د. جعفر عليوي
ان أي مطلّع على اعمال الشيخ الجيلاني سيلاحظ بوضوح حرصه الشديد على تقديم نظرية صوفية متكاملة ، تجمع في جنباتها بين العمل والنظر ، الظاهر والباطن ، العقل والقلب ، الحقيقة والشريعة . وهذا باختصار هو جوهر المنهج الصوفي عنده . فالانسان وفق هذا المنهج يجسد وحدة متكاملة متعددة الأوجه والتطلعات والمواهب والملكات بحيث لا يمكن الفصل بين هذه ( الاطراف ) الا لغرض الدراسة والفهم او بسبب تعسف البعض وقصر نظرهم . فمما لا شك فيه ان الانسان لا يمكن ان يعيش بروحه فقط دون جسده او ان ينظر اليه باعتباره عقل محض مجرد من العواطف او باعتباره رزمة من الغرائز والميول التي لا يضبطها ضابط قيمي او فكري او عقدي .
ومن هذا المنطلق يمكننا القول ، ان أي فهم محدود او ممارسة محددة للمنهج الصوفي يُعّد صحيحاً في حدّ ذاته ولكن معناه يضيق عن احتواء هذه الصحة فيما لو ادعى لنفسه تعسفاً ، حيازة الحقيقة كلها . ولعل هذا القول ينطبق نوعاً ما على بعض التيارات الاشراقية ذات الاصول الفيضية ممن تقصر النهج الصوفي الواسع الثراء والتنوع على جانبه الفكري فقط ، مدّعية ان لا سبيل للتواصل مع انوار الحقائق الالهية الا عن طريق العرفان والترقي في مدارج العقل والاتصال الفكري بالعوالم السامية .
ولا يخفى على المطلعين ما لهذه ( النظرية ) من اتصال بنظرية الفيض الالهي ، التي تبناها بعض رواد الفلسفة الاسلامية من امثال ابن سينا ( 980 – 1037 م ) الذي قال في كتابه ( الاشارات ) ان المتأمل ( العارف ) الذي بلغ اعلى مرتبة من المعرفة يصل الى الاتحاد العقلي مع الله عن طريق الادراك الحدسي وكذلك الفارابي ( 780 – 950 م ) الذي ذهب الى ان معرفتنا بالله عن طريق الاستلال من الموجودات التي صدرت عنه اوثق من معرفتنا به معرفة مباشرة لان العالم يجيء صدوراً عن الله في صورة فيض . فمرتبة تفيض عن المرتبة الاعلى منها وهكذا حتى نصل الى ادنى المراتب .
وفي العموم فان هذه النظرية هي ذات اصول اشراقية اوغسطينية افلاطونية ترجمت اصولها الى اللغة العربية ، ونسبت خطأ الى افلاطون ثم وجدت لها هوىً وصدى واسع في نفوس بعض مفكري الاسلام وذلك لملاءمتها الظروف السياسية والعقائدية التي سادت المنطقة انذاك .
في الجهة المقابلة نجد ان هناك الكثير من ذوي التوجهات الصوفية ممن حاولوا ان يقصروا الطريق الصوفي على جوانبه السلوكية العملية فقط مدّعين عجز العقل وضآلة الافق الفكري عند الانسان . اذ ليس المطلوب من العبد الا تركيز الاهتمام على الجوانب العاطفية ( الجوانية ) فيذل نفسه ويرهق جسده كي يترك الطريق بعدها مبعداً امام معراج الروح صوب مقصدها الاسنى .
الشيخ الجيلاني من جهته ، عمل جاهداً كي يجمع كل الخيوط الصوفية الشرعية منها والعقائدية والعقلية والقلبية والسلوكية في نسيج متجانس لا يستغني بعضه عن بعض الا ويفقده هذا الاستغناء معناه او الغاية المرتجاة منه . وسنحاول هنا كمدخل للموضوع ان نقدم بين يدي القاريء ملاحظات عامة عن التصوف اريد لها ان تشكل قفزاً على بعض ماعهدته الدراسات الصوفية المتاحة و التي اغرقت نفسها في سرد مكرر لنظريات جاهزة ، سواء منها مانسبت لقدماء او محدثين ، عرب او مستشرقين ، وهي في اغلبها كانت مصحوبة بكثير من التلفت غير المبرر لما يسمى بمنابع واصول التصوف الاسلامي ، وهو تلفت اريد منه ابتداءً ارجاع نسبة التصوف الى اية امة او دين او حضارة ، سوى الامة الاسلامية او الدين الاسلامي او الحضارة الاسلامية .
وهو توجه استشراقي معروف بقدر ما يعاب السائرون على خطاهم من الباحثين المسلمين ، باعتبار ان الفريق الاول تحكمه توجهاته الاستعمارية والحضارية ، بينما الفريق الثاني لا عذر له الا تبعيته غير المشروطة وتقبله لكل ما يرده من ( الاخر ) بغثه وسمينه . ان مجمل هذه الملاحظات تدور حول ضرورة التميز النوعي بين التصوف الاسلامي المعروف بطرقه ونظرياته ومدارسه وارثه الادبي والروحي وبين غيره من انواع المدارس الروحية التي لا يخلو منها زمان ولا تفتقر اليها امة من الامم . وهذه المدارس هي في وجهها الاول تمثل نزعات تنسكية تكون في اغلب الاحيان مصحوبة بانواع من الرياضيات المقرونة بتقشف وعزوف عن مباهج الحياة وملذاتها . واما الغرض من ذلك في اغلب الاحيان فهو : تقوية الانسان داخلياً عن طريق اذكاء ملكاته العقلية الخاصة وتطويع إمكاناته الجسمية والنفسية لغرض زيادة قدرته على تحمل اعباء الحياة وتجاوز الكثير من مصاعبها ، وهو ما يسمى في علم النفس الحديث بالقدرة على التسامي او هو بمعنى اخر يمثل خطاً من خطوط الدفاع النفسي في وجه القهر الخارجي بكافة صوره المختلفة .
ومن هذه الزاوية يمكن ان يشكل ( التصوف ) ظاهرة انسانية عامة لا تنفرد بها امة دون اخرى . وهو كذلك معروف عند اكثر شعوب الارض ، سواء التي تدين منها بالديانات السماوية او غير السماوية ، كالهندوسية التي يؤمن اتباعها بالفناء المطلق او عودة الاتصال مرة اخرى بالكون وهو ما يسمى عندهم بالنرفانا ، والكونفوشيوسية التي اكدت على التطهير الروحي والسيطرة على الغرائز واطلاق العنان للقوى الداخلية الكامنة في الانسان .
التصوف هنا ايضا يمكن ان يُعَّد ثمرة من ثمار النضج الانساني وعلامة من علامات تكريم الذات وصدق الانسان في بحثه عن حقيقة خلقه والهدف من وجوده ، او هو ناجم عن شعور الانسان الغريزي واحساسه الفطري بوجود عوالم علوية سامية . وان وجوده في الحقيقة يمكن ان يكون اكبر او اكثر من هذا الحيز المادي الذي يشغله ، هذا الى جانب احساسه بوجود حقيقة متعالية تقف وراء هذا الوهم او الارتباك الذي يتخبط فيه ، وهو ما يدفعه الى ان يسلك طريقة في العيش اقل ما يقال عنها هو : انها كسر للاعتياد وخرق للمعتاد وفي ذلك مافيه من تضمين لهواجس دفينة مغروسة في اغوار النفس البشرية .
اما وجهها الثاني فيمثله التصوف في الديانتين السماويتين ، وهو تصوف قديم قدم هتين الديانتين ، ولعل خير من يجسده ويقربه الى اذهاننا هو : القديس اوغسطين ( 354 – 440 م ) الذي قال : ان الحقيقة واحدة وهي الهية ، بل هي في الواقع الله عينه ، وان الوصول اليها هو السعادة ، و بمعنى اخر فان السعادة هي الاستمتاع بالحقيقة ، اما الوسيلة الى ذلك فهي الحكمة ، أي المعرفة بالشيء المطلوب والرغبة فيه ، وان التقدم في طريق الحكمة ما هو الا حركة عقلية يتجه فيها العقل الى الباطن ( الاستنباط ) والى اعلى ( التأمل ) نحو الله في القمة والمركز . وهو انفتاح العقل لاشراق الحقيقة التي لا تتبدل تلك الحقيقة التي تتخذ مكانها في الباطن وفي العلا . ومن الميسور ان نعاين دائماً تلك الحقيقة على شريطة ان تكون البصيرة قد زكت بالايمان .
ومما سبق يمكننا ان نحدد ابعاد المنهج الذي اتخذه هذا التصوف لنفسه ، وهو منهج عقلي تأملي استنباطي ، يتخذ من الحكمة والمعرفة الفكرية سبيلا للتواصل بين الداخل والخارج او الاسفل والاعلى ، او النسبي والمطلق او الانسان والله . وبما ان التجربة الصوفية هنا احتكمت حصريا الى هذا المنهج ، فهذا سيجعلها بالضرورة تجربة نخبه يختص بها اهل المعرفة دون سواهم من عموم الناس التائقين للتواصل مع العوالم السامية .
التصوف الاسلامي من جهته ، وكما يجسده بوضوح الشيخ الجيلاني لا يتخذ لنفسه سبيلاً واحداً ، بل هو يتحرك وفي وقت واحد وفي الشخص عينه ، على كافة الصعد ، لان غايته الاساسية هي السعي الى تغيير حياة الانسان بمفهومه العام تغيراً جذريا من حيث طريقة عيشه وصور عبادته واساليب تعامله مع الاخرين ، لا بل ان التصوف الاسلامي يرمي الى اكثر من ذلك ، اذ هو يسعى الى احداث تغيير في توجهات النفس الانسانية ذاتها . من حيث ميولها واهوائها قصد توجيهها صوب اهداف مفارقة يقف في مقدمتها حب الله تعالى واقامة اساليب الاتصال به وهو تواصل لا يترفع قاصده او بالغة عن تحقيق التواصل مع بقية الخلائق والعوالم والاكوان .
ان التصوف الاسلامي ظلّ عبر سلسلة شيوخه المتصلة ، وفياً لمنهجه الاصلي الذي وضعه الرّواد ، كما انه ظل ملازما ايضاً لاساسه الشرعي خطوة بخطوة ، بحيث يمكن القول ان أي انحراف او غلوّ او مروق او اسقاط للتكاليف ، لم يكن قد دخل على المنهج الصوفي عن طريق شيوخ هذه السلسلة ، وانما عن طريق بعض المتسللين الى قلاع ( القوم ) ممن حاولوا استغلال لون الرداء الصوفي المقبول اجتماعيا ، كما حاولوا ذلك بوجه عام مع بقية مفاصل الارث الديني والعلمي والقيمي للاسلام . واضافة الى ذلك فان هذا التصوف الاسلامي ( بخطه ) الشرعي ، هو غير المذاهب او النحل السرية او الاتجاهات الغنوصية و الباطنية .
ان التصوف الاسلامي يعدّ منهجاً في السلوك والتربية يستمد مبادئه من السراج المحمدي ، ويراد من خلاله الترقي بالانسان الى مستويات عليا مع الحفاظ على الصفات البشرية المغروسة في اصل الفطرة والتي يظن البعض انها تتلاشى مع الترقي في مدارج السلوك الصوفي .
ان التصوف عند الشيخ عبد القادر الجيلاني ، يسعى الى اختصار الطريق الذي يوصل العبد الى مولاه عن طريق النزاهة والاستقامة والالتزام بالذكر المستدام والمواضبة على العبادات الصحيحة ، وايضاً عن طريق تبني مباديء اخلاقية سامية تحث على افعال الخير والصلاح وعلى التحلي قدر الطاقة بجميع الخصال الحميدة ، وتنهى في المقابل عن كل ما يخالف ذلك . وهو يُعد ايضا عملية ترقٍ وتسامٍ روحي وليس عملية امحاء او تماهي كما يريد ان يرى فيه بعضهم ، فمقام الفناء عند الشيخ الجيلاني ليس له علاقة بالمحو المطلق ( النرفانا ) ، فالاول ايجابي يهدف الى تجاوز الوجود الانساني الوهمي الى الوجود الاصلي عن طريق امحاء الصفات الذميمة واحلال الصفات الحميدة محلها . وهو عكس ما نراه في ( الثاني ) حيث ينعدم الهدفين الاجتماعي والاخروي وذلك لان محطته الاخيرة هي التلاشي والاندثار ، او الذوبان التام في الكون المطلق .
يعد الشيخ عبد القادر امتداداً طبيعياً لسلسلة مشايخ التصوف الاسلامي ، من الذين شيدوا نظرياتهم الصوفية على اساس شرعي متين ، فقد كان يرى في السلوك الصوفي محاولة لاعادة الروح الى سيرتها الاولى قبل طغيان طوفان الحياة والغرق في اغوار الجسد ، و بهذا المعنى فالفعل الصوفي عنده ، فعل قصدي يمارسه الانسان عن ادراك ودراية وعن ارادة ووعي ، فهو ليس كما يدّعي بعض المحدثين والمستشرقين ، نتيجة انحسار الوعي او انكسار في النفس او ردّ فعل مباشر ضد انواع القهر الاجتماعي انه هاجس فطري مغروس في النفس ، وهو يتفاوت شدة وضعاً بين انسان وآخر .
التصوف عند الشيخ عبد القادر مأخوذ من المصافاة والصوفي يعني العبد الذي صافاه الحق عز وجل ولهذا قيل : الصوفي من كان صافياً من آفات النفس ، خالياً من مذموماتها ، سالكاًُ لحميد مذاهبه ، ملازماً للحقائق ، غير ساكن بقلبه الى احد من الخلائق . والتصوف ايضاً هو نور في القلب وصفاء السّر والنطق بالحكمة . وقد عرفنا معنى الجزئين الاولين ويبقى الجزء الاخير هو : النطق بالحكمة ، وهو جزء له تتعلق بارتباط الصوفي بمجتمعه ، وهنا يحاول الشيخ الجيلاني ان يسلط الضوء على دور الصوفي الاصلاحي بين الناس ، فالتصوف اذا كان مشتق من الصفاء ، فهو اذن فعل لا يمكن تنضيده بالكلمات والنظريات الخيالية ، بل هو بناء عملي مأخوذ من مخالفة النفس والهوى والشهوات . كما انه لا يجيء بالدعوى الكاذبة والتمني المبني على الخمول وحمل الاسماء والالقاب التي يفرح بها العوام ، وكذلك لا يأتي بتغيير الخرق دون القلوب ولا بتصفير الوجود دون البواطن ولا يأتي بلقلقة اللسان ، وانما يجيء بالصدق والاخلاص والذكر وترك الرياء ومعادات الاهواء . وكما نرى فان الشيخ عبد القادر ، سدّ كل المنافذ غير الشرعية واحاط التصوف بسور منيع لا يمكن اختراقه الا من منفذ واحد ، وهو منفذ الشرع والعبادة والعمل والذكر .