عادل أبوطالب (كاتب من مصر)
تحمل التجربة الصوفية كتابة ومعايشة ثراء غير محدود، ويمثل التراث الصوفي دليلا قاطعا على قراءتها وتميزها واستمرارية عطائها. كونها -هذا التجربة – موصولة وممتدة في الزمن والمكان الانسانيين، تراثية ومعاصرة في ذات الوقت، وكون نتاجها ايضا يؤثر تأثيرا مباشرا على الحركة الحضارية والثقافية وفعاليتهما.. وقد حظي التراث الصوفي على مدار التاريخين القديم والحديث باهتمام يتوازى مع التراث الاسلامي الذي تنبني عليه أو تنطلق منه الى رؤية الصوفية عامة، هذه الرؤية شديدة التمايز في بنائها بكل مستوياته، أيضا في قراءة لدين والعلاقة بين العبد وربه، والتصوف كما يقول الامام القشيري “لا يصطدم مع أي مبدأ من مباديء الشريعة.. فإذا اصطدم مع الشريعة لم يكن تصوفا”.. لذا يمكننا الجزم بأنه لا يكاد يخلو تراث بلد عربي من كاتب او شاعر أو مفكر أو شيخ صوفي. ومنذ مطلع هذا القرن، ومع حركات التجديد والتثوير كان ثمة احتفاء خاص باضاءة الجوانب الخافية في التراث الصوفي العربي، فحققت العديد من الكتب الهامة لرجالات الصوفية الكبار شعراء، وكتابا،وقد اعتمدت الحركة الشعرية الحداثية العربية في تحرير رؤيتها لمفهوم الشعرية مرتكزة على هذا الارث الصوفي الكبير الذي خلفه لنا امثال الشيوخ الأجلاء بن عربي، السهروردي، الحلاج، النفري، القشيري، الغزالي، رابعة العدوية، البصيري، ابن الفارض، الجيلاني، الجيلي، وغيرهم من اقطاب الصوفية.، وقد استفاد شعراء مثل أدونيس ونازك الملائكة والسياب وصلاح عبدالصبور، ومحمود درويش، وغيرهم من الأجيال التي تلت رواد الحداثة الشعرية العربية هؤلاء، وحتى اليوم.. استفادوا على أكثر من مستوى خاصة على المستوى اللغوي وتشكيل العالم وطرائق وتكنيات الكتابة، وربما ظهر ذلك جليا وواضحا في استفادة أدونيس من النفري والحلاج وابن عربي. من هنا تاتي اهمية القراءات البحثية التي قدمها كل من أ.د محمد زغلول سلام استاذ الادب العربي بكلية الآداب جامعة بنا، و أ.د. الطاهر مكي أمتاز الادب العربي بدار العلوم جامعة القاهرة، وأ.د. سعد دعبيس أستاذ اللغة العربية بجامعة عين شمس، في “الشعر في الحب الالهي” من خلال تحليل اعمال ثلاثة من شعراء الصوفية الكبار وهم رابعة العدوية، ابن الفارض، ابن اللواح الخروصي، وذلك في الحلقة النقاشية الخامسة لـ”صالون الخليل بن أحمد الفراهيدي- الثقافي. و التي أدارها أ.د. مصطفى الشكة أستاذ بآداب جامعة عين شمس، وافتتحها مخالي السيد عبدالله بن حمد بن سيف البوسعيدي سفير السلطنة لدى مصر ومندوبها الدائم لدى جامعة الدول العربية وراعي فكرة الصالون في يناير الماضي.. ويأتي هذا في إطار إضاءة الجوانب التنويرية في التراث العربي من المحيط الى الخليج، الأمر الذي تحققه حلقات الصالون الذي يحمل اسم علم من أعلام الثقافة العربية قديما وحديثا.. ومن المنتظر ان يلتقط صالون لحلقاته القادمة – كما أكد راعيه – نقاطا هامة في الثقافة العربية. وانطلاقا من أهمية هذه البحوث، التي قدهما الصالون خلال أستاذة متخصصين في الأدب العربي، سوف نحاول التواصل معها تحليلا ورصدا لما قدمته من رؤية نرجو أن تضيف شيئا للقراءات النقدية السابقة عليها وهي كثيرة وهامة، والتي تناولت الإرث الصوفي من كافة زواياه. وباديء ذي بدأ نتعرف على مفهوم التصوف كمصطلح، ذلك أن هناك اختلافا حول هذا المفهوم، فضلا عن اتساع دائرة تعريف التجربة الصوفية الذي أوجزه د. سعد دعبيس في بحثه “نظرات في التجربة الصوفية في شعر الشاعر العماني: اللواح” بقوله “أنها حالة روحية يتصل فيها العبد بربه اتصال المتناهي باللامتناهي، وهي تجربة لا تخضع لمنطق العقل الواعي وقوانينه، وإنما هي حالة من حالات الوجود الباطن، لها رموزها الخاصة، ومن ثم فهي، غربة روحية، واعتزال لعالم البشر”، وليس هذا التعريف للدكتور دعبيس ببعيد عن التناول الذي اتخذه زميلاه د.سلام، ود. الطاهر مي في رصدهما لجماليات الابداع الشعري لدى رابعة وابن الفارض ولكن ربما اختلاف مناهج البحث هو ما أدى الى التفاوت في الرؤية المنهجية لتطبيقاتهم على الشعراء الثلاثة، فبينما توقف د. الطاهر مكي عند تفاصيل الرحلة الصوفية لرابعة من ولادتها الى اكتمالها كاشفا عن مشاهدات هامة في تطور علاقة رابعة بالمولى عز وجل، توقف د. سلام عن السمات الأدبية في شعر بان الفارض، كذلك د. دعبيس الذي دخل الى شاعره بالتعرف الى مفهوم مصطلح التصوف والرمز لدى الصوفية، والتجديد والحداثة في صياغة الشعر الصوفي وقد وضع هذا المدخل النقاط على الحروف في كثير من التساؤلات التي تثار لأول وهلة عند مناقشة الشعر الصوفي، وربما كان في رأي د. دعبيس حول كون الشعر الصوفي أشبه بثورة في الموقف والتشكيل، وأبرز ما تتضح هذه الثورة التجديدية في اللغة التي يستخدمها هؤلاء الشعراء المتصوفة، الأمر الذي يؤكد تراثية وحداثية التجربة الصوفية في نفس الوقت، والتي اتكأ عليها شعراء الحداثة الشعرية العربية. لذا كانت هناك أهمية للوقوف على ذلك العالم واكتشاف قوانينه ورموزه ومفاتيحه.. وأول هذه القوانين ينكشف في قول د. الطاهر مكي عن رابعة العدوية “إنها أول من تكلم عن الحب الالهي، وهي التي أدخلت هذا المعنى في التصوف الاسلامي، بالمعنى الحقيقي الكامل للحب. لا مجرد التعبير عنه بالألفاظ تعبيرا ظاهريا. إن الشعرية الصوفية إذن تنطلق من صدق خالص مع الحالة ويأتي منهج الشاعر العماني “ابن اللواح الخروصي” مختلفا الى حد كبير عن منهجي رابعة وابن الفارض حيث مزج منهجه الصوفي الشعري بالمنهج الاجتماعي، ويرى د. دعبيس أنه “دعا الى اصلاح المجتمع، ومقاومة الفساد، وانطق محذرا مدينة حبيبة الى قلبه، وهي مدينة “نزوى” داعيا أهلها الى الابتعاد عما يخالف شرع الله. لتعود هذه المدينة العريقة في التاريخ والعلم والحضارة الى صدارتها، وأمجادها القديمة. يبدو ذلك في هذه القصيدة التي أشعلتها عاطفته الوطنية، وغيرته الاسلامية، وتمتاز بتجديد في أسلوبها، إذ نجد معجمها اللغوي والتعبيري سهلا بسيطا غير محشو بغريب اللفظ، وغير معقد التركيبن ولم تجيء محسناته البلاغية مصطنعة بل انسابت كما تنساب افلاج الماء في عمان دونما شوائب يقول (اللواح) في هذه القصيدة ناصحا أهل “نزوى”:
ألا هل مبلغ تمني رجالا
نصيحات.. وبورك من رعاها
فإني “صالح” لكم نذير
وهي “ناقة الله” وماها
أطيعوني واوبوا عن طريق
تؤول بكم بشر منتهاها
عهدنا قبل ذا “نوى” حصانا
عفيف الذيل تنبل من رناها
وكم فيها عهدنا من رجال
تخف الشم وزنا عن حجاها
فأين الصالحون ؟ أما قليل
قلى الدنيا وواصل من ملاها
وعلى مستوى السمات الأسلوبية فإن د. سلام يرصد في شعر ابن الفارض استخدامه بكثرة للمحسنات البديهية التي تجيء على طريقة أهل عصره،المعبر عنها وليس من مجرد رصد ظاهري بالألفاظ.. وهذا الصدق هو الذي جعل أبيات رابعة التالية تظل على مدى قرون عديدة ملء السمع والبصر و الفؤاد..تقول:
أحبك حبين: حب الهوى
وحبا لأنك أهل لذاكا
فأما الذي هو حب الهوى
فشغلي بذكرك عمن سواكا
وأما الذي أنت أهل له
فكشفك للحجب حتى أراكا
فلا الحمد في ذا، ولا ذاك لي
ولكن لك الحمد في ذا وذاكا
واذا كانت رابعة قد عبرت من حبها متجردة ومتسامية عن كل ما هو حي فقد عبر ابن الفارض – كما أشار د. سلام في بحثه – عن هذا الحب والوجد الالهي بصور شتى من التعبيرات التي استعارها من شعراء الحب العذري أحيانا، وتمثله وقد ملك عليه الحب كل قلبه، وغيبه عن كل شيء إلا عن محبوبه الذي لاقى في سبيل الاتصال به والاتحاد معه ما يحتمل وما لا يحتمل من أهوال وتباريح.. وقد لب بسطان العاشقين لقوله:
يحشر العاشقون تحت لوائي
وجمع الملاح تحت لواكا
وعن جانب آخر صاغ أبن الفارض وصف محبوبه في تعبيرات حسية اختارها من أوصاف الخمر وكؤوسها ومجالسها، لكنه كما يقول د. سلام في بحثه – يخرج بها الى المعاني المطلقة، يقول ابن الفارض:
شربنا على ذكر الحبيب مدامة
سكرنا بها من قبل أن يخلق الكون
لها البدر كأس وهي شمس يديرها
هلال وكم يبدو إذا مزجت
ولولا سناها ما تصورها الوحي
ولولا شذاها ما اهديت لحانها
وكذلك الجناس بألوانه التام والمشابه والمخالف، والمذيل والمركب، هذا على مستوى الصنعة اللفظية، أما صنعته المعنوية فانها تدور حول التشبيهات والاستعارات التي عرفت في شعر الغزل والخمر في الأدب العربي القديم. ويشير د. دعبيس الى الظواهر اللغوية في شعر ابن اللواح وأبرزها غرامه بغريب اللفظ، وميله – أحيانا- الى استخدام لهجات غير شائعة، واستخدامه لبعض الضرورات أو الضرائر الشعرية، وهي في ضرورات أباحها علماء العروض، كاستخدامه المقصور، وقصر الممدود، كذلك استخدامه ظاهرة التكرار لتأكيد فكرة معينة. وبناء القصيدة سواء كان عند ابن الفارض أو ابن اللواح يشبه البناء التقليدي للشعر العربي، وربما يبدو ذلك أكثر وضوحا عند ابن الفارض ولكنه كما يقول: د. سلام يكتفي منه بالمطلع أي الجزء الخاص بالنسيب، ومه ذلك فهو لا يتبعه تماما، وكذلك جارى ابن الفارض من سبقه من كبار شعراء العربية في نهج القصيدة ووزنها ورويها أحيانا، وله القصيدة الدالية جاري فيها المتنبي، واستخدم كل قوافيها.. قال المتنبي:
أساور أم قرن شمس هذا
أم ليث يقدم الأستاذا
وقال ابن الفارض :
صد حمى ظمئي لماك لماذا
وهواك قلبي صار منه جذاذا
ويتضح لنا من هذا الاستعراض أن التجربة الصوفية على اختلاف ألوانها مشحونة بزخم روحي ضمن لها التردد ملء السمع والبصر والوجدان في قلوب المحبين الى يومنا هذا، فلا تزال أشعار رابعة تشدو بها القلوب المحبة، وكذلك أشعار ابن الفارض التي لا تغيب عن عيون الصوفيين، وهكذا أيضا مع الشاعر العماني ابن اللواح.. كل ذلك يحدث على مستوى عامة الناس من الصوفيين والمحبين، أما الشعراء والمبدعون والمفكرون فقد أخذتهم هذه التجربة الى أبعد من الانجذاب إليها وعشقها ودراستها ووضعها موضع التامل والبحث، حيث أثرت على تجاربهم فأدوا منها وما زالوا يتعاملون مع منابعها التي لا ينتهي ثراؤها.
____________
المصدر : موقع نزوى .
http://www.nizwa.com/browse15.html