عن كثير بن قيس قال : كنت جالسا عند أبي الدرداء في مسجد دمشق فأتاه رجل فقال : يا أبا الدرداء أتيتك من مدينة رسول الله لحديث بلغني أنك تحدث به عن النبي قال : فما جاء بك تجارة ؟
قال : لا .
قال : ولا جاء بك غيره ؟
قال : لا .
قال : فإني سمعت رسول الله ﷺ يقول : ( من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له طريقا إلى الجنة ، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم ، وإن طالب العلم يستغفر له من في السماء والأرض حتى الحيتان في الماء ، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب ، إن العلماء هم ورثة الأنبياء إن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما إنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر )(1).
تمعن في مفردات ومضمون هذا الحديث الشريف : السلوك – الطريق إلى الله – وراثة علوم النبوة – الصلة بين العبد والعوالم الروحية كالملائكة والسماوات والأرض .. وهي امور وحقائق إسلامية لها قواعدها واصولها وتفرعاتها عند اهل الطريقة ، فالصلة بين العبد والملائكة مثلا نجدها حاضرة في قوله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ )(2) ، يقول الشيخ محمد الكسنـزان في هذه معنى هذه الآيات الكريمة : « ان علامة الاستقامة على الطريقة هو ان تتنـزل الملائكة على المريد في الحياة الدنيا وتؤمنه اذا خاف الناس ، وتشرح نفسه اذا ضاقت الصدور ، وتبشره بموالاتها له في الدنيا والآخرة » فهذا النوع من الصلة والربط بين العالم الإنساني والعوالم الروحية صعودا إلى الحق تعالى ، والذي كان موجودا على عهد الصحابة الكرام ، لا زال له حضوره الواقعي والمستمر في منهج الطريقة وبين مريديها .
ان الجانب الروحي في الطريقة والذي نتحدث عنه هنا كان السبب الرئيس وراء تغير حياة الصحابة وانقلابهم من الكفر إلى الإيمان ومن الضلال إلى الهدى ، بل إلى أعلى مراتب الإيمان والتقى .. كيف لا وهم رأوا بأعينهم ولمسوا بأيديهم واستشعروا بأنفسهم ما لا عين رأت ولا إذن سمعت ولا خطر على قلب بشر !!! لنطالع شيء من هذه المواقف والأمور الروحية التي تعامل بها رسول الله ﷺ مع صحابته الكرام فكانت البلسم الشافي لعللهم ، والمعين الصافي لإيمانهم ويقينهم ..روي عن ابن بريده عن ابيه قال : جاء أعرابي إلى النبي ﷺ فقال : يا رسول الله .. قد أسلمت فارني شيئا ازدد يقينا .
قال رسول الله : فما الذي تريده ؟
قال : ادع تلك الشجرة فلتأتك .
قال رسول الله : اذهب فادعها .
فأتاها الإعرابي فقال : أجيبي رسول الله .
فمالت على جانب من جوانبها ، فقطعت عروقها ، ثم مالت على الجنب الآخر ، فقطعت
عروقها ، حتى أتت النبي فقالت : السلام عليك يا رسول الله .
فقال الإعرابي : حسبي .. حسبي ..
فقال لها النبي ﷺ : ارجعي . فرجعت فجلست على عروقها (3).
فلنتتبع الجوانب الروحية في هذه الواقعة العظيمة .. بداية الرجل اسلم ولكنه احتاج إلى برهان ليزداد يقينا ، وهذه مسألة غاية في الأهمية عند اهل الطريقة ، فليس كافيا عندهم ان يكون المرء مسلما بالوراثة ، بل يشترط ان يتحقق يقينه بهذا الإسلام من خلال ما ينبغي ان يلمسه حقيقة من اثر القوة الروحية للإسلام ، ولأن كانت المعجزات المحمدية كفيلة لتحقق المسلم باليقين أو ( الإيمان التحقيقي ) كما يصفه الشيخ محمد الكسنـزان ، فأن كرامات مشايخ الطريقة هي الامتداد الحي لتلك المعجزات ، وهي برهان حي دائم متواصل عليها يمكن تحقيقها في كل آن ومكان شريطة ان تأتي على يد شيخ كامل عارف بالله ، ومن ناحية أخرى فان لهذه الكرامات قدرة فائقة على إعانة المريدين للوصول إلى مراتب اليقين التي يبتغون . ثم ان الإعرابي طلب من حضرة الرسول الأعظم ﷺ ان يحرك له الشجرة لكنه أمره بأن يفعل هو ذلك بنفسه ، أي انه أعطاه إجازة بفعل تلك الخارقة ، فذهب الإعرابي وكلمها ، فاستجابت له وتحركت .. ولو تأملنا ذلك معا لوجدنا ان هذا الإعرابي فيما لو كلم هذه الشجرة من دون إذن من المصطفى ﷺ مئاة المرات بل آلالاف المراتب هل كانت ستستجيب له ؟
بالتأكيد لا ، فما الذي حصل حين قال له رسول الله : اذهب فادعها ؟
لقد اعطاه الأذن والقوة الروحية على التأثير بتلك الشجرة ، لقد أعطي ذلك الأعرابي وقتها إذنا بخرق قوانين الطبيعة ، لتحصل معه المعجزة .. وقد فعل رسول الله ذلك ليثبت للرجل ان ما يحصل حقيقة واقعة وليس سحر او خداع او ما شابه ، فجعله يفعل ذلك بنفسه .. وهذا بالتحديد ما يفعله مشايخ الطريقة الكسنـزانية حين يأذنون لمريديهم بالقيام ببعض الخوارق التي تجسدها كرامات ضرب البدن بالآلات الجارحة دون ان يتعرض المريد لأي أذى يذكر .. ان شيوخ الكسنـزان انما يبرهنون بهذا على وجود القوة الروحية التي تقف وراء نجاح هذه الفعاليات وحضورها الحقيقي ، وهذا ما يوصل المريد أومن يحضر في المجلس إلى اليقين الذي يسعى الإعرابي إلى بلوغه حين طلب تحريك الشجرة ، وهو اليقين الذي اراد الوصول اليه نبي الله إبراهيم من قبل حين قال لربه : (ارني كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ )(4).
ثم وفي النهاية تحقق المراد ووصل الأعرابي إلى اليقين الذي كان يبتغي حين قال : حسبي .. حسبي ..ان هذه القوة وهذا التأثير جزء لا يتجزأ من الطريقة المحمدية لهداية الناس أجمعين إلى يوم الدين ، ولأن ختمت المعجزات بختم الرسالات فأن الكرامات باب مفتوح لتثبيت هذا الجانب إلى يوم الدين .
ولنقرأ موقفا آخر يكشف لنا الجانب الروحي الذي كان حاضرا في تعامل حضرة الرسول الأعظم ﷺ مع الناس ، سواء اكانوا مؤمنين به وبدعوته ام لم يكونوا كذلك : روى محمد بن إسحاق ، ان عمير بن وهب جلس مع صفوان بن امية بعد مصاب اهل بدر بيسير وهو في الحِجر(5) ، وكان عمير من شياطين قريش ، وكان يؤذي رسول الله ﷺ وأصحابه بمكة ، وكان ابنه وهب بن عمير في اسارى بدر ، فذكر أصحاب القليب(6) .
ومصابهم ، فقال صفوان : والله ما في العيش بعده من خير.
فقال له عمير : صدقت والله .. أما والله لولا دين عليّ ليس له عندي قضاء ، وعيال أخشى عليهم الضيعة بعدي ، لركبت إلى محمد حتى اقتله ، فان لي فيهم علّة ، ابني أسير في أيديهم .
فقال صفوان : فعلي دينك انا اقضيه عنك ، وعيالك مع عيالي أسوتهم كأسوتهم .
قال عمير : فاكتم علي شأني وشأنك .
قال : أفعل .
ثم ان عميرا امر بسيفه فشحذ وسُمَّ ، ثم انطلق حتى قَدِمَ المدينة ، فرآه عمر بن الخطاب قد أناخ بعيره على باب المسجد متوشحا السيف .
فقال : هذا عدو الله عمير ، قد جاء ما جاء إلا لشرٍّ ، وهو حرّش بيننا وجزّرنا (7) للقوم يوم بدر . ثم دخل عمر بن الخطاب على رسول الله ﷺ فقال :
يا رسول الله ، هذا عدو الله عمير قد جاء متوشحا سيفه .
قال رسول الله : فادخله عليّ .
فاقبل عمر حتى اخذ بحمالة سيفه في عنقه ، فلببه(8) بها ، وقال لرجال من الأنصار : ادخلوا على رسول الله فاجلسوا عنده ، واحذروا هذا الخبيث عليه ، فانه غير مأمون .
ثم دخل به عمر على رسول الله ، فلما رآه وعمر آخذٌ بحمالة سيفه في عنقه قال : أرسله يا عمر .. أنت يا عمير .
فدنا ثم قال : أنعم صباحا ، وكانت تحية أهل الجاهلية بينهم .
فقال رسول الله : قد أكرمنا الله بتحية خير من تحيتك يا عمير .. السلام تحية اهل الجنة .. ما جاء بك يا عمير ؟ .
قال : جئت في فداء أسير لي في أيديكم ، فأحسنوا اليه .
قال رسول الله ﷺ : فما بال السيف في عنقك ؟ .
قال : قبحها الله من سيوف ، وهل أغنت شيئا ؟
قال رسول الله ﷺ : (أصدقني في الذي جئت فيه ) .
قال : ما جئت الا لذلك .
فقال رسول الله ﷺ : بل قعدت أنت وصفوان في الحجر ، فذكرتما أصحاب القليب من قريش ، ثم قلت : لولا دين علي ، ولي عيال ، لخرجت حتى اقتل محمدا ، فتَحمّل لك صفوان بن امية بدينك وعيالك على ان تقتلني ، والله حائل بيني وبينك .
فقال عمير : اشهد انك رسول الله ، قد كنا نكذبك ، وهذا امر لم يحضره الا انا وصفوان ، فوالله اني لأعلم ما اتاك به الا الله ، فالحمد لله الذي هداني للإسلام ، وساقني هذا المساق . ثم تشهد شهادة الحق .
فقال رسول الله : فقهوا اخاكم في الدين ، وعلموه القرآن ، وأطلقوا له أسيره . ففعلوا .
ثم قال : يا رسول الله ، اني كنت جاهدا في إطفاء نور الله ، شديد الأذى لمن كان على دين الله ، واني احب ان تأذن لي فأقدم إلى مكة ، فادعوهم إلى الله ، والى دين الإسلام ، لعل الله ان يهديهم ، وإلا آذيتهم في دينهم كما كنت أؤذي اصحابك . فأذن له فلحق بمكة ..
وكان صفوان حين خرج عمير يقول لقريش ، أبشروا بوقعة تأتيكم الآن في ايام تنسيكم وقعة بدر . وكان صفوان يسأل عن الركبان ، حتى قَدِمَ راكب فأخبره بإسلامه ، فحلف ان لا يكلمه أبدا ، ولا ينفعه بنفع ابدا . فلما قدم مكة أقام بها يدعو إلى الإسلام ، ويؤذي من خالفه ، فأسلم على يديه ناس (9).
في هذه القصة الإسلامية الرائعة يمكن ان نلمس أسلوبين في المعرفة والمعاملة :
أسلوب سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي كان ينظر بعين العقل والتفكير المنطقي ، فحمله خوفه وغيرته على رسول الله ﷺ لقول ما قال وفعل ما فعل ، وأسلوب حضرة الرسول الأعظم ﷺ الذي كان ينظر بنور الله ، بعين الوحي والمعرفة الربانية ، حيث كشفت له المؤامرة التي دبرت له بليل ، فكان يمكن ان يأمر بأن يمسك عمير ويودع السجن او لا اقل من ان يمنعه من الدخول عليه .. ولكنه لم يفعل ، وأراد من خلال استقباله ومكاشفته بحقيقة أمره ، ان تؤثر هذه المكاشفة في قلبه وعقله ، فتكون له برهانا قاطعا على صدق النبوة وحقيقة الارتباط بين الرسول والحق تعالى وقد تحقق بالفعل له ما اراد ، فكان ما كان من إسلام عمير بل وحسن إسلامه فتحولت تلك الطاقة الطاغية التي كانت تنطوي عليها جنبات نفس عمير إلى قوة روحية لنصرة الإسلام ورسوله .
هذا هو قصدنا من الجانب الروحي في الطريقة ، اذ ان طريقة سيدنا محمد في التعامل مع الناس لم تكن مجرد دعوة لسانية فارغة المحتوى ، بل كانت طريقة تشع بالأنوار والأسرار والقوة الروحية التي تأسر القلوب حينا فتجعلها تحبه وتعشقه ، وترعبها حينا آخر فتجعلها ترتجف وتنهار ، ومن ذلك ما روي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال : ان رسول الله ﷺ لما رجع من غزاة بني محارب ، جاءه رجل يقال له غورث بن الحارث ، حتى قام على رأس رسول الله وقال : من يمنعك مني ؟
فصاح به رسول الله وكان اعزلا : الله .
فارتعب غورث ، وارتعدت فرائصه ، فسقط السيف من يده ، فأخذه رسول الله ﷺ وقال : (من يمنعك مني ؟ ).
قال : كن خير آخذ .
قال رسول الله : أتشهد ان لا اله الا الله .
قال : لا .. ولكن أعاهدك ان لا أقاتلك ولا أكون مع القوم يقاتلونك . فخلى سبيله (10).
فهذه الحادثة تكشف جانبا ووجها آخر من جوانب القوة الروحية في طريقة الرسول الأعظم ﷺ للتعامل من الخلق ، انه وجه القوة بالله ، فصرخة رسول الله بهذا المتسلل الغدار تخللت قوتها الروحية إلى باطنه وملأته رعبا حتى وقع السيف من
يده ، فماذا كان موقف سيدنا محمد ممن أراد ان يغدر به ؟
كان همه ان يهديه إلى الإسلام ، فلما أبى واستعطفه ، حضرت رحمته ، فخلى سبيله .
ان الحديث عن الطريقة التي اتبعها رسول الله ﷺ في نشر الإسلام وتربية الصحابة الكرام بمعزل عن الإشارة إلى هذه الجوانب الروحية والتي كان لها بالغ الأثر في رسوخ الإيمان ومراب اليقين فيهم ، ليكشف عن خلل كبير في فهم جوهر الرسالة الإسلامية وروحانيتها العظيمة .
ومن الخطأ ايضا ان يتصور البعض ان هذه القوة الروحية كانت حالة خاصة لغرض إثبات الرسالة فقط ، ودورها محدد في نشر الرسالة فقط كغيرها من معجزات الأنبياء .. فالوقائع الإسلامية الكثير تثبت ان هذه الآثار الروحية كانت ملازمة لرسول الله في تعاملاته اليومية ، في حله وترحاله ، حتى الفها جميع الصحابة رضوان الله عليهم ، ولمس بركاتها جميعهم ، فمنهم من تزده يقينا إلى يقين ، ومنهم من تفرحه وتشرح صدره ، ومنهم تزكي نفسه وتطهره وترقيه ، ومنهم من تعالجه وتشفيه … الخ .
فلو قلنا ان المعجزات المحمدية لغرض الهداية إلى الإسلام فقط ، فماذا يقال عن ( عين ) ابي قتادة التي اصيبت يوم أُحد ، واتى النبي وهي في يده ، فقال له رسول الله : ما هذا يا ابا قتادة ؟ .
قال : هذا ما ترى يا رسول الله .
قال رسول اللهﷺ : ( ان شئت صبرت ولك الجنة ، وان شئت رددتها ودعوت لك فلم تفقد منها شيئا ) .
قال : يا رسول الله .. ان الجنة لجزاء جزيل ، وعطاء جليل ، ولكني رجل مبتلى بحب النساء ، ان يقلن اعور فلا يردنني ، ولكن تردها لي وتسأل الله لي الجنة .
فقال رسول الله ﷺ : أفعل يا ابا قتادة .
ثم أخذها رسول الله ﷺ بيده فأعادها إلى موضعها ، فكانت أحسن عينيه إلى ان مات ، و دعا الله له بالجنة (11).
ويذكر ان ابنه لما دخل على عمر بن عبد العزيز وسأله : من أنت يا فتى ؟ قال :
أنا ابن الذي سالت على الخد عينه
فَرُدَّت بكفِّ المصطفى أحسن الردِّ
فعادت كما كانت لأحسن حالها
فياحسن ما عين ويا طيب ما يد
نقول : لو كانت المعجزات لغرض الهداية إلى الإسلام فقط ، او لزيادة اليقين فقط ، فما كان فائدة ابي قتادة منها ؟!!
لقد كان مسلما ، وموقنا بدليل انه لم يعجب او تنتابه الفرحة الشديدة حين اخبره رسول الله ﷺ ان يصبر لتكون له الجنة ، لأنه موقن اتم اليقين بالله ورسوله ، فكان ما يشغله ان ينال خير الدنيا والآخرة ، فطلب من رسول الله ﷺ ان يردها له لأنه يحب النساء ولا يريد ان يلتفتن عنه ان اصبح اعورا ، ويريد معها الجنة ايضا ، وهو يطلبهما ممن يوقن بكرمه وقدرته ، وكان له ما اراد .
وهذا الواقعة تؤكد ما نذهب اليه من ان الطريقة التي جاء بها رسول الله ﷺ ليست مختصة بالجانب العبادي فقط ، أي بمعزل عن الحياة الاجتماعية ، بل ان آثار الطريقة وبركاتها الروحية نزلت لإصلاح الدارين ، ومساعدة الناس في شؤونهم الدنيوية والأخروية ، وعلى قدر إيمانهم واعتقادهم ، ولو لم يكن الأمر كذلك لما ردّ رسول الله عين ابي قتادة من اجل حاجة دنيوية في نفسه .
ان طريقة حضرة الرسول الأعظم ﷺ في التعامل مع الصحابة الكرام لم تكن لتقف عند حدود بعينها ، ولا عند شخوص بذواتهم ، بل كانت تشمل الغني والفقير ، القوي والضعيف ، صاحب الجاه والعبد الرقيق ، والتأثيرات الروحية لتلك الطريقة عامة شاملة للجميع ، تأمل معنا بركات هذه القوة ..كان عبد الله بن مسعود يرعى غنم عقبة بن معيط ، فأخذه النبي وجعله من أصحابه ومن تلاميذه ، وجعل منه مرشدا كبيرا ، بحيث يمكن القول انه صحاب مدرسة الكوفة .. هذه المدرسة التي خرجت علماء أمثال علقمة وحماد والثوري وابي حنيفة ، حيث كان كل منهم قمة في ساحة علمه ، وقد استقوا معظم مصادر علومهم من ابن مسعود الذي كان في الجاهلية راعي ابل وغنم .. يذكر ان ابا حنيفة من العلماء الذين اتخذوه علماء الغرب موضوعا للدراسة منذ سنوات عديدة وكتبوا عنه مجلدات عديدة ، وهو يعد تلميذ تلميذ تلميذ ابن مسعود راعي الغنم وتلميذ رسول الله ﷺ، ونحن لا نريد التهوين من شأن ابي حنيفة – حاشا لله – ولكن نريد بيان عظمة أستاذهم ، اذ بفضل تربية حضرة الرسول الأعظم ﷺ الروحية لابن مسعود وتنشئته تنشئة ربانية ظهر هؤلاء العظام بعد ان لم يكونوا شيئا يذكر ، فقد تم اخراج الحي من الميت ، وجعل الفحم ماسا .
ان السر في نجاح التربية المحمدية تكمن في خصائص عديدة امتازت بها تلك التربية ومنها ان حضرة الرسول الأعظم ﷺ حين ظهر برسالته في ذلك المجتمع الجاهلي ، كان لمعاصريه استعداداتهم وقابلياتهم القلبية والروحية والعقلية الخاصة بهم ، فلم يحاول ان يطمس هذه القابليات او ان يضعفها ، بل استغلها وحركها وقواها وجعل منها قوة عظيمة وطاقة كبيرة ، لتخدم نفسها ومجتمعها ودينها . وكانت وسيلته في التربية والتعليم والتزكية والتطهير ، هي ذاته الشريفة وشخصه الكريم فقط .. يقول حضرة الشيخ محمد الكسنـزان :« ان رسول الله لم يعلم الصحابة بالقراءة والكتابة بل بالصحبة وبركاتها ، فكان يأمرهم بان ينظروا إليه ، ليقتدوا بأقواله وأفعاله صلوا كما رأيتموني اصلي (12) ، فكان بذلك كاللوح او الكتاب الذي يقرؤون فيه تعاليم ربهم ، وكان لهم بمثابة القلم الذي يكتب في قلوبهم الإيمان ويداوي عللهم ويزكي نفوسهم » .
ان حالة الكتابة في قلوب الصحابة التي يشير إليها الشيخ محمد الكسنـزان يمكن ان تتضح من خلال حديث حنظلة مع أبي بكر حين لقيه :نافق حنظلة .
قال :سبحان الله ، ما تقول ؟
قل حنظلة : نكون عند رسول الله يذكرنا بالجنة والنار كأنا رأي عين ، فإذا خرجنا من عند رسول الله عافسنا الأموال و الأولاد والضيعات نسينا كثيرا .
قال أبو بكر : فوالله إنا لنلقى مثل هذا . فانطلقا حتى دخلا على رسول الله ، فقال حنظلة : نافق حنظلة يا رسول الله .
فقال رسول الله : وما ذاك ؟ .
قلت : يا رسول الله نكون عندك تذكرنا بالنار و بالجنة كأنا رأي عين ، فإذا خرجنا عندك عافسنا الأزواج و الضيعات ، نسينا كثيرا .
فقال رسول الله : والذي نفسي بيده لو تدومون على ما تكونون عليه عندي و في الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم ، و لكن يا حنظلة ساعة ساعة -ثلاث مرات- (13).
ان حضور الجنة والنار عند الصحابة الكرام عند تقربهم من رسول الله ﷺ حتى لكأنهم يرونها رأي العين ، لهي المدرسة الروحية التي كان يربي رسول الله ﷺ بها اصحابه ، وتهوينه الأمر على حنظله لهو من الطب الروحي النبوي الذي يشفي العليل ، ويداوي المريض الذي قد ينقلب عنده الحال من الخوف إلى اليأس .
هذه هي مدرسة سيدنا محمد الروحية ، وهذه هي طريقته في التربية والتعليم ، انها مدرسة تعتمد على الشخص المرشد بذاته ، فهو يعلم بأقواله وأفعاله ، ويربي بأحواله وهكذا هم ورثة الحضرة المحمدية المطهرة ، ينهضون بالمريدين ويسيرون به على الطريقة التي كان رسول الله سائرا بها بين أصحابه
الخاتمة
حاولنا من خلال هذه الدراسة الموجزة الإشارة إلى بعض الأمور والنقاط الأساسية التي غفل عنها معظم من كتب عن ( الطريقة ) من الكتاب والباحثين وحتى الصوفية أنفسهم ..
فالطريقة كما دلت عليه النصوص كانت المنهج العملي الذي اتبعه رسول الله حتى قبل نزول وحي الرسالة عليه ، حين اختط لنفسه طريق الخلوة والعزلة عن الناس في غار حراء يتعبد ويتحنث الليالي ذوات العدد ، وبعد بعثته ، كانت سيرته العطرة بما تنطوي عليه من أقوال وأفعال وأحوال ( السنة النبوية المطهرة ) هي المعنى الحقيقي لمفهوم الطريقة ..
الطريقة هي التطبيق العملي للشريعة الإسلامية ، والتعمق في ذلك التطبيق من حيث التركيز على الزيادة في العبادات والفضائل والابتعاد عن ما يبعد عن الله تعالى .
الطريقة لم تكن تعني في يوم من الأيام الابتعاد عن حياة الناس واعتزال الجماعة والانزواء بعيدا ، او العيش في حدود التبشير بالدعوة الإسلامية والالتزام بالسلطة الروحية المجردة ..
الطريقة في حقيقتها : عقيدة ونظام .. عقيدة روحية دينية مقدسة ، ونظام لتدبير المصالح العامة وعلاج شؤون الجماعة وتقويم المعاملات وتقرير الأمن والسلام للفرد والمجتمع .
الطريقة مدرسة عملية لتطبيق المنهج الإسلامي الشامل – عقيدةً وشريعةً وسلوكاً وممارسةً وتجسيداً حياً ومعبراً لما كان عليه الصحابة الكرام رضوان الله عليهم – فهي خير معين لتصحيح الفكر والسلوك الديني والدنيوي .. لكونها وسيلة تعيد بناء الإنسان – قلباً وقالباً – بناءا مثاليا متكاملا ، رابطة اياه في كل موقع من مواقع إنسانيته – فكرا ونية وقولا وعملا – بمولاه جل وعلا .
والطريقة الصحيحة في العصر الحديث هي التي يسير شيخها الحاضر على أثر رسول الله ﷺ يمارس سلطاته الدنيوية كمرشد اجتماعي يقضي بالحق ويحكم بين الناس بالعدل ، موجها الحياة وشؤون المجتمع نحو الأفضل ، إلى جانب سلطته الروحية ، ومرتبته في ولاية الإرشاد والدعوة إلى الله ، فقد كان له كل ما للحاكم القائد من سلطة دنيوية ، وكان له سلطته الروحية المتمثلة بنبوته ورسالته ، والإقتداء به في هذه الأمور كلها هو بعينه المقصود من مصطلح الطريقة . فهذا هو معنى الطريقة وجوهرها ، وهذا هو تأريخها في الإسلام ، وان لم يشتهر لفظ الطريقة في العصر الأول ، فحالها في ذاك كحال غيره من المصطلحات الإسلامية التي لم تشتهر الا فيما بعد عصر الصحابة والتابعين رضوان الله تعالى عليهم اجمعين .
———————————-
الهوامش :
[1] – سنن ابن ماجه – فضل العلماء والحث على طلب العلم – تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي – دار الفكر – بيروت – ج1 ص 81 .
[2] – فصلت : 30 -31 .
[3] – أخرجه البزاز في المسند – 2409 ، وابو نعيم في دلائل النبوة – ص 138 .
[4] – البقرة : 260 .
[5] – الحجر : حجر الكعبة ، وهو ما تركت قريش في بنائها من اساس إبراهيم u ، وحجرت على الموضع ليعلم انه من الكعبة ، سمي حجرا لذلك – معجم البلدان – ياقوت الحموي – دار الفكر – بيروت – ج2 ص 221 .
[6] – القليب : بئر ببدر .
[7] – جزر : حرض .
[8] – اللبة : موضع القلادة من العنق .
[9] – أخرجه الطبراني في المعجم الكبير – ج17 ص 59 ، وابن كثير في البداية والنهاية – ج3 ص 314 .
[10] – صحيح ابن حبان – مؤسسة الرسالة – بيروت – ط2 – 1993- ج7 ص 138
[11] – أخرجه احمد في المسند – ج1 ص 347 ، والسيوطي في الدر المنثور – ج4 ص 129
[12] – حدثنا محمد بن المثنى قال حدثنا عبد الوهاب قال حدثنا أيوب عن أبي قلابة قال حدثنا مالك : أتينا إلى النبي ﷺ ونحن شببة متقاربون فأقمنا عنده عشرين يوما وليلة وكان رسول الله ﷺ رحيما رفيقا فلما ظن أنا قد اشتهينا أهلنا أو قد اشتقنا سألنا عمن تركنا بعدنا فأخبرناه قال ارجعوا إلى أهليكم فأقيموا فيهم وعلموهم ومروهم وذكر أشياء أحفظها أو لا أحفظها وصلوا كما رأيتموني أصلي فإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم وليؤمكم أكبركم – صحيح البخاري – ج5 ص 2331 .
[13] – رواه مسلم في صحيحه – ج4 ص 2106