يوسف سامي اليوسف
الثقافة المُثلى؛ ولولا ذلك لما كان له أن ينتصر قط. وقد نسي من ينزعون هذا المنزَع أنه ما من فكرة كبرى في الفلسفة الأوروبية إلا وهي معروضة في الصوفية العربية على نحو صريح. فعلى سبيل المثال، لا الحصر، يقيم إمانويل كَنْتْ وزناً كبيراً، في نظريته الجمالية، لمقولتي “الجلال” و”الجمال”. وما من درويش من دراويش الصوفية في بلادنا إلا ويعلم أن التراث الصوفي العربي لم يتحدث عن شيء أكثر مما تحدث عن “الجلال” و”الجمال”. بيد أن للمسألة شقاً آخر. فالعناصر المعتدلة في الثقافة العربية الحديثة، وهي التي تحاول أن تنهل من المنهلين كليهما، الأجنبي والتراثي، لم تفطنْ بعدُ للإمداد الذي يملك الموروث الصوفي العربي أن يقدِّمه للثقافة العربية الحديثة. وفي الحق أن هذا الإسهام الإمدادي لا يتوقف على إنعاش النقد الأدبي وحده، بل هو يتعدَّاه، دون أدنى ريب، إلى ممكن آخر، وهو تأسيس الفلسفة العربية الحديثة ورَفْدُها بجميع المبادئ اللازمة لاستيلادها وتطويرها. هذا فضلاً عن أن التراث الصوفي ما انفكَّ حتى الآن واحداً من أغزر الينابيع التي يمكن أن ينبع منها علمٌ بالنفس شديد العمق والزخم والثراء. يقول الغزالي: “الحقيقة فِقْهُ النفس.” ويقول ابن عربي: “شرفُ الإنسان في معرفته لنفسه.” ويقول ابن الفارض: “ومن لم يفقه الهوى فهو في جهل.” وما هذه الأقوال إلا بعض الأدلة على انشغال الصوفيَّة العرب طوال التاريخ التراثي بحقيقة النَّفْس واستغراقهم في تذهُّن فحاويها ومنطوياتها، ولاسيما ما كان باطناً وخفياً بحيث لا يصل إلى عتبة الوعي. أما في مضمار الأخلاق فإن الصوفية، بموروثها الخصيب، كفيلة بتقديم أسمى أخلاق يمكن أن تخطر في بال البشر. ومزيَّة الأخلاق الصوفية أنها عملية وقابلة للتطبيق. وهي بهذا تختلف عن أخلاق إمانويل كَنْتْ التجريدية الصورية التي لا تملك أن تخرج من بين أغلفة الكتب. وفي الميسور القول، دون أدنى مبالغة، أن كتاب الرعاية لحقوق الله، الذي ألَّفه الحارث بن أسد المحاسبي في مطالع القرن التاسع الميلادي (الثالث الهجري)، هو أرقى كتاب في الأخلاق العملية وضعته البشرية. ولا ريب في أن الغزالي قد تأثر بهذا الكتاب إلى حد بعيد. فهو في المنقذ من الضلال لا يعرض إلا الروح الجوهري لكتاب الرعاية. فمن البدهي أن تكون الأخلاق إيقاعاً جوهرياً في حياة الإنسان الصوفي الراغب في الالتحام بالحقيقة الكلية العليا. وهو يدرك أن هذه البغية لن تتحقق له إلا إذا جاهد لكي يصيرَ الروحَ الأصفى الجديرة بمجاورة الإله، أو الالتحام به في وحدة عليا لا فكاك لها على الإطلاق. ولهذا، يقول عبد الكريم الجيلي في الجزء الثاني من الإنسان الكامل: “فإذا كان روحه تتقوَّى وترفع حُكْمَ الثقل عن نفسها، ولا يزال كذلك إلى أن يصير الجسد في نفسه كالروح…”. وبإيجاز، إن إنعاشَ الثقافة العربية الحديثة، وتطويرها، ودفعها إلى الأعلى باتجاه أفق جديد، لهي أمور تتوقف، إلى هذا الحد أو ذاك، على استنفار المُضْمَرات الكونية المندرجة في الموروث الصوفي، أقصد العناصرَ الحيَّة في هذا التراث، والقادرة على العيش والتنفس في أي مناخ حضاري أو مجال ثقافي. وأياً ما كان جوهر الشأن، فلا بأس في التعرف على محتويات الصوفية قبل الدخول في صلب الموضوع. وفي الحق أن هذه المحتويات شديدة التنوع والتفرع، وذلك نظراً لأن الصوفية مُقْتَرَب إلى الوجود والحياة، أو منهج شمولي يحاول استيعاء كل ما هو كائن على الإطلاق. فالصوفية نمط حياة، أو شكل من أشكال انكشاف الإنسان في الزمان. ولهذا فلابد من الاقتصار على أبرز موضوعات الصوفية وأكثرها قرباً من النقد الأدبي، على وجه الحصر والضبط. ولا ريب في أن هذه الموضوعات تقبل التصنيف إلى صنفين متواصلين، أولهما موضوعات ذاتية، وثانيهما موضوعات منهجية. أما الموضوعات الذاتية فأخَصُّها الشوق والذوق وصقل النفس والتنقيب عن الألطاف والنشوات وكل ما هو جميل ونبيل، بحيث قال أحدهم: “عشقُ الجمال قنطرةٌ إلى الله.” ولقد دفعهم ذوقهم وشوقهم إلى الولع باللغة العالية، من جهة، وإلى التولُّه بالسفر والترحال، من جهة أخرى، وذلك ابتغاء الالتقاء بكل ما يصلح غذاءً لنفوس همُّها الأول والأخير أن تتحول من الجَلَف إلى الهَيَف، لا قصدَ لها إلا أن تصير جديرة بمجاورة الله. وليس ثمة أدنى ريب في أن هذه الموضوعات الصوفية المتعلقة بالذات، أو بالعالم الجَوَّاني، هي موضوعات أدبية – أو شاعرية – بالدرجة الأولى، وبالتالي فهي شديدة الصلة بالنقد الأدبي. أما المحتويات الوثيقة الصلة بالمنهج الصوفي نفسه فأبرزها خمسة:
أولاً. الكشف
من فاحش الغلط أن ينظر المرء إلى مقولة الكشف الصوفي بوصفها ضرباً من التخريف أو الهذيان. فالكشف، في الحق، لا يقلُّ أبداً عن كونه استنفاراً للطاقة الاحتياطية الجاثمة في الذهن البشري. إن الجهد البرهاني، أو العلمي، لا يملك أن يستهلك جملة الطاقة النفسية أو الدماغية؛ بل هو لا يكاد أن يفيد إلا من جزء يسير من طاقة العالم الجَوَّاني الشديد الزخم والغزارة. فما علينا إلا أن نسلِّم بأن التجربة المعيشة لا تملك أن توظِّف الروح كلِّه. ولهذا فقد راح الإنسان يتفلسف ويتفنَّن، وذلك بفضل الطاقة الجَوَّانية الزائدة عن الاستهلاك التجريبي. إن نيران الواقع فاترة على الدوام، ولا تحتاج إلا إلى القليل من الوقود. ولهذا كان فائض الطاقة أكبر بكثير مما يحتاجه الجهد البرهاني أو التجريبي. ولابد من توظيف هذا الفائض في مضمار آخر، شريطة أن تكون الفرص الحضارية مهيَّأة لمثل هذا التوظيف العالي. وأياً ما كانت الحال، فإن أهم ما في أمر الكشف الصوفي أنه “يلطِّف الكثيف”، على حد عبارة الشيخ الأكبر، لأنه يشاهد من الشيء جوهرَه الصافي. فهو نظرة باطنية مَلَكية تخلِّص الأشياء من أعراضها وشوائبها وما فضل عن صميمها، ابتغاء البلوغ إلى نواتها الأولى، أو ينبوعها الأصلي. ولهذا فقد آمن الغزالي، ومن بعدُه ابن عربي، بأن “الكشف أتَمُّ من المشاهدة”، لأن الكشفَ “إدراكٌ معنويٌ” مختصٌ بأرواح الكائنات ومنطوياتها، دون ظواهرها وقشورها الخارجية.
ثانياً : الكلِّية
والمقصود بالكلِّية أن يصير الروح الصوفي إناءً للأشياء كلِّها، يشملها جميعها، ولا يستنكف عن اعتناق أي منها على الإطلاق، وذلك نظراً لكونها آناتٍ ماهوية في منظومة الحق. والحق عند الصوفية، أو أقلَّه في مدرسة ابن عربي، هو الواقع بأمِّ عينه. ولقد عبَّر الشيخ الأكبر عن هذا الموقف بقوله: “وليمتي هذه الدنيا بأجمعها”، كما عبَّر عن هذا المعنى بأبيات شديدة الشهرة، أوردها في ترجمان الأشواق، ديوانه المشهور:
لقد صار قلبي قابلاً كلَّ صورةٍ
فمرعًى لغزلانٍ وديرٌ لرهـبانِ
وبيتٌ لأوثـانٍ وكعبـةُ طائـفٍ
وألواحُ توراةٍ ومصحفُ قـرآنِ
أدينُ بدينِ الحبِّ أنَّـى توجَّهتْ
ركـائبُه فالحبُّ ديـني وإيماني
لكأنَّ ابن عربي يصرِّح بأن مذهبه قد احتوى جميع المذاهب التي سبقته، تماماً كما أعلن هيغل بأن منهجه قد اشتمل على جميع المناهج الفلسفية السابقة. وأياً ما كان الأمر، فإن ما يهرب منه الصوفي، كما يهرب السليم من المجذوم، هو “الحصر والحدُّ”، وفقاً لما جاء في الإنسان الكامل للجيلي، الذي يتابع ابن عربي ويشايعه في كل شيء. وقد ورد في الجزء الثالث من الفتوحات المكية قول الشيخ: “وكانت الحقائق التي جمعها الإنسانُ متبددةً في العالم، فناداها الحق من جميع الجهات فاجتمعتْ، فكان من جمعيَّتها الإنسان، فهو خزانتها. فوجوه العالم مصروفة إلى هذه الخزانة الإنسانية.” وخلاصة القول إن الإنسان خزانة الحقائق في نظر الشيخ ومدرسته القائلة بوحدة الوجود. ولو حاولتَ أن تجمع أقوال الشيخ في كلِّية الإنسان لاحتجتَ إلى مجلَّد كامل قائم بذاته.
ثالثاً : الخيال
أما الخيال فلابن عربي فيه نظرية مبثوثة في بعض كتبه، وعلى الأخص في الجزأين الثاني والثالث من الفتوحات المكية، موسوعة الفكر الصوفي وأنفس كنوزه على الإطلاق. وفي الحق أن من شأن نظرية ابن عربي في الخيال أن تؤسِّس لنظرية حديثة غنية وخطيرة بالفعل. ولقد تابع الجيلي أستاذه ابن عربي، وسجَّل بعض الإلماعات عن الخيال في الإنسان الكامل الذي هو أحد الكتب الصوفية الموغلة في اللطف ودقة الفهم. وسواءٌ عند ابن عربي أو عند الجيلي، فإن الخيال “هيولى جميع العوالم” و”حياة روح العالم” و”عين الحقيقة للوجود” و”أصل الوجود” و”أصل جميع العالم”. هكذا جاء في الإنسان الكامل. أما “روح الخيال”، كما شرحه الجيلي، فهو “المحلُّ الذي لا تمرُّ عليه الليالي والأيام”، لأنه “الحقيقة العالية والرقيقة المتدانية… مَدْرَجَة الحقائق ولُجَّة الرقائق”. وفي الحق أن الجيلي لم يَزِدْ على أن لامَسَ موضوعة الخيال ملامسة خفيفة، الأمر الذي يتضمن ما فحواه أن نظرية ابن عربي فيه قد ظلَّت على حالها تقريباً، منذ وفاته عام 1240 م وحتى يوم الناس هذا.
أهم مبادئ هذه النظرية ثلاثة مبادئ
- “علم الخيال هو علم البرزخ.” والبرزخ، بمصطلح القوم، هو ما يعادل مقولة “الوساطة” في فلسفة هيغل. والمقصود بهذا المبدأ أن الخيال كيانٌ يتوسَّط بين الوجود والعدم، بمعنى أن محتواه ليس موجوداً ولا معدوماً، أو قُلْ مع ابن عربي: “هو حسٌّ باطنٌ بين المعقول والمحسوس.” وفي هذا نسفٌ لنظرية أفلاطون وأرسطو في “المحاكاة”. فالفن لا يحاكي الواقع، ولكنه مع ذلك مرتبط به على هذا النحو أو ذاك.
- “حقيقة الخيال التبدُّل في كل حال.” وهذا مبدأ محوريٌّ في المنهج الصوفي؛ وما ذاك إلا لأن النفس، في عرف القوم، دائمة التبدل، نظراً لمسيرها الدائم صوب الحق على مدارج الحق. ولما كان التبدل أبرز سمات الخيال، فإن مفرزاته شديدة التلوُّن والتنوع، أو هكذا ينبغي لها أن تكون حين يكون الخيال حياً واختراقياً ومُنداحاً. وهذا يعني التخلُّص من المَلَل والرتابة، وتزويد النصوص الأدبية باليخضور القادر على إكسابها سمة اللدونة والطراء.
- الخيال “حضرة جامعة ومرتبة شاملة”: فهو “أوسع الكائنات وأكمل الموجودات”، “ألا تراه يقبل صور الكائنات كلِّها ويصوِّر ما ليس بكائن”. ووفقاً لهذا المبدأ الثالث يغدو الخيالي واللامتناهي اسمين لمسمًى واحدٍ. وبذلك نبلغ إلى عالم بلا تخوم أو إلى بحر بلا سواحل، الأمر الذي من شأنه أن يجعل من الخيال نزهةً في المسرَّح والمفتوح، أو في مجالات لا يحدُّها حدٌّ ولا يقيِّدها قيد. فمن وجهة نظر كيانية (أنطولوجية) يغدو الخيال مجال حرية مادام يتمتع بمزيَّة الانفتاح على جميع الممكنات. ومن الغرائب حقاً أن التراث الصوفي، الذي طالما انهمك في مبحث الخيال، قد سكت عن مقولة الرمز إلى حد لافت للانتباه، مع أن ثقافة مصر والهلال الخصيب، التي ورثها الصوفيون العرب، هي ثقافة رمزية في أطوارها السابقة على الاسكندر المقدوني. ولكن ممَّا هو بدهي أن أية نظرية في الخيال من شأنها أن تنطوي انطواءً مُضْمَراً على مفهوم للرمز يرخم داخل أنسجتها على نحو مستتر. فمادام الخيال “برزخاً” أو وساطة، فإن في الميسور أن نحدَّ الرمز بأنه برزخ هو الآخر، توليفةٌ لها وجهان، واحد على الغياب وآخر على الحضور. ومادام توليفة فهو استسرارُ المعاني وتزاوجُها الصامت والتغامُها في ملغمة واحدة تتجاوز جميع أجزائها وعناصر تركيبها. ومادام الخيال “مرتبة شاملة” فإن في ميسور العقل أن يشتقَّ مفهوماً للرمز مفادُه أنه كيانٌ مفتوحٌ لا تستهلكه الشروح؛ أي أنه يكتم سراً لا يبوح به إلا جزئياً وبالتدريج، كما أنه لا يبوح به إلا عن طريق الكشف، لا عن طريق البرهان، مادام الرمز لا يشعُّ فحواه إلا وفقاً لمبدأ التلويح. ومن أي درب أتيتَ فإنك بالغٌ إلى اللاتناهي، أو الانفتاح المطلق.
رابعاً : اللاتناهي
اعتاد الشيخ الأكبر أن يكرِّر كثيراً ما فحواه أنه وارث، بمعنى أنه يضم الأديان، أو علوم الأنبياء كلِّهم، إلى علمه الخاص. والحقيقة أن الشيخ لا يرث إلا وفقاً لتوجُّه مزدوج، ينفي بقدر ما يُثْبِت. ولا ريب في أن مذهبَه مبتكَرٌ وأصيل. ولا يعرف هذا المذهب على حقيقته إلا مَنْ عايشه مدة طويلة، كأبي العلا عفيفي (تلميذ نكلسون) الذي قدَّم أفضل شرح على فصوص الحكم. وهذا الكتاب خلاصة متقنة ورصينة لمذهب الشيخ الأكبر. وعلى أية حال، فإن مذهب ابن عربي هو مذهب وساطة بين المادية والروحانية. والحقيقة أن مقولة “الوساطة”، التي تربضُ في صلب المنهج الهيغلي، هي واحدة من المفاهيم المحورية في مذهب الشيخ، وهي نتاج لتوتُّر التناقض بين الأضداد. ففي الحق أنه ما من فيلسوف قبل ابن عربي قد عني بمثنويَّة السلب والإيجاب قدر ما عني الشيخ. وعلى أية حال، فإن “مادية” ابن عربي فاقعة إلى حد لا يخفى على أحد. وهو كثيراً ما يتحدث عن إله محايث، لا يفارق الطبيعة أبداً، إذ هو لا يكفُّ عن ترديد هذه العبارة طوال الفتوحات المكية: “ما ثمة إلا الله.” ولا يحتاج اللبيب إلى طول تأمل ليدرك أن ابن عربي يعبد الكون أو فاعلية المادة. كما أن الشيخ يؤكد، في ألف موضع وموضع، أن لا أول ولا آخر، وإنما وجود مستمرٌ من الأزل إلى الأبد. وهذا هو مضمون وحدة الوجود التي لا ترى أي فراق بين الوجود المادي والوجود الروحي. ومما يندرج في هذه الفكرة أن الله ليس شيئاً آخر سوى “هوية الكون”. ولهذا فقد غلط جميع الذين قالوا بأن ابن عربي يصدر عن أفلوطين؛ إذ إن عالم أفلوطين يتميز بالفراق والازدواج، والأشياء “تفيض” من “هناك” إلى “هنا”. أما ابن عربي فلا يؤمن بأي فيض ولا يقول به، وإنما هو ينادي جهرة وصراحة بالتجلِّي. وتنطوي مقولة “التجلِّي”، بكل وضوح، على نفي كل فراق بين المادة والروح، أو بين الله والكون، وتقود إلى مادية معتدلة من شأنها أن تترك مساحة واسعة للروحانية. ومادام الأمر كذلك فإن مقولة اللاتناهي هي الاسم الآخر لمقولة وحدة الوجود. ومن الجدير بالانتباه أن هاتين المقولتين هما اثنتان من أبرز المقولات المركزية في منهج هيغل. والأبرز من ذلك أن معظم الموضوعات الفكرية، أو الفلسفية، التي بحث فيها الشيخ وتبنَّاها قد بحث فيها هيغل من بعده وتبناها، كالتجلِّي، والجَبْرية، والتضادِّ، واحتواء المنهج الجديد على جميع المناهج القديمة، وسوى ذلك مما لا يدخل في اختصاص هذه المقالة. ولما كان الفيلسوف الألماني قد صرَّح ذات مرة بأنه “ما من فلسفة خارج أوروبا”، فقد بات من الواجب أن تبرهن الدراسات، لا على وجود فلسفة خارج أوروبا وكفى، بل على أن الفلسفة الهيغلية نفسها قد أخذت (أخذاً معدِّلاًً) من خارج أوروبا، دون أدنى ريب. وأياً ما كان الشأن، فإن مبدأ الوحدة والتناقض داخل الوحدة، أو في صلب الهوية الواحدة، الذي هو المبدأ السيِّد في مذهب ابن عربي، من شأنه، إذا ما نُقِل إلى مجال النقد الأدبي، أن يدفع الناقد صوب التنقيب عن تماهٍ عميق بين النص الأدبي وبين الوجود، لا من حيث هو سطح، بل من حيث هو ماهية. وليس لهذا القول أن يفضي بنا إلى “المحاكاة” اليونانية، لأن هذه المقولة تجعل من النص الأدبي، أو العمل الفني، مجرد نسخة عن شيء واقعي، هو بدوره نسخة عن “المثال”، وفقاً لأفلاطون. بينما تدفعنا مفاهيم ابن عربي إلى البحث عن توافق يتمُّ على مستوى الجوهر أو الأصول وحسب. فالعمل الأدبي أو الكيان الفني هو النسخة الثالثة عن المثال، وفقاً لأفلاطون، مادام هذا العمل، أو هذا الكيان، لا يقلِّد إلا شيئاً يقلِّد النسخة الأصلية. أما مفاهيم الشيخ فمن شأنها أن تدفع بك إلى الاعتقاد بوجود ضرب من النِدِّية بين النص الأدبي (أو العمل الفني) وبين الكون نفسه؛ وبالتالي فإن النص الأدبي كونٌ قائم بذاته، له درجة عالية جداً من الاستقلال. وهذه النتيجة أسمى بكثير من تلك الدعوات المادية المسطَّحة التي تجعل من العمل الفني، أو النص الأدبي، مجرد تابع ذليل للواقع – الشيء الذي تنطوي عليه مقولة “المحاكاة” بصفحتيها الأفلاطونية والأرسطية.
خامساً : التأويل
اشتغل المسلمون بتفسير القرآن وتأويله منذ عهد الرسول. وكان ابن عباس، منذ جيل الصحابة، واحداً من أبرز الذين مارسوا هذا الإيقاع القائم على مبدأ الإحالة، أو مبدأ التلويح والتأشير. ومما هو معروف تماماً أن المحاولات المبذولة في مضمار تأويل القرآن قد استمرت حتى عصر ابن عربي على الأقل. ولابن عربي نفسه تأويلان للقرآن، أحدهما موسَّع (غير منشور)، وثانيهما موجز، وقد طُبِع في مجلدين. والأهم من هذا – فيما يخص النقد الأدبي – أن ابن عربي قد وضع تأويلاً مدهشاً لديوانه المشهور. فحين وفد إلى حلب، تصدَّى له بعض المتزمِّتين ونَعَوْا عليه أن له شعراً غزلياً حسياً لا يليق البتة بشيخ يزعم أنه “خاتم الأولياء” (كما زعم هيغل بأنه خاتم الفلاسفة). فما كان من ابن عربي إلا أن أحْسَنَ التخلص بأن أقْدَمَ على شرح ديوانه شرحاً تأويلياً. وقد أسمى هذا الشرح ذخائر الأعلاق في شرح ترجمان الأشواق. ومع أن الديوان لا يكتبه إلا عاشق ملتاع، وإلا رجل يعرف التمتُّع بجمال الجسد الأنثوي، فقد استطاع الشيخ أن يجيء بتأويل (مقنع أو غير مقنع) من شأنه أن يحشر الديوان في المناخ الصوفي، وأن يجعل منه شكلاً من أشكال التعبير عن التصوُّرات والمفاهيم الصوفية. فالطواويس، مثلاًً، وهي في الظاهر النساء الحِسان، قد أصبحت في التأويل “أرواح الأعمال”. وسلمى التي يسلِّم عليها في إحدى قصائده تغدو في التأويل “حالة سليمانية وردت عليه من مقام سليمان”. وأما الشيح والبان فيغدوان، في الشرح التأويلي، الميل والبعد؛ كما أن الأوانس يَصِرْن الأرواح الحافَّة من حول العرش، مثلما تصير الحمامات “وردات التقديس والرضى والنور والتنزيه”.
وكان مبدؤه في الشرح صرفُ الخاطر عن الظاهر والمضيُّ إلى الباطن المستور؛ إذ “المحجَّات كلُّها تحت الأرض”، كما يقول النفَّري في مواقفه. وقد ألمع الشيخ نفسه إلى مبدئه التأويلي في ذخائر الأعلاق حين قال بأن “اللسان العربي يعطي التفهُّم بأدنى شيء من متعلِّقات التشبيه”؛ أي أن أدنى مناسبة، أو صلة متشابه، بين الإشارة وما تؤشِّر إليه كفيلة بأن تخوِّل العقل التأويلي أو التحليلي كامل الحق في إحالة الظاهر على الباطن، أو في ترجمة الرامز إلى مرموز يوازيه تماماً. وبناء على هذا المبدأ فقد راح ابن عربي في الباب الحادي عشر من الفتوحات المكية يؤوِّل القلم على أنه القضيب، وذلك نظراً لما بين القضيب والقلم من التشابه، أو من “متعلِّقات التشبيه”. كما راح يؤوِّل اللوح بأنه فرج أيضاً، وللسبب نفسه. وقد رأى أن بين المعلِّم والتلميذ علاقة “نكاح معنوي”، لأن التعليم والنكاح يشتركان في خصيصة واحدة، إذ كلاهما تأثير أو فاعلية من شأنها أن تفضي إلى إنتاج أو تغيير. ولا خفاء في أن مثل هذا الإجراء ينطوي انطواء شفافاً على منزع تأويلي يتعامل مع الأشياء والوقائع من حيث هي رموز تقبل الإحالة إلى ما ليس هي. ولعل من الواضح تماماً أن المبدأ القائل بأن اللسان يمنح المعنى للعقل “بأدنى شيء من متعلِّقات التشبيه” هو بالضبط مبدأ فرويد في التحليل النفسي القائم على ترجمة أقوال المرء إلى ما تؤشِّر إليه، وذلك نظراً للعلاقة القائمة بين الشيء المذكور والشيء المكتوم. ولعلَّ من الناصع تماماً أن جملة المحتويات المسرودة أعلاه شديدة الصلة بالنقد الأدبي. فلا ريب في أن من شأن المحتويات الذاتية للموروث الصوفي أن تزوِّد الناقد الأدبي باليخضور الإنساني الشبيه بالترياق، والقادر، بالتالي، على مقاومة ترمُّد الروح وتخثُّره بين الوقائع. فالموت في الحياة هو أخطرُ خطرٍ على النفس البشرية. فمما لا يجهله أحد أن النقد الأدبي في هذا الجيل الراهن قد أخذ يكفُّ عن اتِّخاذ الذائقة والتعشُّق بالجمال محوراً من محاوره التي لا غنى له عنها إلا حين يقرِّر أن ينحطَّ أو يترمَّد. ترى، ماذا يبقى من النص الأدبي حين لا يعود انتشاءً بالألطاف الحسنى وغذاءً للذائقة والوجدان؟ وكيف سيكون حالُه حين يفتقر إلى الوجد والشوق والحنين؟ و”الوجدُ قصدٌ”، على حد عبارة القشيري في رسالته المشهورة. فمادام النص الأدبي لا ينبع إلا من ذوات حارَّة، من جهة، ومتعشِّقة باللطائف والنشوات، من جهة أخرى، فإن النصوص الأدبية لا يسعها البتة أن تكون ذات قيمة وشأن خطيرين حين تفتقر إلى الشوق والذوق والوجد والصبوة. ثم إن تولُّه الصوفيين باللغة الاستثنائية وصلادة الأسلوب العالي وجودة التعبير الرفيع هو أساس رصين لكتابة عربية كثيفة أو مركَّبة، أو قل كتابة عميقة الغور، من جهة، ومشحونة بالقدرة على المباغتة والخلب، من جهة أخرى. يقيناً أن واحداً من أكبر التحدِّيات التي تواجه الثقافة العربية الحديثة هو البرهنة على أن شباب اللغة العربية ما انفكَّ أمامها وليس وراءها. أما ولع الصوفيين بالسَفَر من حيث هو ممارسة، وكذلك ما خلَّفوه من كتابات عن السفر، ولاسيما كتاب السفر لابن عربي وما كتبه السراج الطوسي عن السفر في اللمع، فقد يوحي للمعنِيين بنظرية الأدب من المحدثين ما فحواه أن النص الأدبي هو، في حد ذاته، سفرٌ أو ارتحال في العالم الداخلي بدلاً من العالم الخارجي. إنه نزهة تتم في داخل النفس، سياحة تأخذ مجراها في الوجدان بدلاً من البلدان. ومن شأن مثل هذا المذهب أن يؤسِّس حكم القيمة على مبدأ الجَوَّانية، عوضاً عن هذه النزعات الخارجية الآخذة بالتفاقم والاستفحال يوماً عن يوم مع استشراء المادية والواقعية الآلية أو الفوتوغرافية. أما المحتويات الخمسة التي تؤلِّف بعضاً من محاور المنهج الصوفي وركائزه الكبرى ففي الميسور أن يكون لها أثر مباشر على المنهج النقدي في هذه الأيام، شريطة أن تتمكن حركة النقد من تمثُّل هذه المحتويات ودمجها في صلب الفاعلية النقدية. فمن شأن مفهوم الكشف الصوفي أن يؤثر على نظرية الأدب، الأمر الذي سوف ينعكس على معايير القيمة في المآل النهائي، بحيث يُنظَر إلى النص الأدبي بوصفه كشفاً. أما النقد العملي أو التطبيقي فيصير نوعاً من “كشف الكشف”، أي هو استبارٌ للنص وشهادة عليه. أما مبدأ الكلِّية فإن من شأنه أن يقلص كلَّ أحادية وموضعية ونزعة جزئية في النقد الأدبي، وأن يحيل النص على منهج شمولي أو تكاملي من شأنه أن يوظِّف جملة ثقافة الناقد في استيعاء النص والحكم عليه. وهذا يعني أن المنهج النفسي والمنهج الاجتماعي والمنهج الفني والمنهج اللغوي والمنهج الأسطوري… الخ – وهي جميعها لحظات تندرج في صلب الحق – لابد من نفيها بغية ضمِّها في تركيبة واحدة تتجاوزها وتتمثلها كلَّها. وبالتالي فإنه لا يبقى سوى منهج واحد عالٍ وأصلي، وهو المنهج المتكامل الذي ينبغي أن يصير مثالاً للنقد الأدبي، يطمح على الدوام إلى إنجازه، ويتوق باستمرار إلى جعله حقيقة ماثلة، قابلة للنمو الحي، تماماً كما تطمح الصوفية نفسها إلى إنتاج “الإنسان الكامل” الذي هو “تاج الوجود”، على حد عبارة الصوفيين. وما من أحد في هذه الأيام إلا ويعلم أن النقد العربي ما انفك شديد الافتقار إلى نظرية في الخيال من شأنها أن تؤسِّس حكم القيمة، الذي هو واحد من الأهداف النهائية لكل جهد نقدي حي. وفي الحق أن الموروث الصوفي (فضلاً عن موروث الجرجاني) كفيل بتزويد الحركة النقدية بمنظومة من الأفكار تصلح نواة لنظرية في الخيال قد تغدو – إذا ما أتيح لها أن تتطور – شديدة الاندياح والشمول، وشديدة القابلة للانطباق على النصوص الأدبية. ولن يفوتني في هذه البرهة أن أشدِّد على أهمية عبد القاهر الجرجاني وأفكاره القادرة كلِّياً على تزويد نظرية الخيال التصويري، أو النقدي، بأبرز المبادئ الماهوية الكفيلة بجعلها رصينة كالفولاذ. وفي الحق أن مبدأ الجرجاني في الخيال التصويري، كما عُرِض في أسرار البلاغة، هو مبدأ صوفي بكل وضوح؛ فهو مشتق من مذهب وحدة الوجود، سواء أكان الجرجاني يعي ذلك أو لا يعيه. وخلاصة مذهب عبد القادر أن الخيال التصويري ينطوي على “شدة ائتلاف في شدة اختلاف”، وأن عناصره المتباينة تأتي من النائيات وتزدلف في بؤرة واحدة حيث تتَّحد وتنصهر في هوية أحادية الصبغة. أو قُلْ بعبارة الجرجاني نفسه: “تعقد بين الأجنبيات معاقِدَ نَسَبٍ وشبكة.” وهذا هو بالضبط مبدأ وحدة الوجود الرامي إلى صلح الأضداد وتعايشها السلمي داخل الماهية الواحدة. واستناداً إلى مبدأ التلاحم هذا فقد راح الجرجاني يصف النص العظيم بأنه ذاك الذي “أحرز غايةً لا ينالها إلا الجَوَاد، وهدفاً لا يصاب إلا بعد الاحتفال والاجتهاد”. أما مفهوم اللاتناهي الذي لم يتحدث ابن عربي في شيء قدر ما تحدث فيه، فإن من شأنه أن يزوِّد النقد الأدبي بصورة الانفتاح والتفتُّح الدائم. وهذه صورة خطيرة المكانة، نظراً لانطوائها على فكرة مؤدَّاها أنه ما من شيء قد أنْجِزَ على نحو نهائي، وما من شيء يمكن إنجازه إنجازاً مطلقاً. وهذا يعني أن النص الأدبي مفتوح على الدوام لشروح جديدة وتطبيقات لم تُعرَف من قبل، وأن قيمته النهائية لا يمكن البلوغ إليها، وذلك لأن كل جيل من شأنه أن يعيد النظر في النصوص وفي قيمها الفنية على نحو يختلف كثيراً أو قليلاً عما فعله السابقون. وبإيجاز، إن باب الاجتهاد مفتوح على الدوام؛ إذ ليس ثمة إلا انفتاح ووصال في نظر الصوفيين. (ولهذا فقد أضفوا على المرأة احتراماً لا مثيل له في أية حضارة من الحضارات، وأعلن الشيخ في الفصوص أن “أعظم الوُصْلةِ النكاح”). ألم يتمكَّن ت. س. إليوت من إحياء “الشعراء الميتافيزيقيين” الإنكليز بعدما أهملتْهم أجيال عديدة، وأن يدفع بهم إلى الصدارة والمرتبة العالية؟ ألم ينظر عصرنا الراهن إلى الشعر الجاهلي نظرة شديدة الاختلاف عن نظرة النقاد التراثيين إلى ذلك الشعر نفسه؟ فمادامت “الممكنات لا تتناهى”، على حد عبارة الشيخ الأكبر الشديدة التواتر في الفتوحات المكية التي تصلح كأساس مكين لمفهوم التطور والتحول، ومادامت الحقيقة نفسها بمثابة فتوحات أو آفاق يفضي بعضها إلى بعضها الآخر، ومادامت “وردة الأزل” في حال من التفتُّح الأبدي، لا يسكُن ولا يفتُر، فإن النص الأدبي الواحد قابل لألف فهم وفهم، على الأقل. وهذه هي “ديموقراطية النقد”. بيد أن بيت القصيد ليس ههنا. إذ إن من شأن مقولة الانفتاح الصوفية، أو مقولة اللاتناهي، أن تفضي إلى الاعتقاد بأن ليس ثمة من منهج أصلي سوى المنهج المفتوح. ولا ريب عندي في أن المنهج المفتوح هو الاسم الآخر للمنهج المتكامل. وفي الحق أن هذه المقولات متثاغرة؛ أقصد أن لكل منها نافذة تطلُّ بواسطتها على الأخريات. بل إن المقولات الصوفية، لدى النظر من برهة الكَثَب، لا تشبه إلا صورة الدوائر المتراكزة، أو صورة العروج اللولبي إلى سدَّة الحق. أما التأويل، كما نمَّطه الشيخ في ذخائر الأعلاق، فهو منهج يؤخَذ به دوماً في جميع المدارس القائمة على مبدأ تحليل الرموز. ولا ريب في أنه أقدم من ابن عربي؛ إذ هو يرقى إلى بابل ومصر الفرعونية، كما تشير بعض الوثائق. ولكنه، بكل وضوح، فاعلية شديدة الصلة بمقولات اللاتناهي والتفتُّح والخيال المطل على الغياب، الذي من شأنه أن ينادي النائيات والمتباينات. بل قُلْ إن التأويل تطبيق إجرائي لمبدأ التجلِّي، الذي هو التفتح إياه، على وجه الدقة والتماهي. فمن شأن التأويل أن يفتح براعم الحقيقة وأن يكشف مُضْمَراتها ويبدي مستوراتها، بحيث تتفتَّح على نحو شهي يوسع آفاق الروح ويثير في النفس شعوراً بالمتعة، لأن من خصائص النفس البشرية أن تتلذذ إذا ما أفضيتَ بها من المخبوء إلى المكشوف، كما يقول الجرجاني. ولعل من الواضح أن التفتُّح والتفوُّح شقيقان، في نظر الفقه اللغوي، وذلك بسبب التصاقب الشديد بين حروف الكلمتين (وفقاً لنظرية ابن جني). ومع أن التأويل قد يفضي إلى التمحُّل، ما لم ينهض به الذهن الكفؤ المعتدل، فإنه يظل ينبوعاً ثراً من ينابيع الدراسات الأدبية. ولعل أبرز ما في تأويلات ابن عربي تلك النزعة الفقهية الشارحة للغة العربية من باطنها. ولا يتسع المجال ههنا لبسط نظرية ابن عربي في فقه اللغة، ولكن من اطَّلع عليها مبثوثة في مؤلفاته فإنه سوف يسلِّم بأن الشيخ قد كان أعرف بالعربية من فقهائها المشهورين، كابن فارس وابن جني. وما هذا بالمصادفة أبداً؛ فالصوفيون يعشقون اللفظة الجميلة والكلام الحي. إن من يؤمن بأن “اتِّساع الممكنات لا يقبل التناهي” سوف يهتم باللغة على نحو استثنائي حقاً، لا لأن اللغة ماهية العقل البشري وحسب، بل لأنها الإناء الوحيد الذي يسعى الإنسان بواسطته من أجل احتواء هذا الاتساع اللامتناهي، أو المفتوح على المطلق والمسرَّح واللامحدود. من الغرائب حقاً أن يقف اليمين واليسار معاً، في العالم العربي الراهن، ضد التراث الصوفي. فلقد تدخل أنور السادات شخصياً، في أواخر العقد الثامن، وأوقف طباعة الفتوحات المكية بعدما صدر منها معظم الجزء الأول في طبعة شديدة الصلاح للقراءة. ومادام الأمر كذلك فإن الإنسان العربي لم يبقَ أمامه إلا أن يتبنَّى مبدأ العقل الحر، الذي هو مبدأ الفطرة البشرية. ولكن من حق المرء أن يرتاب في أن يتمكَّن هذا العصر الرِّبَوي المجذوم من إعداد الفرص الكافية لتغذية العقل الحر بكل ما يضمن له القدرة على الاندفاع نحو ذروة قوس الحياة. فيقيناً، ليس أمام العقل من هدف إلا أن يعود إلى الحرية، أو قل إلى حالة الفطرة التي هي طبعه الأول. وأياً ما كان الشأن، فإن هذا الاستعراض السريع لبعض من أهم الفوائد التي يمكن للنقد الأدبي عندنا أن يكسبها من الموروث الصوفي الشديد الثراء بالممكنات والعناصر الخصيبة – أقول إن هذا الاستعراض لا يفي بالغرض المنشود، ولا يملك أن يكون أكثر من إشارة أو تذكير. وللمرء أن يتساءل عمَّا إذا كان في الميسور أن ينشأ ويترعرع تيار نقدي شمولي ذو نكهة صوفية تصدر عن مقولة الانفتاح والتكامل. ولئن لم يكن ذلك في المستطاع، فإن الإفادة من جهود الصوفيين تبقى أمراً لازماً إذا ما أريد للنقد العربي أن يحمل شيئاً من محتويات الهوية العربية. ولكن هذا السؤال سوف يظل قائماً إلى أجل غير مسمًّى: هل ستُقْدِم الحركة النقدية في العالم العربي على الإفادة من الموروث الصوفي حقاً؟ وبالطبع ليس في مقدور أحد أن يجيب الآن عن هذا السؤال، لا بالنفي ولا بالإيجاب. ولهذا، فلا بد من ترك الأمر للمستقبل البعيد أو القريب.
_______
المصدر : موقع معابر .
http://maaber.50megs.com/sixth_issue/sufism_and_critic.htm