله ومن شيخ إلى شيخ حتى يصل الفناء إلى حضرة الرسول الأعظم سيدنا محمد ، وهو بدوره r فان في الله تعالى . أي ان الشيخ الحاضر فان في حضرة الرسول ومن خلاله هو فانٍ في الله تعالى .
يقول السيد الشيخ محمد الكسنـزان : « ان شيخ الطريقة الحاضر متصل بالتتابع لسيدنا المصطفى بسلسلة مشايخ الطريقة الروحية » [14] .
ومعنى هذا الفناء هو ذوبان الصفات المعنوية لشيخ الطريقة في صفات حضرة الرسول الأعظم الذي وصفه الحق تعالى بأنه على خلق عظيم ، وبأنه رحمة للعالمين ، وبأنه نور مبين ، بالصفات الكمالية التي لا يعدها الحصر كما يقال .
وعلى هذا فالشيخ الحاضر أمام المريد أو المريض أو الطالب هو عبارة عن صورة أخرى للحقيقة النورانية المحمدية متمثلة في شخص شيخ ذلك الزمان وبالتالي فهو يمثل القدوة الصالحة والأسوة الحسنة التي ينبغي عليه إتباعها والإقتداء بها .
يقول السيد الشيخ محمد الكسنـزان : « إن ثمرة اتباع المريد الكامل ظاهراً وباطناً لشيخ الطريقة هو الفناء بشيخه وهو تلذذ المريد بقبس الأنوار الروحية التي تغزو قلبه من شيخه ، وإن هذا الفناء يتحول إلى قنطرة الفناء التالية وهي الفناء في الرسول الأعظم ومنه يتحول إلى قنطرة الفناء التالية وهي الفناء في الله تعالى »[15] .
تعتبر هذه الميزة في الطريقة فارق أساسي بينها وبين بقية الأديان والمذاهب الأخرى التي تفتقد إلى المعيار العملي المهم في مجال الصحة النفسية والسلامة القلبية ، فالمذاهب الدينية ومدارس علم النفس كلها تفتقد إلى المعيار المتجسد لتلك السلامة النفسية على ارض الواقع الخارجي ، هذا فضلاً عن انها متضاربة فيما بينها في تحديد المعيار النظري أيضاً ، فلا تكاد تجد مدرستين من هذه المدارس تتفق على الأصول والمبادئ الأساسية للشخصية السليمة .
إن وجود القدوة الصالحة يعتبر أهم مبادئ العلاج النفسي والقلبي لأنه يكون بمثابة الميزان التجريبي على مستوى التطبيق والممارسة ، فيتعرف المريد على سلامة نفسه وصحة سلوكياته في حركة الواقع الاجتماعي من خلال تطبيق هذه السلوكيات على سيرة الأنبياء والأولياء الذين جعلهم القرآن الكريم قدوة حسنة وأسوة للبشرية على اختلاف أفرادهم في المقام والثروة والعرق والجنس .. تلك السيرة الصالحة التي هي أحوج ما يكون المريض لها ، يجدها ماثلة بكل معانيها السامية في صورة شيخ الطريقة الحاضر لكونه وارثاً روحياً لكل تفاصيلها الظاهرية والباطنية .
يمكن تلخيص النتائج التي توصلت لها هذه الدراسة في ثلاث حقائق :
الأولى : ان الهالة المادية التي كانت تصبغ جميع العلوم بدأت تضعف وتنحسر ، ليس لأن العلوم المادية غير صحيحة بل لأنها ليست شاملة ، أي لا تستطيع الإحاطة بكل جوانب العلوم في الوجود .
الثانية : في المجال الطبي ، وفي عصر التقدم العلمي والانفتاح العالمي ، يمكن ان يستفيد العلم الحديث من ظاهرة روحية مهمة وهي الشفاء الروحي الخارق الذي تؤكد الطريقة العلية القادرية الكسنزانية امتلاكها لمفاتيحه العلمية والروحية بصورة كاملة ، ويمكن إجراء التجارب والاختبارات العلمية التي تثبت مصداقيته وفائدته العملية للإنسانية اجمع .
الثالثة : الطب الروحي الخارق الذي تقول به الطريقة الكسنـزانية لا ينفي الطب التقليدي بل بالعكس يؤكده ، ولكنها وفي الوقت نفسه تدعو إلى تكامل شقي الطب لتكوين نموذج جديد شامل يراعى فيه ان العالم مكون من جانبين : مادي يجب ان يراعى وآخر روحي يجب ان يؤخذ بنظر الاعتبار .
وعلى الجملة فالشفاء الخارق في التصوف الإسلامي ، وتجسده بالشكل الذي تعرضه الطريقة العلية القادرية الكسنـزانية لهو تحد من أكبر التحديات أمام العلم الحديث ، والذي عاجلاً أو آجلاً سيضطر لمواجهته ، ليس بالرفض بل بالفحص والتمحيص العلمي ووقتها ستجد مناهج البحث العلمي ان عليها إعادة النظر في كثير من القضايا الرئيسية التي أسدلت عليها الستار ومنها قضية العلاقة بين العلم والدين ومدى استفادة العلم من التفسيرات الصوفية للقدرات الخارقة التي بحوزتها .
إن العلوم الطبية بشكل عام شقت طريقها دون التفات للمفاهيم الصحيحة التي قدمها الاعتقاد الصوفي ، سواء الشرقي أو الغربي ، ولم يحاول العلماء اختبار بعض ما جاء به الدين حول الطبيعة الإنسانية وغيرها ، ولكن ، بعد التطور العلمي والتقني الذي شهده العصر أمكن إنجاز مثل هذا العمل بالفعل ، وأمكن الآن القول بأن المنهج الصوفي والمنهج العلمي يمكن ممارستهما معا في وقت واحد ، إذ ان أحدهما يمكن ان يدرس من خلال الآخر ، وأن الأبعاد الروحية ووحدة الوعي يمكن استكشافها بأدوات العلم ، على الأقل في المراحل الأولية لهذا الاستكشاف .
ولعل ذلك اذا حدث ، أي اذا حصل التقارب العلمي بين العلم والتصوف الإسلامي فانه يفتح باب التقارب بين الحضارة الإسلامية التي تؤمن بالقضايا الروحية وبين الحضارات القائمة على الفكر المادي.
الهوامش :
[1] – د. عبد المنعم الحفني – الموسوعة الصوفية – ص 915 .
[2] – سورة ق : 37 .
[3] – أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب البر والصلة عن ابي هريرة رضي الله عنه – ج4 – ص 1986 برقم 2564.
[4] – البقرة : 10 .
[5] – صحيح البخاري – ج 1 ص 28 – برقم 52 .
[6] – الشعراء : 88 – 89 .
[7] – ٍ أخرجه البخاري عَنْ أَنَسٍ ، كتاب الايمان ، رقم (993 ، 1249) .
[8] – الأحزاب : 46 .
[9] – الكهف : 17 .
[10] – طه : 41 .
[11] – البقرة : 30 .
[12] – يس : 12 .
[13] – الشيخ محمد الكسنـزان – كتاب الطريقة العلية القادرية الكسنـزانية – ص 85 .
[14] – الشيخ محمد الكسنـزان – كتاب الطريقة العلية القادرية الكسنـزانية – ص 85 .
[15] – المصدر نفسه – ص 86 .
المصدر : من كتاب خوارق الشفاء الصوفي والطب الحديث – أ.د. الشيخ نهرو الشيخ محمد الكسنزان الحسيني .