د. أسعد حياوي / جامعة بغداد
ان الباحث في مضان هذه العلوم الثلاثة ( التصوف ، العرفان ، الفلسفة ) يواجه الكثير من الملابسات التاريخية والمعرفية والشرعية والتي تجعل من مهمة التمييز بينها مهمة عسيرة لا يقدر على القيام بها إلا من استوعب المسارات المختلفة لهذه العلوم في أبعادها وانعكاساتها التاريخية والاجتماعية والدينية.
ففي الوقت الذي يلمس فيه الباحث التداخل الواضح والكبير بين الفلسفة والعرفان لكونهما يعتمدان على العقل كوسيلة للمعرفة يجد ان هناك ومن جهة أخرى تداخلا مماثلا بين العرفان والتصوف للتشابه بينهما في الأخذ بالذوقيات والوجدانيات والاشتراك في مباحث الأخلاق والآداب والرياضات ..
لهذا لا بد لنا من تحليل مفردات هذه العلوم بشكل منفصل ليرتفع الغموض حولها وتتبين الفوارق بينها وبالتالي يزال الالتباس الناتج عن تشابه الألفاظ والمباحث التي تتناولها هذه العلوم .
الفلسفة : هي نظام معرفي يريد التعرف على ماهية هذا الوجود وكل ما يتصل به سواء في الجانب الإلهي او الجانب المادي ( الفيزيقي والميتافيزيقي ) ، وأداة الفيلسوف في معرفة الحقائق هو العقل – المجرد عن العواطف او العقائد المسبقة – في الاستدلال والبرهان .
العرفان : هو علم مأخوذ من المعرفة ، وهي الوصول إلى معرفة الرب تعالى والفناء في بساط القرب والبقاء فيه ، ويبحث في حقائق هذا الوجود ، ومعارف هذا العلم يتم تلقيها من خلال عالم المشاهدة والتجلي على عقل المتلقي والذي يستطيع تصورها وتدبرها ومن ثم تنظيرها .
والفرق بين الفلسفة والعرفان أن الأخير يعتمد إضافة للعقل على الأحكام المسبقة المستفادة من الوحي عن طريق النقل ، أي ان لعقل العرفاء مسلمات دينية ، ونتائج تأملاتهم او كشوفاتهم تدور في فلك تلك المسلمات ولا تتجاوز الأدلجة المذهبية .
وفرق آخر ان الفلاسفة لا يعتمدون في فكرهم النظري على مجاهدات النفس ومحالات تطهيرها من الشوائب بينما يعتمد علم العرفان على هذا النمط من الممارسات المستنبطة من الأدلة الشرعية لكي يتوصلوا إلى ما يسمى بمرتبة الاستفاضة من الحق تعالى للعلوم والمعارف التي تبنى عليها عقائدهم في علم الكلام والذي يصح ان نصفه بالعرفاني .
التصوف : هو علم اعتنى بالجانب الروحي في الإسلام باعتباره البعد الأساس الذي ما جاءت ونزلت الأديان الإلهية إلا من أجل تنميته وتركيزه وتذكير الإنسان به ، وابتداءً يحدد التصوف موضوعه بانه المعرفة بالله سبحانه وتعالى معرفة شهودية لا تتم للإنسان إلا من خلال مجاهدة النفس وتزكيتها وتطهيرها وتأديبها بآداب الشريعة ورسومها التي يلزم مراعاتها من قبل السالك إلى الله .
والفارق الأساس بين التصوف من جهة والفلسفة والعرفان من جهة أخرى أن التصوف يعتمد على القلب كوسيلة لتلقي المعرفة الشهودية ولا يقف عند حدود العقل ، وهذا الاعتماد المعرفي على التلقي القلبي لا يعني – كما يتصور الكثيرون – أنه يضاد العقل والنقل أو يخالفهما بل يعني أنه رتبة من رتب استجلاء الحقيقة كما أن العقل والنقل كذلك .
بعبارة أخرى : ان الفلاسفة اتخذوا من الاستدلال والبرهان العقليين وسيلة لهم في المعرفة ، فجاء العرفاء وأضافوا لتلك الوسيلة أسلوب الذوق المستند إلى الإيمان بالوحي والخلاف بين الفلاسفة والعرفاء حصل في مسألة التقديم والتأخير فقط ، فقد رأى الفلاسفة انه يجب تقديم الطريق البرهاني العقلي على الذوقي العقلي أي البرهان على العرفان بينما رأى العرفاء العكس فقالوا بتقديم العرفان ( الذوق ) على البرهان .
واذا كان أهل العرفان قد خطو خطوة نحو المعرفة الشهودية تمثلت في إقرارهم بالذوق والعلم الشهودي فأن الصوفية خطو الخطوة التالية والتي ذهبت إلى التعامل مع قضايا الوحي والذوق بطريقة مباشرة دونما حاجة إلى برهان عقلي او عرفاني ( عقلي ذوقي ) لأنهم اتخذوا من القلب مركزا للمعرفة الكشفية ومهبطا للتجليات الربوبية والمعرفة اللدنية ، تاركين للعقل الدور النظري المجرد ( الفلسفة وعلم الكلام ) .
يرى الصوفية ان القلب المركز الذي اذا اطمئن بذكر الله تعالى صار كالمرآة العاكسة لأنوار الحق تعالى ، وهذا الانعكاس للنور يضرب في جنبات النفس والعقل والروح وباقي ملكات الإنسان الباطنية ، فإذا تنورت النفس صفت من الشهوات المحرمة بل ومن الشبهات ايضا وصار لها مذاقات خاصة يعبر عنها بالأحوال ، واذا تنورت الروح ارتفعت الحجب بينها وبين ربها وصارت تستعذب مقامات القرب والوصال ، ومثل هذا اذا تنور العقل صار له مذاقات عرفانية في تفكره وتأمله ، وهذا يعني ان ( العرفان ) عند الصوفية ليس الا جزءا من ثمار التجربة الصوفية ، فمن وصل إلى العرفان وتوقف عند حدوده فقد اخذ بجانب ذوقي من جوانب علم التصوف الذي ينطوي على الجوانب التنويرية الأخرى.
وبالرغم من كل التشابهات والتقابلات المظهرية بين هذه العلوم الثلاثة الا إننا نرى انها متباينة عن بعضها البعض في كل شيء ، فلا يمكن القول بأن هذه العلوم مترابطة او متدرجة بعضها من بعض او هي أوجه لحقيقة واحدة ، وذلك لأختلاف نقاط الانطلاق لكل منها فهي سبل مختلفة للوصول إلى غايات وأهداف مختلفة وربما لا يجمعها الا سعيها كلها للوصول إلى المعرفة الحقة ليس الا .