حيدر العبيدي
إن المفاهيم التي ينطلق منها الصوفية في طريقة تعاملهم مع القرآن الكريم وتناول قضاياه المصيرية والتي تنسجم مع ذائقتهم القلبية ومشاربهم الروحية والمتأتية من نقاء سرائرهم من شوائب الأوزار وصفاء قلوبهم من محبة الأغيار دفعتهم إلى وضع قراءة القرآن وتدبر آياته في الصدارة من سلم أولوياتهم عند تأدية الطاعات وإتيان القربات باعتباره دستور المسلمين والشارع الأوحد والعروة الأوثق والخارطة التي رسمها الحق جل وعلا لإنقاذ البشرية من لجج المعاصي والابتلاءات في سفن الطاعات إلى بر النعيم الأبدي ، وهو الخيمة التي يستظل بها الهارب من هجير الفتن ، والبوصلة التي يستدل بها التائه في أروقة الضلال ، والمنجم الثر الذي يلجأ إليه المفتقر إلى جواهر الحكمة وكنوز الموعظة الحسنة ، وهو الكهف الذي يلوذ به الخائف من سباع النفوس الأمارة والواحة التي ينهل منها الضامي إلى ري الحقيقة والصواب ، والملاذ الذي يقصده الحائر في زحمة الأهواء المتبعة والآراء المختلفة . إضافة إلى ما به من العبر والعظات ، والحكم البالغات من سير الأوائل في القرون الغابرة والسنين العابرة ، والتي من شأنها أن تصلح حال المسلمين وتوحد صفوفهم وتجمع كلمتهم وتضعهم أمام صورة رائعة وشمس ناصعة وتذكرهم بأمجاد سلفهم الصالح وتشحذ فيهم الهمم وترقى بهم إلى القمم وتبعث فيهم الأمل وتحثهم على العمل لمواجهة التحديات التي يتعرض لها الإسلام والمسلمون ، ولما له من دور في إثارة مكامن العاطفة والوجدان في قلوب المسلمين وإثارة مشاعر الحب و التعظيم لله رغبة برضاه ونعيمه ، ومشاعر الخوف منه رهبة من سخطه وجحيمه .
إن السير وفق تعاليم القرآن لا يعني فقط الإهتمام بحفظ آياته ودراسة أحكامه الشرعية وضبط أحكام التجويد وإتقان اللفظ والإعتناء بمخارج الحروف ، فقد نبه الصوفية إلى مسألة هي من الأهمية بمكان ، وهي أن كلام الله عز وجل في آية ( إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا ) ثقيل بما يحمله من الأسرار الجلية والأنوار العلية والحكم الفريدة والآراء السديدة ، والتي لتنوء بحملها الجبال الراسيات بل والأرض والسموات ، وهو ما لا ينبغي لأحد أن يحيط به علماً وذوقاً إلا إذا ارتقى إلى مرتبة الإحسان ، وهي أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ..
لقد دأب مشايخ الصوفية في مجال التربية السلوكية والتهذيب النفسي والأخلاقي على وضع مناهج للعبادة يسير وفقها مريدوهم لكي يرتقوا إلى مصاف الرجال الذين يتمتعون بآذانٍ واعية وألسنةٍ داعية ومسامع صاغية وقلوب باصرة تعي ما تقرأ وتفهم ما يقال لكي يضعوه من حياتهم موضع التنفيذ ولكي يجلوا من قلوبهم ظلمات الجهل والمعاصي والكبر لأن كلام الله يستدعي من المسلم أن يكون على استعداد روحي وقلبي لكي يدرك مراميه البعيدة ومقاصده السنية…
إن مشايخنا الكرام أشد الناس تعظيماً لكلام الله عز وجل وتمسكاً بسنة نبيه الأكرم (صلى الله تعالى عليه وسلم) ، وهم حريصون كل الحرص على جعل مريديهم يسيرون على خطى الشريعة الإلهية والسنة النبوية ، وأن يستلهموا من شخصية الرسول الأعظم في كل تفاصيل حياتهم وسلوكهم اليومي .
إن التذوق القلبي لكلام الله يستدعي المزيد من العبادات التي تتمثل بالذكر الكثير وقيام الليل وكبح جماح النفس بالرياضات الروحية من جوع وصمت وسهر وعزلة لكي تحصل الفائدة من قراءة القرآن ، ويتحقق الهدف المنشود والغاية المرجوة ، ولنا في السلف الصالح من العلماء الربانيين القدوة الحسنة والمثل الأعلى حيث كان أحدهم يقرأ القرآن في ليلة واحدة ، فأي تذوق راقٍ واستنشاق لنسائم اللطف الإلهي واستشعار وتلقٍ للفيوضات الربانية ، وأي تحرر من سجن الماديات ورق للنفس وارتقاء إلى عالم الروح .
إن قوله تعالى ( لا يمسه إلا المطهرون ) يعني المطهرون من آفات النفس الباطنة وأمراض القلب المهلكة من كبر وعجب ورياء لأن هذه الأمراض هي حجب كثيفة تحجب القلب عن الإحساس بالخشوع لجلال الحق والشعور بقدسية الكلام ، ولأن القرآن كلام الله فإن من يقرأه هو في الحقيقة يخاطب ربه لذلك فإن من يقرأ القرآن وهو مكبل بآفات النفس والقلب فإنه يسيء الأدب مع ربه كما أنه لا يؤمن عليه من أن يجعل علمه بالقرآن مطية للوصول إلى أطماعه الشخصية وإشباع غرائز النفس كما قال الإمام الغزالي (رحمه الله) (( زيادة العلم في الرجل السوء كزيادة الماء في أصول الحنظل كلما ازداد رياً ازداد مرارة )) .
لم يكتفوا بالأخذ من علــم ظاهره….من فقه أحكام تجويدٍ وتدريـــسِ
بل آثروا الـغوص في قيعان أبحـره …..فجنوا جواهر فاقت ملك بلقيـسِ
بالقشر لم يرضوا للب الهــدى بدلاً…..ولا أساساً رأوا من غير تأســيسِ
أهل الحقيقة هم في العلم قد رسخوا ….أذواقهم كرسوها أي تكريــسِ
لم ينظروا أحـرف القرآن بل نظروا …..لمن له منزلٌ في عين تقديـــسِ
لذا من الظلم هم عـــدوا تلاوته…..بغير قلبٍ خلا من كل تدنيــسِ
لم يقرأوا آية إلا وضج لهــــا …..من هيبة كل عضوٍ بالأحاسيــسِ
أرأيت (قولا ثقيلاً)في جلالتـــه…..يرقى بقلبٍ إلى أعتاب قـــدوسِ
قد يرجى إطلاق بين الجدرِ من حبسا….وليس يرجى بفكرٍ طلق محــبوسِ
أس العبادة قلباً خاشعاً وجــدوا …للنفس يبقى رئيســـاً غير مرؤوسِ
للقلب قل قس إذا أفتاك مجتهــدٌ…..ولا تقل للنفس في فتوة قيـــسي
فالنفس تبغي قضاء الوطر من مـتع….والأمر بالسوء فيها شــر مدسوسِ
لا تهتدي العيس لو لم يهدَ حاديـها….والقلب كالحادي والأعضاء كالعيسِ
كم طائعٍ من خمولٍ عد ذا كســلٍ…..ومن رياء عد عـــاصٍ بقديسِ
يا صولة الحق عليّ شأن ســادتنا …..وفي بلادي رؤوس الفتــنة دوسي
المصدر :- مشاركة من الكاتب .