الطريقة : الأخلاق المحمدية الشريفة
كانت أفعال الرسولﷺ مقالا على تمام الأدب مع الله في كل وقت وحال . فقد وصف الله عز و جل رسوله الكريم ﷺ بقوله :وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ(1) فمنذ ولادته المباركة مع شروق شمس يوم الجمعة 12/النور /1 ميلادي محمدي(2)(2/5/750 ميلادي) كان الرسول ﷺ تحت أعين الله عز و جل ورعايته وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (3) ، فقال ﷺ يصف عناية ربه عز و جل به أدبني ربي فأحسن تأديبيوهذا التأديب الرباني هو من جملة ما نزلت فيه الآية الكريمة : وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً(4) والأدب المحمدي الذي جعله الله عز و جل في نبيه الكريم ﷺ هو اتم وأكمل ما يمكن أن يصله أدب لمخلوق مع الخالق عز و جل فجاء في الحديث النبوي الشريف ﷺ :ابعثت لأتمم مكـارم الأخـلاق فالطريقة إذا هي الالتزام بالخلق النبوي الحميد الذي هو الأدب الجم مع الله عز و جل .
يقول الشيخ عبد القادر الكيلاني قدس الله سره في أهمية الأدب في نهج الطريقة : (الأدب في حق العارف فريضة كالتوبة في حق العاصي . كيف لا يكون متأدبا وهو اقرب الخلق إلى الخالق عز و جل ؟ من عاشر الملوك بالجهل كان جهله مقربا له إلى قتله من ليس له أدب ممقوت من الخلق والخالق ، كل وقت ليس فيه أدب فهو مقت ، لا بد من حسن الأدب مع الله عز و جل)(5) ووردت عن مشايخ الطريقة الكثير من الأحاديث الإرشادية التي تبين للناس بان السلوك على نهج الطريقة يعني التشبه بخلق الرسول ﷺ . فقال الشيخ جنيد البغدادي قدس الله سره : (التصوف استعمال كل خلق سني وترك كل خلق دني ) (6) وجاء عن الجريري قوله : (التصوف مراقبة الاحوال ولزوم الادب)(7) وقال القاضي زكريا الانصاري : (التصوف هو علم تعرف به احوال التزكية النفوس وتصفية الاخلاق وتعمير الظاهر والباطن لنيل السعادة الأبدية )(8) وقال سهل التستري : (التصوف ليس رسما ولا علما ولكنه خلق . لانه لولا كان رسما لحصل بالمجاهدة ولو كان علما لحصل بالتعلم ، ولكنه تخلق بأخلاق الله ، ولن تستطيع أن تقبل على الأخـلاق الإلهيـة بعلـم ولا برسـم ) (9) .
اما أبو حفص فقال : (التصوف كله آداب ، لكل وقت أدب ، ولكل حال أدب ، ولكل مقاما أدب ، فمن لزم آداب الأوقات بلغ مبالغ الرجال ، ومن ضيع الآداب فهو بعيد من حيث يظن القرب ومردوده من حيث يرجو القبول )(10) وفي وصف تمسك نهج الطريقة بالأدب الجم فقد قيل : (الصوفي من إذا استقبله حالان او خلقان كلاهما حسن كان مع الأحسن )(11) ولما كان نهج الطريقة يتمثل في التمثل بآداب الرسول ﷺ فان أكثر الناس التزاما بالطريقة أكثرهم تحليا بالأخلاق النبوية الشريفة .
قال الرسول ﷺ :أكمل المؤمنين أيمانا أحسنهم أخلاقا . وقال الكناني : (التصوف خُلُق فمن زاد عليك بالخُلُق زاد عليك بالتصوف )(12) ان الادب التام والخلق الكامل للعبد مع الله عز و جل هو تحقيق العبد لعبوديته بالفعل وذلك بتسليمه بربوبية الخالق سبحانه وتعالى . فهذه العبودية الخالصة هي جوهر الخُلُق النبوي الشريف الذي وصفه الحق عز و جل بخطابه لرسوله الكريم ﷺ 🙁 وَإِنَّكَ لَعَلـى خُلُـقٍ عَظِيـمٍ) فالطريقة هي الاعمال ذات الاصول المحمدية المؤدية الى تحقيق هدف الخلق الذي وصفته الاية الكريمة : وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ(13) لذلك وصف الشيخ ابو الحسن الشاذلي الطريقة بأنها : (تدريب النفس على العبودية وردها لاحكام الربوبية ) ( 14)والعبودية لله تعني التجرد عن كل ضعف امام سوى الله سبحانه وتعالى لانه يجعل من الانسان عبدا لغيره عز و جل ، ولذلك يقول الشيخ ابو علي الدقاق : (انت عبد من انت في رقه واسره ، فان كنت في اسر نفسك فانت عبد نفسك وان كنت في اسر دنياك فأنت عبد دنياك) (15) ليس اعتراف العبد بعبوديته وربوبية ربه عز و جل تصريحا باللسان فقط ، بل هو تسليم باللسان والقلب وتجسيد لهذا التسليم في كل ما يقوم به المرء من افعال . والعبودية لا تكون عبودية الا بتمامها اذ ان نقصانها مثل انتفائها ، لذالك فان العبودية لا تكون للعبد في حال دون باقي الاحوال ، وانما العبد الصادق في عبوديته يرى ربوبية ربه عز و جل في كل ما هو فيه وما يهم به من قول وفعل قال ذو النون المصري : (العبودية ان تكون عبده في كل حال كما انه ربك في مل حال) (16) كما لا يكون العبد عبدا صحيحا حتى ينطق قالبا وقلبا وسرا وعملا بقول الامام علي كرم الله وجهه :(كفاني فخرا ان تكون لي ربا وكفاني عزا ان اكون لك عبدا . انت كما اريد فجعلني كما تريد ) (17) . ويضرب الشيخ عبد القارد الكيلاني قدس الله سره مثلا مبينا بان الانسان مطالب بتحقيق عبوديته ليس فقط من خلال ما يقوم به من سلوك مباشر تجاه ربه عز و جل، أي بالعبادات ، ولكن في كل اموره وتصرفاته ، بما فيها تعامله مع الناس ، ويستشهد بالاية الكريمة يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ(18) اذ يعلق الشيخ عبد القادر قدس الله سره قائلا :(المؤمنون يذلون للمؤمنين ويتعززون على الكافرين . ذلهم للمؤمنين عبادة وتعززهم على الكافرين عبادة )(19) فالعبد الحقيقي يبقى عبدا في كل احواله واوقاته ، وفي تعامله مع الخالق والخلق ، اذ كما يقول الشيخ عبد القادر قدس الله سره :(فان الفوز هو في ادب الصحبة والمعاشرة مع الخالق عز و جل والخلق) (20) يقول الشيخ محمد الكسنزان قدس الله سره : (ان المريد هو الذي يكون مريدا في سلوكه ويحافظ على ادبه مع كل الخلق صغيرهم وكبيرهم . فالمريد الحقيقي لا يؤذي احدا حتى النملة) .
لا يأتي للعبد التحلي بصفات العبودية الا بالتخلي عن الذميم من صفاته ومفارقة طباعه السيئة . اذ ان هذا الانسلاخ من الصفات المذمومة هو جوهر العبادة التي هي تدريب النفس على العبودية . لذلك يقول الشيخ عبد القادر الكيلاني قدس الله سره : (العبادة ترك العادة ، هي ناسخة ، الشرع ينسخ العادة ويزيلها ، تمسكوا بشرع ربكم عز و جل واتركوا عاداتكم ، العالم يقف مع العبادة والجاهل يقف مع العادة ، عودوا انفسكم واولادكم واهليكم فعل الخير والدوام عليه ، عودوا ايديكم بذل الدنيا ، عودوا قلوبكم الزهد فيها) . ويبين الشيخ عبد القادر قدس الله سره بان الهدف هو ان تصبح العبادة صفة دائمة للعبد وهو لذلك يقول : (العبادة بترك العادة حتى تصير موضع العادة ) (21) .
ان سلوك نهج الطريقة هو محاربة المرء لصفاته النفسية التي تدفعه الى سوء الادب مع الخالق عز و جل والتشبه بدلا منها بالخلق النبوي الشريف الذي هو سبب واصل كل فعل نبيل وعمل صالح . فبحمل الرسول ﷺ لكل طيب من الصفات جاءت افعاله مثالا امر الله عز والجل الخلق بالاقتداء به فقال:لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً (22) فكان من اخلاقه ﷺ التقوى ، الزهد ، التواضع ، الصبر ، الجود ، الحياء ، الصدق ، الاخلاص ، الرضا ، لالمجاهدة ، الورع ، التوكل ، الحزن ، القناعة ، الرجاء ، الاستقامة ، الشكر ، وغيرها من الصفات الزكية . فلما سئل بعض ازواجه عن خلقه اجبن بأن القران العظيم كان اخلاقه(23) فمن جوده ما رواه جابر بن عبد الله (ما سئل النبي ﷺ شيئا قط فقال لا ) (24) وكان مما قال ﷺ في الجود والسخاء : السخي قريب من الله تعالى قريب من الناس قريب من الجنة بعيد من النار . والبخيل بعيد من الله بعيد من الناس بعيد من الجنة قريب من النار ، والجاهل السخي احب الى الله تعالى من العابد البخيل (25) ولفرط تواضعه كان صلى الله تعالى عليه و سلم يقول : اكـل كلما ياكل العبـد واجـلس كلما يجلـس العبـد (26) وكان ﷺ صادقا يحب الصادقين فجاء عنه قوله الشريف :لا يزال العبد يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا ولا يزال يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا(27) كما كان ﷺ ورعا لا يقرب ما فيه شبهة ومن اقواله ﷺ في الورع :ملاك دينكم الورع (28) ومن صفاته الكريمة ﷺ انه كان متواصل الاحزان دائم الفكر (29) لذلك فسلوك نهج الطريقة بالتشبه بافعال الرسول ﷺ انما يعني العمل على التحلي بالصفات النبوية الطبية . فهذا التحلي بالخلق النبوي الكريم والعمل اقتداء بافعال الرسول ﷺ هو صفة مشايخ الطريقة وصفة كل من سار بصدق على الطريق .
الهوامش:
(1) القلم : 4 .
(2) التقويم الميلادي المحمدي هو تقويم الطريقة العلية القادرية الكسنزانية . هذا التقويم القمري يؤرخ الاحداث نسبة الى شهر وسنة ولادة الرسول ﷺ ، وسيتم التطرق اليه بالتفصيل في الفصل السابع .
(3) طه : 39 .
(4) النساء : 113 .
(5) الكيلاني – ص 9 .
(6) الكسنزاني – ص 12 .
(7) القشيري – ص 139 .
(8) الانصاري – ص 8 .
(9) عمار – ص 3 .
(10) السهروردي – ص 41 .
(11) القشيري – ص140 .
(12) الكسنزاني – ص 12.
(13) الذاريات : 56 .
(14) الكسنزاني – ص 12 .
(15) القشيري – ص 99 .
(16) القشيري – ص 99 .
(17) تامر – ص 7 .
(18) المائدة : 54 .
(19) الكيلاني –ص 104.
(20) الكيلاني – ص 9 .
(21) الكيلاني – ص74 .
(22) الاحزاب : 21 .
(23) ابن سعد – ص 90 .
(24) ابن سعد – ص93 .
(25) القشيري – ص 123 .
(26) ابن سعد – ص 95 .
(27) القشيري – ص 105 .
(28) الطوسي – ص 44 .
(29) القشيري –ص 71 .
المصدر : الطريق الى الطريقة – ص 22 – 27 .