حسام مطلق
الإنسان كائن مؤمن قبل كل شيء
لهذا كثيرا ما بحث الإنسان عن الصحيح, والخير والشر. بل حتى في ممارسته للشر هو يصبغه بطابع أخلاقي لكي يستمر بتحقيق التوازن النفسي اللازم لمتابعة الحياة بإحساس إنساني ( نظرية لفرويد ) . ولهذا قام المصلحون وعبر الأزمنة بابتداع نظريات بعضها صيغ أساساً على شكل نظرية أخلاقية وحورته الأجيال اللاحقة إلى دين. وبعضه وضع أساساً ضمن قالبٍ ديني وذلك لسببين : الأول أن الدين كان العامل الأكثر جذباً للقواعد الجماهيرية التي يحتاجها كل مصلح,خصوصا في الشرق, فهو أولا وأخراً يسعى لإصلاح هؤلاء. والثاني ما يمكن أن نسميه باليقين الوهمي ( فرويد ) حيث تتداعى الوقائع لتؤيد نظرية النبوة حتى يمتزج في عمق المُدعي ما هو صحيح مع ما هو مأمول فلا يمكن للإنتاج الإنساني حينها إلا أن يكون مغايراً للحقيقة, ولو كانت الحقيقة هي أصلاً مقصد هذا المبدع.
إلا أن المراجعة الذاتية لأتباع كل دين كانت تقود إلى اكتشاف هذا اللبس, فيسعى المصلحون الجدد إلى تعديل المسار, ولا يكون أمامهم سوى طريقين : الأول هو التبشير بأنفسهم ( الحلاج: أنا الحق ) مقدمين بأنفسهم مثلاً جلياً على طبيعة النبوة غير الاستثنائية بأساسها. أو الاعتزال ومحاولة إشباع غريزة التدين عبر طقوس جديدة لا يصطدمون بها مع المجتمع دون أن يقروه على ما هو عليه . وهؤلاء هم من عرف بالمتصوفة . ولكن الحسم النهائي جاء عن طريق المنطق والمحاكمة العقلية. فالارتكاز إلى الفلسفة والمنطق, وخصوصاً في الغرب, حسم قضية النبوة بين النخب الفكرية. ولكن هذا الحسم يبقى ناقصاً وذلك لسببين : الأول أننا لسنا في مسابقة أو معركة والمطلوب هو تسجيل انتصار على الآخر, فالسبب الأساسي لظهور الأديان لم تتم معالجته ( غريزة التدين-الإصلاح ) والثاني أن هذا الحسم تم على صعيد النخب الفكرية فيما ما تزال أعداد كبيرة تؤمن بالأساس الديني ولكنها فقط تحررت من ممارسة الطقوس الدينية فيما ما يزال المحرك الأساسي لقراراتها السياسية والاجتماعية مرتكزاً على أسس دينية بحتة ومعلنة ( المسيحيون الجدد في الولايات المتحدة و إسرائيل ) .
إذن يمكن القول أن الفكر الصوفي, أو المحاولات الصوفية كانت بمثابة المحاولات الأولى للتحرر من الفكر الديني عبر تجسيد رمزي بسيط وهو التمرد على مبدأ النبوة أو فكرة النزول.
لذا عُدت الصوفية خروجا عن الدين لدى دخولها إلى الأديان جميعاً, ولكنها في ارتقاء بالفهم الإنساني الشائع للدين, فهي تجسيد لغريزة التدين الإنساني بعيداً عن القولبة المسبقة, وهي سير بالإنسان إلى طبائع الألوهية التي عليه أن يتمثلها لكي يحقق غريزة التدين .
ليس تمثل الطبائع الإلهية بإدعاء التأله بل هو في ممارسة سلوكية في الحياة اليومية تتوافق والوازع الداخلي الذي غالبا ما تمثله التعاليم الدينية تخت بند الاوامر الإلهية الموجهة للإنسان .أي أن الصوفية عبور فوق مرحلة شعائر خاصة وصولاً إلى النفح الإلهي.
كما أنها في مكان ما منها نقطة جامعة للاديان, بل هي توحيد عملي لشعار التوحيد الذي نادت به الرسالات السماوية جميعاً, وعودة بها إلى أصلها الداعي إلى ارتقاء الإنسان إنما بعثت لأتمـم مكـارم الأخـلاق. فالذات الأولى ( الله في الاسلام ويهوى في اليهودية والأب في المسيحية ) كحقيقة وجودية واحدٌ لدى كل أتباع الرسالات جميعها, ولكنه كفهم لهذه الحقيقة مختلفٌ عليه بين ثالوث مسيحي وإشكالية اسلامية وقبلية يهودية, مما جعل أسم الله مدلولا لايماء مختلف للمتلقي, كلٌ وفق تراثه, الكل يعبد ذات الذات ولكنه يدركها ادراكاً مستقلاً عن الأخرين ويشخصنها عبر اسقاطات مثيلوجية خاصة به.
وهنا تكمن عظمة الصوفية لأنها تسير بالمؤمنين إلى أفق آخر, إلى عالم الوحي الإلهي المباشر الذي عايشه الأنبياء ومن ذاك التعايش فهموا رسالاتهم , فهي معراج ذاتي أو وقفة خاصة في جبل النور. الفهم الصحيح للرسالات السماوية هو المفتاح لتطبيقها تطبيقاً ينسجم وجوهرها, أما تفسيرها وفقاً لظاهرها فإنه يحمل مخاطرة الإنزلاق العصبي لأنه يتأثر بالتباينات الإجتماعية وتقلباتها مما يقود إلى إلتباسات واضحة في فهم المقاصد الأساسية للرسالات.
فالفرق والطوائف التي مزقت أنصار الرسالات جعلت من الذات الاولى أشبه بشيخ قبيلة , جوده في أعماق أتباعها مرتبط بإنتصاره لهم انتصاراً سياسياً بالدرجة الأولى. وطبيعة هذا الإنتصار الممنتظر تُخرج الإيمان عن حقيقته المتمثلة في الحب المطلق بين الناس والسعي للخير والصلاح وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم أي التعارف لا الأمبراطورية هو اساس الديانة. إن الصوفية تنقل الإنسان في رحلة ذاتية بعيدة المدى, عمقها عمق الكون ولكنها في جغرافيتها لا تخرج عن حدود الأنا, إنها رحلة كشف الأعماق التي كلما مضت أبعد كلما اقتربت البادئ المحرك أكثر, وكلما اقتربت النفس البشرية من الذات الاولى التي هي مصدر الذوات اقتربت أكثر و أكثر من فهم مقصاد رسالات الدينية في جوهرها. التي هي في النهاية رسالة واحد وتعاليم من جاءوا بها هي ذات مقصد واحد .
فالكتب المقدسة هي تسجيل مفترض لكلام البادئ المحرك, ولكن الفهم الصحيح لهذا الكلام مرتبط لا بظاهر اللفظ بل بمعرفة طبيعة القائل وصولاً لفهم دوافعه لهذا الكلام. وهنا يبرز العنصر الذاتي في تفسير المقاصد, فتصبح الذات الاولى مجرد صنم مصنوع من اسقاط مباشر لاحتياجاتنا المحدودة والزمنية المبنية على الخوف والرغبات العاجزة. ومن يشك في ذلك عليه ان يلاحظ الارتباط المباشر بين مقدار المعرفة الجمعية لشعب وعلاقة تلك المعرفة بالذات المعبودة لديه وتصويرها في اساطير ذاك الشعب. الاسقاط على الذات الاولى دائما مرتبط بالمدرك المحسوس لا بالمجرد, وهو ما يجعل تلك الذات عرضة لتناقضات تعجز الالسنة الدينية عن الاجابة عليها بغير الجواب المشهور : ان الله اكبر من ان يدرك.
من تلك الاسقاطات صَنَعَتْ كل الطوائف والفرق الدينية على امتداد التاريخ الإنساني لنفسها إلهاً قبلياً ,هو أقرب إلى الآلهة التي آمنت بها الشعوب القديمة منه إلى الذات التي يفترض بنا عبادتها.
هذه الذاتية في الاسقاط جعلت كل الفرق و الطوئف مغلقة على نفسها غير قادرة على رؤية المشترك بينها وبين الآخرين فصارت تحاكم وتهمش وتدين وتجرم بدل أن تحقق القصد الأساسي من الرسالات وهو الحب والخير وتغليبه على كل العناصر الأخرى المحركة للسلوك الإنساني .
وهنا تبرز أهمية الصوفية في تصحيح فهم الديانات السماوية لأنها رحلة باتجاه واحد وبطريقة واحدة, لا يجتاز المتصوف فيها السماء ليلاقي ربه, ولا يحتاج إلى وسطاء, بل هي صعود عقلي إلى العمق الذاتي .
فالمعرفة الصوفية لله ذات خصائص ثابتة بين جميع الأديان لأنها معرفة ذاتية وليست فهماً موضوعياً لحقيقة خارجية ويتم الوصول إليها عبر الجزء المولد للصور في العقل ألا وهو المخيلة. فهي شيء يخلقه المتصوف في ذاته عمداً عبر تدريبات عقلية و جسدية محددة قد تتضمن ألفاظاً أو حركات هي من أدبيات هذا الدين أو ذاك ولكنها في حقيقتها ليست أكثر من وسيلة عبور لتحقيق تعالٍ ذاتي يؤدي في نهاية المطاف إلى رؤيا هي اقرب ما تكون إلى نزول الوحي .
تكون في أول مرة قهرية بحيثياتها ثم تصبح اختيارية, يستطيع المتصوف الولوج من خلالها في عالم الماورائيات كلما أراد ذلك وتبعاً للوقائع اليومية لحياته فيرى الحلول من خلال هذا التواصل المستمر بينه وبين علة الوجود.
هي رحلة تبدأ بفصل الذات عن المحيط ايعازاً ببدأ الغوص, عبر احساس بالسلام اللامتناهي الذي يقود وللحظات لا محدودة إلى السعادة المطلقة التي تعلو كل أشكال الأحساسيس التي قد تعتري الإنسان العادي. إنه ولوج في نفحات الإلوهية من خلال العبادة بمعناها المطلق لا يحققه المتصوف مالم يقم بفطام كامل ومنهجي عن انفعالات الاستعلاء و الجشع و الحزن و الغضب وكل ما يقيد الأنا بالعالم الكوني المحيط, إنه إبراز كامل للذات على حساب رغبات هذه الذات الدنيوية .
فرغبات الأنا تدخلنا في متاهات البحث الدنيوي الذي يعزز الفصل بين الطبيعة الروحية الالهية للانسان وماديته البشرية وذلك لصالح الأخيرة .
في حين أن كل ما تحتاج إليه للاتحاد مع علة الوجود هو الرحيل إلى ذاتك, ولكن ليس عبر رغباتها بل فوقها, متجاوزاً لها, رحيلاً بعد رحيل إلى أن يتحقق القصد . هذا الرحيل المتكرر ينمي الاحساس الروحي على حساب الرغبات المادية مما يجعل المتصوف أقدر على فهم الكتب المقدسة من الرجل العقلاني المعتاد في الحياة اليومية . فالرحيل المتكرر يحقق تصاعداً عقلياً منهجياً هو في حقيقته نزولٌ عقلي عميق إلى ما وراء العقل العادي السطي بغرض استنباط البعد الغيبي لهذا العقل المتسطح, أو بتعبير أخر هو اعادة تفعيل الذاكرة الوجودية لعقلٍ عطلته الانشغالات الدنيوية بجزئياتها المتكررة عن الاتصال مع ذاته و ادراكها . هذه الاستنباطات الذاتية التي يتبناها المتصوف لبلوغ غايته البادئ المحرك تقوده إلى حال من الوحدة الكونية عبرَ عودةٍ بالذاتِ إلى أصلها في مزج تام مع مصدرها لترميم العجز الذي اعتادته ذات المتصوف في حياتها اليومية .
والعجز هو سبب الشر كله. فالشر ناتج عن صراع داخلي بين الأنا المستعلية التي تدرك أصلها الإلهي وترغب في تحقيقه ولكن العجز يقف حائلاً بينها وبين الوصول الى مرادها, فتسعى لتسيس الآخرين لأغراضها مستمدةً من استغلالهم قوة اضافية علها ترمم بها العجز الذي تحس به, وهذا الاستغلال هو عنوان الشر الذي يقترفه البشر . أما المتصوف فهو يرمم عجزه بإدراك ذاته ومزجها مع مصدرها متجاوزاً بذلك الصغائر التي تحرك الأشرار. ولا يصل المتصوف إلى ادارك البادئ المحرك من رحلته الأولى, وهو قد لا يصل نهائياً, ولكنه في كل رحلة يشعر أنه يقترب أكثر. فيزداد بعد كل عودة سمواً وقدرةً على الحب, ويتحرك به دافعٌ يدفعه للمزيد من هذا الغوص, في عملية تدمير منهجي للأنا بإمتصاصها إلى الداخل حتى مرحلة الفناء الكامل, الذي يقود في لحظة تمامه إلى الإتحاد مع علة الوجود .
إلا أن هذا الإتحاد المنتهي بالفناء لا يقود إلى خروج المتصوف عن الطبيعة الإنسانية كما قد يتوهم البعض, بل هو انتقال انساني الى انسانية أكثر سمواً كما سبق التقديم. فهو لا يدمر القدرات الطبيعية العقلية للمتصوف بل هو يحققها و يسير بها إلى مقصد خلقها, ولعل هذا ما يفسر أن يكون المتصوفة هم أصحاب السبق في المطالبة بالتغيرات الإجتماعية نصرةً للفقراء و المساكين عبر العصور وفي جميع الأديان ودون تقيد العرق او القبيلة. إن هذه الريادة هي تعبير كامل عن الارتقاء بالفهم الديني من القبلي إلى القصدي, ألا وهو سعادة الإنسان . إن الله لا يأمركم بذبيحة ولكن يأمركم بالرحمة كلمة لنبي إسرائيلي كانت كل رسالته, هذه الجملة كانت القرآن الذي نادى به. أي أن الصوفية تنقل المتدين من الفهم الغوغائي للدين إلى التوحد و التوحيد وفقاً للقصد الأساسي للأديان . والصوفية ممكنة للجميع دون قيود على العقيدة الآنية السابقة للتصوف, بل القيد هو على طبيعة الذات المريدة للتصوف, فالتصوف يتحقق بشرطين الأول أن تكون مؤمناً لا ملحداً و الثاني أن تكون ذا مخيلة, ولاشك أن الشرط اللازم غير الكافي السابق لكلا الشرطين هو الإرادة .
1- ذا إيمان : لأن التجربة الصوفية تقودك إلى الفهم الصحيح للذات الاولى ولكنها لا تنشئ هذا الفهم, فالبادئ المحرك ليس ظاهرة فيزيائية يمكن البرهنة عليها بالقوانين العقلية الصرفة تمتلك الصوفية معادلاتها , إن الإيمان بوجود الذات الاولى مصدر الذوات جميعها يبدأ من القلب, ثم يناقشه العقل, وليس العكس .
2- ذا مخيلة : لأن المريد الذي يسعى للصوفية اذا كان ذا قدرة محدودة على التخيل قد يؤدي به ذلك إلى تعظيم المثيلوجيا على حساب القصد .
وهنا يقع مكمن الخطر في الصوفية لأنها لا تؤدي إلا إلى نهايتين حتميتين, إما إيمان سامي لا يرقى إليه من درج على تسميتهم بالمؤمنين عادةً أو إلى تعميقٍ للفهم الوثني ناتجٌ عن استحضار صورٍ مختزنة وفهم مسبق مصدره المثيلوجيا التي صنعهتا الفرقة التي ينتمي إليها هذا المريد .
فهو عندها الرب جالساً مع المسيح وقربهما مريم كأنهم اسرة واحدة إن كان مسيحياً أو أي صورة أخرى استحضرها من ذاكرته وفقاً لأساطير فرقته ولم تنشئها مخيلته انطلاقا من احساسه الوجودي المجرد.
والإنشاء هنا ليس صناعة لإله شخصي بل هو استنهاض للصور الفطرية للخالق فالذات الأولى لها اثر في كل ذات, هي في قلب كل مؤمن لا تسعني السموات والأرض ولكن يسعني قلب عبدي المؤمن.
وهذا التصور الإلهي ليس تصوراً مادياً كما قد يفهم البعض, فلا يكون الاتحاد أو الرؤيا بين الذات وبين والذات الاولى على شكل اتحاد مع رجل عظيم مهما بلغت عظمته واقفاً أمام المريد أو يخاطبه , فهذا كما سبق ذكره, هو اسقاط لذاتية ما مرتبطة بتاريخ أو ثقافة المريد . ولكن الاستحضار الحقيقي يكون عبر حالة من النشوة غير مسبوقة, دلالتها الاحساس بالسلام والسرور لا التصوير المباشر, هي احساسٌ بالاغتسال الروحي, بالطهر والتسامي . فنحن لا نستطيع أن نرى الذات الاولى ولكننا نحس بها كما تريد هي أن نحس بها وبالقدر الذي تحدده عبر ما اعطي لنا منها اساسا من ملكات .أما استخدامنا لتعابير مثل ( التخيل – استحضار الصور ) في سياق الحديث فهو ليس استخدام للدلالة المباشرة للكلمة بل هو لتقريب اللامادي إلى الفهم المادي.
المخيلة, إذن, ضرورية لأنها معيار العمق الإلهي للفرد. وهي ما يجعل من الإنسان أكثر سمواً من باقي المخلقات. كما أنها الوسيلة الوحيدة لادخال الذات الإنسانية في عالم المثل. فهي امتياز ان جمع مع العلم والقدرة على الحب صار فضلاً عظيماً ومن يؤتى الحكمة فقد أوتي فضلاً عظيما .
وهكذا نجد أن الصوفية دون سواها من نظريات الخطاب الروحي لا تضع قيداً مسبقاً لمتبنيها ولكنها تحاكي امتيازاً ذاتياً, فلا عبرة لدينك ولا عبرة لمنبتك ما دام بحثك هو عن الحقيقة. فليس ضرورياً أن تقيد نفسك بعقيدة وحيدة وتُكذب العقائد الأخرى, لأنك بهذا تفترض مسبقاً أين تقع الحقيقة, وكأنك بهذا تسير إلى الحقيقة بطريق دائري سوف يصل بك إلى حيث بدأت . كما أن كل الأديان مقصدها التدليل على الذات الأولى بل إن بعض ما نعتبره وثنياً صار وثنياًَ من تحزب مناصريه لأعرافهم القَبَلية عبر العصور, ولكن هذا لا يلغي سمو مقصده اصلا ,فلا بد أن يبقى بحثك عن الحقيقة ولا شيء غير الحقيقة خالياً تماماً من الأحكام المسبقة. هذه الحقيقة التي حين تتجرد من رغباتك الذاتية ترتسم لك بحرفين فقط انها الحب الذي عليه أن يحركك ويقودك في كل سولكياتك. وبادراكك للحب وسيطرته على أفعالك يصبح فهمك لمرتكب الخطيئة فهماً مختلفاً وحكمك عليه صادرٌ عن قصدٍ أخر هو غير الانتقام حتماً.
فمتى بلغت ذلك تكون قد ولجتَ الصوفية من بابها الذهبي واستطعت ان تفهم مقاصد الأديان . أما كيف تبدأ المشوار, فإن له مرحلة سابقة لمرحلة الغوص الى الأعماق, تسمى الإنقسام الذاتي. حيث تجعل من ذاتك ذاتين, الأولى تتابع مسار حياتك المعتاد فيما تكون الأخرى رقيباً عليها .
في البداية لا يتجاوز الأمر الرقابة والتقييم لردود أفعالك وسلوكك الإجتماعي , اذ سرعان ما سوف تبدأ الأنا المراقبة بتقريعك على أفعالك وذلك وفقاً للمعاير الأخلاقية التي تنتمي إليها اجتماعياً وعقائدياً لذلك يمكن أن نسميها مرحلة التقيم الذاتي. ولا يشترط أن تكون المعايير الأخلاقية التي تنتمي إليها مثالية أو صحيحة, بل هي حتماً قَبلية صرفة, ولكنها تحقق الغرض المرحلي ألا وهو تقييد الذات بالنظم الإجتماعية. كما أنك في مرحلة متقدمة أخرى من الانقسام الذاتي سوف تجد نفسك مستاءً من كل ما هو حولك بفعل التقريع المستمر من الذات المراقبة للذات الفاعلة, وتبدأ شيئاً وشيئاً بدفعها للانفصال عن المحيط الذي تجذرت فيه سلوكيات قبلية صارت مرفوضة من الذات الفاعلة ايضا نظراً لتغير الزاوية التي صارت ترى منها الوقائع بتغير دوافعها. أي بعد أن كانت الأحكام القبلية تحرك سلوكك أصبح حب الخير هو ما يحرك أفعالك, و هذه المرحلة سوف نطلق عليها أسم مرحلة السقوط القَبَلي . هذا النفور سوف يقود تلقائياً إلى حال من المراجعة شبيه بالمرحلة الأولى التي أسميناها مرحلة التقييم الذاتي, ولكن التقييم هذه المرة هو ليس للذات بل للمحيط وقيمه انظلاقاً من معايير قِيَميّةَ جديدة مصدرها الفطرة يولد الرجل على الفطرة فأبواه يهوداه أو ينصرانه . فالإنسان يختزن بداخله وفي منطقة بالغة العمق قاموساً وجودياً يساعده على تفسير الظواهر الخارجية وهو بوصلة توجهك لطريق الخير وسبل السعادة, إلا أنه وكما سبق القول فإن الإنشغالات المستمرة بمتطلبات الأنا تطمس على هذا القاموس وتُكثر من السواتر بينه وبين الوصول إلى السلوك اليومي للإنسان. وليست عملية الإنقسام الذاتي إلا وسيلة لازاحة تلك السواتر لتمهد الطريق بين النفس و الحقيقة. وهنا نحن لسنا بصدد اتباع الهوى, فأنت لن تتجاوز المرحلة السابقة, أي مرحلة التقييم الذاتي, مالم تكن باحثاً صادقاً عن الحقيقة. اذ سرعان ما سوف يفتيك قلبك بها الأثم ما حاك في نفسك وكرهت أن تطلع الناس عليه . وهكذا سوف تصبح ذاتك الفطرية والتي قوامها القاموس الوجودي هي الموجه الحقيقي لكلا الذاتين اللتين إنقسمت إليهما سابقا, وتكون عندها قد أنجزت مرحلتين الأولى هي مرحلة الانقسام والثانية هي مرحلة الاتحاد مع الذات الفطرية .
باتمامك لمرحلة التوحد مع الذات الفطرية تكون قد خطوت أهم خطواتك نحو الصوفية. فما سبق هو رحلة اصلاحٍ ذاتي, وهي أساسية, تشبه الى حد كبير مرحلة الكمون التي يعيشها الأنبياء قبل نزول الوحي عليهم. وهذه الرحلة قد تستغرق منك سنين فلا تيأس لأن الإرادة شرط لازم للمريد . من الضروي أن ترتفع خلال المرحلتين السابقتين السوية المعرفية للمريد ارتفاعاً مميزاً , نعم إن الذات الأولى لا يمكن إدراكها من خلال الفهم العقلي المجرد, ولكن لممارسة الصوفية انت بحاجة الى تعلم الفكر النقدي ومبادىء الفلسفة كي لا تصبح تجربتك فوضوية. وهذا التعلم بدروه لايقوم الا على معرفة واسعة ولو غير عميقة لمجمل العلوم . فلا قيود بدايةً على نوع المعرفة, بل المصلحة تتطلب تنوعها تنوعاً قد يبدو لأول وهلة أهوجاً, ولكن كل تلك الغوغاء المعرفية سرعان ما سوف تصيغ الأسئلة التي للاجابة عليها تُستَنهَضُ المخيلة الوجودية من سباتها العميق, ومتى بدأت الأسئلة بدأ البحث عن الإجابة.
هذا البحث, بحكم الإرادة والقصد, سوف يكون مرتكزاً على أساسٍ من القيم الأخلاقية الفطرية والفهم العام للكون, تسانده قاعدة معرفية لمبادىء الفلسفة والفكر النقدي, وإن كان بشكل متدرج, فالصوفية غرضها الوصول النهائي للحقيقة وليس الامتناع الفوري عن الخطيئة. أما عمق التجربة الصوفية فمرتبط بالمميزات الخاصة لذات المريد . ويبقى السؤال كيف تصل لأعماق ذاتك؟. بعد الاعدادت السابقة يكون كل شيء مهيء لرحلة الغوص الذاتي, وهنا يأتي دور الشعائر, وقد قلنا بداية ان الصوفية هي عبور فوق مرحلة الشعائر ولكن من خلال شعائر خاصة وصولاً إلى النفح الإلهي .
أما متى يبدأ أول غوص فهذا أمرٌ لا يقرره أحد لك بل تجد نفسك فيه إن كنت ذا ارادة صلبة .
_________
المصدر : موقع الحوار المتمدن.
http://www.rezgar.com/debat/show.art.asp?aid=79037