يكشف لنا البحث ان للصوفية نظرات عميقة في الانسان من حيث هو انسان كما يكشف انهم قد استلهموا روح القران الكريم في نظراتهم تلك وانتهو الى نتائج على درجة كبيرة من الخطورة والجد سنحاول ان نبسطها في هذا المبحث معتمدين على ما كتبه اعلام الصوفية في هذه الفترة , وفي الصدارة منهم الحكيم الترمذي والحارث المحاسبي وسهل التستري وذو النون المصري وسيد الطائفة الجنيد والمكي والكلاباذي والقشيري واقوال اخرى تشرح وتدعم وتوضح غامض ما بسطه هؤلاء .
يذكر لنا ابن خلدون جانبا من محاولتهم استكناه طبيعة التركيب الانساني فيقول : ( ان الله سبحانه خلق الانسان مركبا من جثمان ظاهر وهيكل محسوس وهو الجسد ومن لطيفة ربانية اودعه اياها واركبها مطية بدنه وهذه اللطيفة مع البدن بمنزلة الفارس من الفرس والسلطان من الرعية تصرف البدن في طوعها وتحركه في ارادتها لا يملك عليها شيئا يقدر على معاصاتها طرفة عين لما ملكها الله من امره وبث من قواها فيه ويقول سهل التستري : الا ترى ان العبدى انما ينظر الى الحق بسبب لطيفة من الحق يوصلها الى قلبه هي من اوصاف ذات ربه ليست بمكونة ولا مخلوقة ولا موصولة فبالله اليقين والعبد موفق بسبب منه اليه على قدر ما قسمه الله له من الموهبة وعلى قدر جملة سويداء قلبه .
وهذه اللطيفة الربانية التي ملكت امر البدن في الانسان وبثت قواها فيه هي التي يعبر عنها في الشرع تارة بالروح وتارة بالقلب وتارة بالعقل وتارة بالنفس .
واستلفتت هذه الاثنينية في الانسان انتباه الصوفية فرأوا في الانسان جسدا وروحا او ظاهرا وباطنا او شهودا وغيبا وعرفوا ان اهم ثمرة لباطن الانسان هي الادراك او العلم والمعرفة فأولوه – أي الجانب الباطن – جل عنايتهم خصوصا وقد وجدوا ان القران الكريم قد وضع بعض المعالم في طريق الوصول الى ما يرضي تطلعهم الرحيب ومن هنا كانت لهم نظرتهم الكلية ( لغيب ) الانسان او ( لباطنه ) او بعبارة اخرى فانهم قد رأوا الخيط الدقيق الذي يجمع كل هذه القوى غير الظاهرة المبثوثة في الانسان ولها السلطان على ظاهره رغم التناقض الذي نشهده في اثارها الخارجية .
وما ذلك الا لانهم قد ربطوا الانسان بجانبه الجسدي وغير الجسدي بوظيفته في الحياة الدنيا وهي الخلافة لله سبحانه اني جاعل في الارض خليفة وما كانت هذه الخلافة الا لتحقيق معنى العبادة لله قال تعالى : وما خلقت الجن والانس الا ليعبدون قال ابن عباس : معناه : الا ليعرفون . وعلى ضوء فكرتهم الاولية بان الخلق الالهي للانسان يتناسب مع الوظيفة المنوطة به ، وما يتعلق بها او يتوقف عليها – كانت نضرتهم الكلية الى الجهاز الباطن في الانسان او ما يسمى بالكينونة الروحية للانسان او ما يمكن لنا ان نطلق عليه الجهاز المتكامل للانسان وهو فيما يرى الدكتور كمال جعفر مجموعة الطاقات البشرية كلها من روحية وعقلية وارادية .
وبالرغم من النظرة الكلية لهذا الجهاز عند الصوفية فان الدراسة قد اقتضت تحليل هذا الجهاز الى اقسام او مستويات والوقوف عند كل مقام لدراسته وربطه بوظيفته الخاصة به في دائرة الاطار العام للوظيفة الكبرى الخاصة بالانسان .
ولقد اطلق الصوفية على هذا الجهاز المتكامل اسم القلب يقول سهل التستري مشيرا الى ذلك بأن : ( القلب بحر وللقلب مقامات ) ويقول الحكيم الترمذي : ( واسم القلب اسم جامع يقتضي مقامات الباطن كلها ) وفي القلب مواضع منها ما هي خارج القلب ومنها ما هي من داخل القلب وكذلك يرى سهل ان للقلب قلبا وهو جمهور الشيء ويرى ان للقلب عرقين يمينه ويساره يمينه للعقل ويساره للعدو .
ويرى المكي ( ان للقلب سمعا وبصرا ولسانا وشما وان من الخواطر ما يقع في سمع القلب فيكون فهما منها ما يقع في لسان القلب فيكون كلاما وهو الذوق ومنها ما يقع في شم القلب فيكون علما وهو العقل المكتسب بتلقيح العقل الغريزي ) .
وكان الصوفية على وعي تام بالاجابة على السؤال : ( كيف يطلق اسم القلب على الجهاز كله وبعض أجزائه خارج عنه والبعض الاخر داخل فيه ؟ فأجابوا بان اسم القلب يشبه في ذلك اسم العين اذ العين جهاز يجمع ما بين الشفيرتين من البياض والسواد والحدقة والنور الذي في الحدقة وكل واحد من هذه الاشياء له حكم على حدة ومعنى غير معنى صاحبه ، الاان بعضها معاونة لبعض ، ومنافع بعضها متصلة ببعض وكل ما هو خارج فهو اساس الذي يليه من الداخل وقوام النور بقوامهن ) .
ولأن الله سبحانه قد جعل لقلوب خلقه مقامات ارتبطت درجات العلم ومراتبه بمقامات القلب او الجهاز المتكامل فان : كل علم هو ارفع فموضعه من القلب هو اكن واخص واحرز واخفى واستر.
فللقلب قلب وهو موضع وقوف العبد بين يديي مولاه فلا يتحير في شيء انما هو ساكن الى الله ولعل هذا يمثل المستوى العالي من مستويات القلب الذي اطلق عليه التستري جمهور القلب وكليته و سويداءه ولقد احتل القلب الانساني اهم مركز في نظر الصوفية وعلى وجه خاص سهل التستري اذ نرى كثرة حديثه عنه وكثرة رموزه كذلك فهو يحيل اسماء بعض الظواهر الطبيعية الى معان كلها تشير الى القلب وان نظرة الى تفسيره او كلامه تؤكد هذه الحقيقة فمن الرموز التي يطلقها على القلب البحر والبيت ويرى باحث معاصر ان التستري يؤيد قداسة القلب ورفعة شانه وعدم محدوديته وتفرده بالنظر الى الجهة العليا بل انه يقرنه في سموه وقربه بالعرش الرباني .
ويتصور ان هناك طبقات تعمل على ستر القلب وحجبه عن الحقيقة وعلى الانسان ان يكافح ليزيل هذه الحجب شيئا فشيئا حتى يرقى الى حقيقة القلب .
يقول سهل : ( للقلب سبعة حجب سماوية وسبعة ارضية ، ولا ترفع حتى يدفن نفسه يعني المؤمن في ارض فيكشف له سماء سماء ولكل ارض سماء حتى يصل الى الثرى وان صار الى الثرى وصل القلب الى العرش ) .
معناه اماتة النفس على السنة واتباع السنة بالسنة لان كل شيء من مقامات العابدين مثل الخوف والحب والشوق والزهد والتوكل والرضا لها غاية ومنتهى الا السنة فانها ليست لها غاية ولا منتهى .
ولن يكون اهتمامنا بالجانب الادراكي في هذا الجهاز على حساب الجوانب الاخرى .
أ – مقام الصدر
واول مقامات القلب الصدر وهو الجزء الخارجي منه بمنزلة بياض العين من العين ومثل صحن الدار في الدار وسمي صدرا لانه صدر القلب واول مقاماته كصدر النهار والصدر ساحة مفتوحة ترد اليها كافة امور الانسان سواء منها ما يرد من جانب العقل او من جانب الهوى حيث يتم التدبير وتصدر الاوامر الى الجوارح بالتنفيذ اما طاعة اما معصية .
وهو موضع حفظ العلم السموع الذي يتعلم من علم الاحكام والاخبار او كل ما يعبر عنه بلسان العبادة ويكون اول سبب الوصول اليه التعلم والسمع والصدر كذلك موضع النفس الامارة بالسوء ذلك ان المؤمن قد ابتلي بالنفس وامانيها واعطيت النفس ولاية التكلف بالدخول في الصدر بوسوستها واباطيل امانيها ابتلاء من الله للعبد حتى يستعين بصدق الافتقار والتضرع فالصدر اذن هو ميدان يصطرع فيه العقل مع الغرائز او مع الهوى ومن هنا فانهم يرون ان الانشراح والضيق انما يضافان الى الصدر ولا يضافان الى غيره من مقامات القلب يقول تعالى : فلا يكن في صدرك حرج منه .
الم نشرح لك صدرك فلعلك تارك بعض ما اوحى اليك وضائق به صدرك ولقد نعلم انك يضيق صدرك .
واخبر عن موسى عليه السلام انه قال : ( رب : اني اخاف ان يكذبون ويضيق صدري ) . فاضاف الله الضيق الى الصدر ولا غاية لضيق الصدر إذا ضاق , كل واحد يضيق على قدر جهله ، وكذلك لا غاية لسعته اذا انشرح بهدى الله تعالى ، فاذا ضاق عن الباطل اتسع للحق ، واذا ضاق عن الحق اتسع للباطل ، وان كان الصدر يضيق بالوسواس والغم والشغل وتتابع الحوائج والمصائب فانه ينشرح بانوار حق الاسلام وان الصدر اذا امتلاء من ظلمات الكفر ضاق عن وسع اضدادها من الانوار .
اما من ناحية الوظيفة الادراكية العلمية للصدر فان كل علم يوصل اليه الا بالتعلم والتحفظ والاجتهاد والتكلف من جهة السمع والخبر قرآنا كان او حديثا او غيره فان موضعه الصدر ويجوز عليه حكم النسيان قال تعالى : بل هو ايات بينات في صدور الذين اوتو العلم وهو العلم الذي تتهيأ عبارته وقراءته وروايته وبيانه ويمكن في صاحبه النسيان لان النفس هي التي تحمله وتحفظه وهي مطبوعة على النسيان فربما ينساه بعد التحفظ وبعد جهد كثير .
فالصدر اذن علمه او ادراكه ادراك عقلي كسبي نتيجة تحليل وجهد في الحفظ والنظر والصدر بهذا المعنى نظير العقل في المجالات الادراكية ويربط الصوفية بين خاصية الحفظ في الصدر وبين ظهر القلب اذا يقال فلان يحفظ عن ظهر قلب ومع هذا الجهد ربما غلط وسها ونسي وشك في محفوظه ويشبهون مقام الصدر من القلب بالصدفة من اللؤلؤة .
ب – مقام القلب
رأى الصوفية كما اسلفنا الخيط الدقيق الذي يربط بين قوى اللطيفة الربانية المودوعة في الانسان ورأوها جهازا باطنيا متكاملا يتحكم في الانسان تحكما كاملا واطلقو عليه جملة اسم القلب وعللوا تسمية الجهاز كله باسم جزء فيه او مقام منه بضرب امثلة واقعية على صحة ذلك ، واشتمل هذا الجهاز المتكامل في نظرهم على جميع العمليات التي تحدث في غيب الانسان وتظهر على شهوده وحاولوا القاء ضوء ساطع على علاقاتها الخفية وتداخل تلك العلاقات ومنها ما بيسمى الان بعلم الغرائز والدوافع وهي عمليات سيكيولوجية يختص ببحثها علم النفس ، ومنها عمليات معرفية ادراكية او ابستمولوجية تختص ببحثها الفلسفة كما بحثوا صلة كل ذلك بوظيفة الانسان في هذه الحياة وهي الخلافة لله سبحانه وتحقيق معنى العبادة له .
ولقد حلل الصوفية هذا الجهاز الى مناطق او مقامات اربعة متصاعدة هي مقام الصدر الذي تحدثنا عنه ومقام القلب ومقام الفؤاد ومقام اللب وربطو كل مقام بحالة من حالات النفس الاربعة المذكورة في القران وهي النفس الامارة بالسوء والنفس اللوامة و النفس الملهمة والنفس المطمئنة .
وكذلك ربطوا كل واحد من هذه المقامات باحد انوار الله فالصدر او المقام الخارجي مرتبط بنور الاسلام والقلب وهو داخل الصدر مرتبط بنور الايمان والفؤاد وهو المقام الثالث مرتبط بنور المعرفة واللب وهو اخر المقامات من داخل مرتبط بنور التوحيد والمقامان الاخيران ينتهيان الى الاحسان ، ومن ثم فان هذه المقامات ترتبط بدرجات العبد الاربع ، المسلم والمؤمن والعارف والموحد .
وبعد ان ذكرنا مقام الصدر ورأينا اهم خصائصه الادراكية وهو تحصيل العلم الكسبي العقلي نذكر فيما يلي المقام الثاني وهو القلب ، يقول الحكيم الترمذي : ( والقلب هو المقام الثاني فيه .. وهو داخل الصدر .. وهو كسواد العين الذي هو داخل العين .. كموضع الفتيلة من القنديل ) ( وهو معدن اصول العلم لانه مثل عين الماء والصدر مثل الحوض يخرج من القلب اليه العلم ، او يدخل من طريق السمع اليه ) وبهذا تتميز لديهم طريقتان للمعرفة ، طريقة الحس والعقل وطريقة القلب ، ندرك ان معرفة الصدر تكون اما من الطريق الاول الحس والعقل فحسب اما تكون منها معا ذلك ان الصدر مثل الحوض والمعرفة ماؤه ، والماء قد يتجمع في الحوض من الجدول والقنوات الخارجية ، او قد ينبع اليه من الباطن الى جانب ذلك .
وقد خص الصوفية هذا المقام من القلب بانه عين القلب يقول ذو النون المصري : ( خص الله خصائص من خلقه ، فنظروا من اعين القلوب الى محجوب الغيوب ) .
ولئن كان الصدر موضعا يصدر اليه علم العبارت فان القلب معدن العلم الذي تحت علم العبارة وهو علم الحكمة والاشارة .وكذلك فان العلم الذي يدخل في الصدر من خارجه لا يتمكن فيه الا بعد التكرار وجهد الاعتبار والمواضبة عليه اما ما خرج اليه من داخل القلب من لطائف الحكمة وشواهد المنة فاستقراره في الصدر متمكن ومعنى علم العبارة : ان يعبر عنه باللسان اما علم الاشارة فمعناه ان يشير – الله بقلبه – أي بقلب المؤمن الى ربوبيته ووحدانيته وجلاله وقدرته وجميع صفاته ، وحقائق صنعته وفعله لذا فان الصوفية يذهبون الى ان علم العبارة حجة الله على خلقه يقول الله لهم : ماذا عملتم فيما علمتم ؟ اما علم الاشارة فهو محجة العبد الى الله … بهداية الله تعالى له انه من عليه بكشف قلبه بمشاهدة غيبة ورؤية ما وراء حجبه كانه يرى ذلك كله بعينه حتى لو كشف به الغطاء لما زاد في نفسه .
ويرون ان كل علم تحمله النفس ويعيه الصدر فان النفس تزداد به تكبر وترفعا وتأبى قبول الحق وكلما ازدادت علما ازدادت حقدا وتماديا على الباطل والطغيان ، قال رسول الله : ان لهذا العلم طغيانا كطغيان المال كما يرون ان العلم اذا قل نفعه اشترى به صاحبه الثمن القليل واعرض عن طاعة الله … ( ذلك لان هذا العلم انما يكون تعلمه لاقامة الشريعة وتأديب النفس واصلاحها ومنعها عن الجهل , ومعرفة حدود احكام الدين وقوام ظاهر الدين ) … ولهذا فان منفعه انما تزداد وتكثر وتعظم اذا كشف الله له علم الباطن , علم القلب … وهو العلم النافع ويشهدون على ذلك بان الرسول قد تعوذ فقال : اللهم أني أعوذ بك من علم لا ينفع .
ويرى الصوفية ان في هذا دليلا على ان ( العلم المسموع الذس يحفظ في الصدر – انما هو حجة الله على النفس , وهو يشتري به الدنيا , ويستغني به عن الدين الذي هو أنفع له , ولا يعمل به ليكشف الله له من العلم النافع , والعلم النافع – فيما يعتقدون – هو علم القلب , وما ذلك الا لعقيدتهم الراسخة بان العبد إذا عمل بعلمه الكسبي اورثه الله سبحانه جملة من العلوم غير المكتسبة .
وللصوفية مع القلب – الذي هو المقام الثاني للجهاز المتكامل الذي يطلقون عليه اسم القلب – علاقة حميمة فانه ( لا غاية لغور بحاره , ولا عدد لكثرة انهاره لان الله سبحانه أودعه خزائن القلوب) .
ولهذا القلب قفل ومفتاح , فلما سئل سهل عن قفل القلب ومفتاحه قال : ( المعرفة القديمة قفل القلب وهي مثبتة ومفتاحه الاقرار بالربوبية ) .
وله قناع أو حجاب يسعى المؤمن لكشفه بالمجاهدة والتقوى , كما ان لهذه القلوب أفعلا وافعالها العلم بالشيء .
ومما تجدر بالاشارة اليه ان للصوفية مصطلحا خاصا حول الققلب يسمونه ( جمهور القلب ) أو كلية القلب يشير التستري الى ذلك حين يعرض لنا رأيه في الشهيد ( بأنه هو الذي شاهد مولاه بنيته في حركاته وسكونه وبقر نفسه – أي شقها وكشفها لله وأنارها بنوره – بمولاه وشهداء البحر الذين شاهدوا قلوبهم بكليته , وهم يتولى الله قبض أرواحهم وشهداء البر الذين شاهدوا قلوبهم بقدر ما حفظوا به جوارحهم ومعنى مشاهدة كلية قلوبهم مشاهدة مولاهم وانتظارهم البشارة عند وفاتهم .
ويعلق أحد الباحثين على ذلك بقوله : في هذا ما يدل على أن التستري كان يرى ان كلية القلب وهو المصطلح المقابل للمصطلح النفسي الحديث( collective unconcion ) : وهي موضع الاتصال : بالله وان الانسان لا يرى في الحقيقة سوى أعماق نفسه التي ليست شيئا سوى سر الربوبية المتصلة بالنفحة الالهية ويلخص التستري فكرته هذه بقوله : ( للقلب قلب وهو جمهور الشيء ) . وهذا كمن غير شك يدعم تسمية الصوفية للكل باسم الجزء كما أسلفنا , ورأى الصوفية أن لهذا القلب عدة خصائص تلتقي كل مجموعة منها بنطاق من نطاقاته فمنها يعبر عن النطاق العاطفي او الوجداني فالقلب حينئذ معدن التقوى والسكينة والوجل والاخبات اللين والطمأنينة وحب الايمان وزينته ومنها ما يعبر عن النطاق الاخلاقي كالخشوع والتمحيص والطهارة ومن هذه الخصائص ما يشير الى النطاق المعرفي في القلب كالامتحان له .
ومما يذكر للصوفية أنهم قد استقوا هذه الخصائصص من القران الكريم وذكروا من الايات التي تشير الى الجانب الوجداني للقلب قوله تعالى : ولكن الله حبب اليكم الايمان , اولئك كتب في قلوبهم الايمان , وقلبه مطمئن بالايمان هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين , وتطمئن قلوبنا , ثم تلين جلودهم وقلوبهم الى ذكر الله وقلوبهم وجلة فتخبت قلوبهم ألم يأن للذين امنوا ان تخشع قلوبهم لذكر الله .
وينقل لنا الترمذي ما يقوله الطبري في تفسير معنى الخشوع بأنه : الخوف الدائم في القلب ويلحظ الصوفية ان العمى والبصر يضافان الى القلب ولا يضافان الى المصدر , قال تعالى فانها لا تعمى الابصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ومن الآيات التي تشيير الى النطاق الاخلاقي والمعرفي قوله تعالى : ذلكم أطهر لقلوبكم , وليمحص ما في قلوبكم , أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى .
الفؤاد
وننتقل للحديث عن المقام الثالث من مقامات ( القلب ) على سعة معناه أو الجهاز المتكامل للانسان وهو : ( الفؤاد ) فنلحظ أول ما نلحظ أن الصوفية يرفعون مكانة الفؤاد فوق مكانة الصدر والقلب , إذ إنه كلما أستفاد الرجل استفاد فؤاده أولا ثم القلب ( وهو في وسط القلب – كما ان القلب في وسط الصدر – مثل اللؤلؤة في الصدفة واسم الفؤاد أدق معنى من اسم القلب وان كانا قريبين . ويذهبون الى أن هناك علاقة حفظ وتأيدد من اسماء الله الحسنى لمقامي القلب والفؤاد وأن حافظ القلب والفؤاد هو الرحمن لأن القلب معدن الايمان والمؤمن توكل بصحة ايمانه على الرحمن ويربطون بين قوله تعالى هو الرحمن آمنا به وعليه توكلنا وبين القلب .
أما حافظ الفؤاد فهو الرحيم قال تعالى ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون وهذا الرأي – على جدته – ينسجم مع مذهبهم في تفسير معنى الربط في قوله تعالى : وربطنا على قلوبهم إذ قاموا بأنه ربط التأييد بنور التوحيد … يقول الترمذي : ( وصف الله تبرك وتعالى ربطه قلب العبد فقال في قصة أصحاب الكهف وربطنا على قلوبهم إذ قاموا وفي قصة أم موسى لولا أن ربطنا على قلبها … ذلك أن القلب يعلم والعلام يحتاج الى ربط التأييد حتى يطمئن بذكر الله .
أما الفؤاد فانه يرى ويعاين فيقع له الفراغة ولا يحتاج الى الربط بل يحتاج الى معرفة المدد بالهداية قال تعالى وأصبح فؤاد أم موى فارغا ان كانت لتبدي به فوصف الفؤاد بالفراغة وفضله على القلب , إذ القلب يحتاج الى الربط والفؤاد يرى ويعاين والقلب يعلم , وليس الخبر كالمعاينة كما يقول .
ويحرص الصوفية حرصا بالغا على ربط نظريتهم في تفضيل الفؤاد على القلب بالقرآن والحديث ولقد ذكرنا جابنا من محاولتهم للاستشهاد بالقران الكريم ونكتفي هنا بسوق حديث الرسول عن الاسلام والايمان والاحسان , أذ قيد – الرسول – مرحلة الاحسان وهي أعلى المراتب – بالرؤية والمشاهدة ومعدن الرؤية – لديهم – هو الفؤاد قال تعالى ما كذب الفؤاد ما رأى .
ندرك مما تقدم ان وظيفة مقام القلب هي العلم أو المعرفة ووظيفة الفؤاد هي الرؤية , ومن الجائز أن يجتمع لدى العبد علم القلب الى جانب رؤية الفؤاد ومحصلة ذلك صيرورة ( الغيب عيانا ) وهذا مرتبط أوثق ارتباط بمفهوم علم اليقين وعين اليقين ) ولديهم وله ارتباط وثيق بالبصيرة ومن ذلك ما ورد عنهم : انعكس بصري في بصيرتي فرأيت من ليس كمثله شيء …. يقول تعالى كلا لو تعلمون علم اليقين , لترون الجحيم , ثم لترونها عين اليقين .
كما يرى الصوفية أن قصة موسى مع قومه برهان على لك لان الله لما أخبر موسى أن قومه أتخذوا العجل الها أشتد غضبه ورجع الى قومه غضبان اسفا لما أيقن باخبار الله تعالى عنهم ( علم يقين ) فلما عاينهم يعبدون العجل القى الالواح وأخذ برأس اخيه وازداد غضبه حدة , وفي هذا يقول الرسول : رحم الله أخي موسى …. ليس الخبر كالمعاينة
وثمة فضل أخر يتقدم به مقام الفؤاد على مقام القلب لا ينتفع بعلمه ما لم ير الفؤاد ولتقريب هذا المعنى يسوق الصوفية مثالا واقعيا يقول الترمذي : ( ألا ترى أن الاعمى لا ينفعه علمه شيئا وقت الشهادة أذا احتاج الى ادائها لانه محجوب عن الرؤية فعلمه في الحقيقة علم لكنه لم يتاكد سلطانه بجرح القاضي شهادته بالعمى وان كان عادلا ) .
وذهب الصوفية مذهبا طريفا بقولهم : إن الفؤاد مشتق من الفائدة لانه يرى من الله فوائد حبه …. فيستفيد برؤيته , أما القلب فانه يتلذذ بعلمه ما كذب الفؤاد ما رأى: هذا الفؤاد – الذي هم المقام الثالث من مقمامات القلب – هو معدن نور المعرفة الشهودية وولايته للنفس الملهمة وان كل ما يقصده الصوفية بالمعرفة الشهودية وكذلك كل ما يخص النفس الملهمة من خصائص فان طريقه هو الفؤاد .
اللب
بعد أن ذكرنا ثلاثة مقامات للجهاز المتكامل للانسان والذي أطلق عليه المتصوفة اسم القلب وبعد ان اشرنا الى الفكرة الصوفية الرامية الى ان هذه المقامات اشكال متعاونات … وموافقات غير مخالفات وما ذلك الا لتعلق انوار الدين بها والدين واحد وأن الذي دعا الى هذا التقسيم هو مراتب اهل الدين وهي تختلف وتتنوع – بعد ذلك تتحدث عن المقام الرباع والاخير هو اللب .
ولتقريب مكانة اللب من التصور يضرب الصوفية – لنا – الامثلة الواقعية ( ومثل اللب في الفؤاد كمثل نور البصر في العين وكمثل نور السراج في الفتيلة من القنديل وكمثل الدهن المكنون في داخل لب اللوز ) .
ويكشف النص التالي ما يمنحه الصوفية لمقام القلب من سمة ورفعة سواء فيما يتعلق به من انوار التوحيد وانوار التفريد أو فيما يصح به من العبد , مثل حقيقة التجريد وضياء التمجيد … يقول الحكيم : ( وهذا اللب الذي هو العقل مغروس في أرض التوحيد , ترابها نور التفريد , سقي ماء من ماء اللطف من بحر التمجيد حتى امتلأت عروقه من أنوار اليقين , وتولىالله غرسه وباشر ذلك بقدرته من غير واسطة , فغرسه في جنة الرضا , ثم عصم هذه البحور بسور الصدق , وارساه في ازليته وابديته واوليته حتى لا تكاد تقترب منه بهيمة النفس بشهواتها او بجهلها او سباع مفاوز الضلالة , أو شيء من الدواب التي هي طبائع النفس مثل كبرها وحمقها وافاتها والرب جل وجلاله صاحب هذا البستان ووليه الذي هو أزين من جميعه الجنان … الخ هذا النص الطويل الذي صيغ بلغة شعرية مفعمة ) .
ولا بد ان نشير هنا الى ان عبارة ( هذا اللب الذي هو العقل ) لا تعني ان اللب – الذي تتحدث عنه هنا بمثابة المقام الرابع من مقامات القلب أو الجهاز المتكامل , هو نفسه العقل الذي يشتمل عليه الصدر اذي يمثل المقام الاول من مقامات القلب . يدرك الصوفية هذه الحقيقة ويحذرون من الخلط بقولهم : واعلم : انه عند عامة أهل الادب ومن لهم معرفة بشيء من اللغة ان اللب هو العقل , ولكن بينهما فرق كما بين نور الشمس وونور السراج ) .
وهذا الفرق لا ينفي أن هناك ظاهرا بين اللب والعقل هو ان كليهما نور … والانوار لا يستوي سلطانها بل يتفاضل احدها على الاخر , لان اللب عندهم هو موضع نور التوحيد ونور التفريد وهو النور الاتم والسلطان الاعظم ) والانوار عندهم اربعة , نور الاسلام ونور الايمان ونور المعرفة ونور التوحيد …. وهذا النور الاخير هو النور الاصل لجميع الانوار ومعدنه هو اللب .
وهذا مرتبط أوثق ارتباط بما يذهب اليه الصوفية من ان : ( التوحيد سر والمعرفة بر والايمان محافظة السر ومشاهدة البر والاسلام والشكر على البر وتسليم القلب للسر ) .
فالصوفية وان اطقو اللب على العقل او العكس فانهم يجاربون في ذلك عامة اهل اللغة والادب مع ادراكهم للفرق بينهما … ولهذا فانهم مع مجاراتهم لعامة اهل اللغة والادب لا يطلقون اللب على مطلق عقل لكنهم يطلقونه على نوع مخصوص من العقل هو العقل المسترشد وهو ليس كالعقول والمركبات في النفس التي هي داخله ولكنه نور مبسوط كالاشياء الاصيلة , وهو العقل الموفق , يقول الحارث المحاسبي : ( لكل شيء جوهر , وجوهر الانسان عقله , وحوهر العقل توفيق الله ) ولقد عبروا عنه ايضا بعقل الهداية يقول سهل التستري : ( ان الله تعالى امرهم ان يتقوه على مقدار طاقات العقول التي خصت بنور الهداية والقبول ) وهذا ما يقصدونه بقولهم : إن التوحيد سر لأنه بهاية الله سبحانه وتعالى .
وهذا اللب لا يكون الا لاهل الايمان الذين هم من خاصة عباد الرحمن الذين أقبلوا الى طاعة المولى , وأعرضوا عن النفس الدنيا فالبسهم لباس التقوى , وصرف عنهم انواع البلاء فسماهم الله ( أولي الالباب ) وخصهم بالخطاب وعاتبهم بانواع العتاب , ومدحهم في كثير من الكتاب فقال الله تعالى فاتقوا الله يا اولي الالباب وقال واتقون يا اولي الالباب وقال اولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده وقال ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر الا اولوا الالباب وقال وليعلموا انما هو اله واحد وليتذكر اولو الالباب وقال ليدبروا اياته وليتذكر اولو الالباب .
بقول الترمذي : ( فمدح الله اولي الالباب , وبين مراتبهم وسرائرهم مع ربهم وفضلهم في فقههم وفهمهم وحلمهم حتى أعجز امثالنا عن ادراك احوالهم لانه خصهم بنور اللب ما لم يفعل ذلك بغيرهم ) .
ويدرك الصوفية ان تقسيمهم للجهاز الانساني الذي يطلقون عليه اسم القلب الى مقامات انما هو تقسيم اشاري او رمزي ( واسماء ) مقامات السر – مثل الصدر والقلب … الخ هذه المقامات – هي عبارة باللسان , وانما حقيقتها اشارات الى الانوار )
نتبين من كل ما سبق وجهة نظر الصوفية حول اللب الانساني وما به من ملكات متصاعدة للادراك وارتباط الادراك بامور اخرى مثل الدوافع والغرائز ونتبين ايضا ربط الصوفية لهذه الكلمات في نسق منسجم ولم يكن لم ذلكدون وعي بالخيط الذي يجمع هذه المقامات او الاقسام او الملكات من ناحية واستهامهم روح القران الكريم والحديث الشريف من ناحية أخرى بل وحرصهم على فهم نصوصه فهما كليا كما رأينا .
ومن هذا الغرض نتبين أيضا ارتباط ملكات الانسان بالانوار المتاحة التي يمن بها على الانسان وهذه الانوار تنتقل بالادراك الانساني من مرحلة الى مرحلة حيث تنتهي به الى مقام اللب الذي يطلق عليه الصوفية عقل الهداية او عقل الايمان اوكمال العقل عن الله , وهذا يعنيان مقامات هذا الجهاز – كلها – مرتبطة بأوثق العرى بالايمان بالله سبحانه وتعالى , وانها جميعها تتوقف عن العمل باتجاه امور الاخرة وما يتعلق بها من غير هذا الايمان .
_______
المصدر : من كتاب الصوفية والعقل , تأليف : الدكتور محمد عبد الله الشرقاوي , ص129-ص153.