مادة ( ش ط ح )
في اللغة :
« شَطَحَ في السير أو القول : تباعد واسترسل .شَطْحَةٌ : تباعد واسترسال في الخيال » .
في الاصطلاح الصوفي:
الشيخ السراج الطوسي يقول : « الشطح : هو عبارة مستغربة في وصف وجد ، فاض بقوته وهاج بشدة غليانه وغلبته …
الشطح : لفظة مأخوذة من الحركة ، لأنها حركة أسرار الواجدين إذا قوي وجدهم ، فعبروا عن وجدهم ذلك بعبارة يستغرب سامعها . فمفتون هالك بالإنكار والطعن عليها إذا سمعها ، وسالم ناجٍ برفع الإنكار عنها والبحث عما يشكل عليه منها بالسؤال عمن يعلم علمها ، ويكون ذلك من شأنها . ألا ترى أن الماء الكثير إذا جرى في نهر ضيق فيفيض من حافتيه ، يقال : شطح الماء في النهر ، فكذلك المريد الواجد إذا قوي وجده ولم يطق حمل ما يرد على قلبه من سطوة أنوار حقائقه سطع ذلك على لسانه ، فيترجم عنها بعبارة مستغربة مشكلة على فهوم سامعيها إلا من كان من أهلها ، ويكون متبحراً في علمها ، فسمي ذلك على لسان أهل الاصطلاح : شطحاً »
. ويقول : « الشطح : كلام يترجمه اللسان ، وجد يفيض عن معدنه مقرون بالدعوى إلا أن يكون صاحبه مستلبا ومحفوظاً » .
الشيخ أحمد الرفاعي الكبير
الشطحات : هي حالة تحصل لصاحب الدرجة الثالثة من القوم [ المشغول ] في رؤيته آيات الله تعالى بمشهد الآية : سَنُريهِمْ آياتِنا في الْآفاقِ وَفي أَنْفُسِهِمْ ، غائباً بهما عن الله تعالى ، هذا المشهد المسمى بالإدلال يحصل فيه التجاوز والبروز بحال السلطنة والظهور بالقول والفعل والحول والقوة .
الشيخ أحمد البوني
يقول : « الشطح على لسان القوم (رضي الله تعالى عنهم) : هو كلام عليه رعونة يصعب فهمه ابتداء » .
الشيخ الأكبر ابن عربي
يقول : « الشطح : هو عبارة عن كلمة عليها رائحة رعونة ودعوى ، وهي نادرة أن توجد من المحققين أهل الشريعة » .
ويقول : « الشطح : هو كلمة دعوى بحق تفصح عن مرتبته التي أعطاه الله من المكانة عنده ، أفصح بها عن غير أمر إلهي لكن على طريق الفخر … والشطح : زلة المحققين إذا لم يؤمر به فيقولها …
الشطح : كلمة صادقة صادرة من رعونة نفس عليها بقية طبع تشهد لصاحبها ببعده من الله في تلك الحال » . الشيخ علي البندنيجي
يقول : « الشطح : هو التكلم بلسان الجمع ، أي الحقيقة المحمدية ، أو بلسان جمع الجمع وهو حقيقة الحق » .
الشيخ محمد مهدي الرواس
يقول : « الشطح : هو ثائرة جموح ، تهزها بقية نخوة من آثار غلبة النفس تغلب حكم المقام ، وترد من موج الحال ، فتنتج سكرة تنشأ عنها عربدة صولة ، ودعوى قطع ووصل » .
الشيخ أبو الهدى الصيادي الرفاعي
يقول : « الشطح : رعونة نفس ، فإنه لا يصدر من محقق أصلاً ، فإن المحقق ماله مشهود سوى ربه وعلى ربه ما يفتخر وما يدعي ، بل هو ملازم عبوديته ، مهيأ لما يرد عليه من أوامره ، فيسارع إليها وينظر جميع ما في الكون بهذه المثابة ، فإذا شطح انحجب عما خلق له ، وجهل نفسه وربه ».
الشيخ سعيد النورسي
الشطحات : هي دعاوى أكبر من حد العبد ، وأعظم من طوقه ، تصدر نتيجة السكر الناشئ من انجذاب آت من المحبة .
الدكتور علي العناني
الشطح عند الصوفية : هو الألفاظ المشكلة الصادرة عن المتصوفة في حالة الغيبة عن الحواس وعن عالم الحس
الدكتور علي شلق
يقول : « الشطح … عند الصوفية : حالة من غلبة الوجد ، ونفذ في قلبه لطف الله بغتة ، أو هبت عليه ريح الحبيب ، ففتحت جوانب نفسه ، فسكر بنسائم فردوسية عذبة ، خفق لها كيانه . وممن ألقى الضوء على هذه الكلمة ، من الصوفية الحلاج ، والمحاسبي ، فأشارا إلى أن الشطح : حديث الحب الخفي ، بين ( أنا وأنت ) ، وعدها آخرون نوعاً من كلام الله ، أو أنها برد سكينة يطيف بقلب المؤمن ، فيمنحه القرب والسعادة » .
الدكتور يوسف زيدان
الشطحات : أقوال للصوفية ، معبرة عن مشاهد ذوقية خاصة كل الخصوصية ، وأفضل الأحوال معها التوقف عن القبول والرفض .. وذلك خشية قبولها قبل تذوق معانيها فتكون فتنة ، أو رفضها مع صحة مقام قائلها فيكون اعتراضا .
الدكتورة نظلة الجبوري
تقول : « الشطح : هو نوع من اللغة الرمزية يتضمن معنى باطناً تستره الألفاظ وتحجبه الكلمات ، ليترجم باللسان شدة وجد ، لا بد أن يظهر ، وليعبر عن معاناة النفس في درجات الكشف العليا ، لذا ارتبط الشطح بحال السكر في كثير من الأحيان » .
الباحث محمد غازي عرابي
يقول : « الشطح : هو تعبير عن حالة لا يميز فيها صاحب الطريقة الحق من الخلق ، ولا الباطن من الظاهر ، ولا المسمى من حقيقة الأسماء . فالحق قريب إلى درجة أنه لم يعد ثمة ما يفصله عنه ، وهو حقيقة كل سار ومتحرك .
فكيف يحدد الفرق وهو أدق من الدقيق ؟ فالله الذي تجلى فسدَّ الأفق ، وأخذ على السالك حتى أنفاسه ، لا يتيح له مجال التمييز ورد الكلمات إلى مدلولاتها .
والشطح : حال قصير الأمد ، ويقع عند الأخذ ، ثم يرد صاحبه إلى وعيه فيستغفر مما بدا منه في حال أخذه وغيابه » .
الباحث سليمان سليم علم الدين
يقول : « الشطح : هو كلمات مستغربة تصدر عن الصوفي في حال وجده وذهوله بمشاهدة جلال الحق ».
إضافات وايضاحات :
في هذا عذاب الصوفي : لقد توغل في معراج السلوك ففني عن كل ما سوى الله ، وتطهرت روحه من كل ما لا ينتسب إليه ، فصار في حال فناء عن وجود السوى وشهود السوى وعبادة السوى ، وتجلىّ له الحق لأول وهلة ، فلم يصبر على ما شاهد ، بل اندفع يصرخ وهو سكران بحميا الرؤية : أنا أنت ! لقد فض له عن السر الأكبر ، فلم يقو على حمل هذه الأمانة العظمى في باطنه ، ففاض لسانه بالترجمة عنها حتى يكون في هذا تصريف لما انطوت عليه من شحنة هائلة – وتلك ظاهرة الشطح .
الشطح إذن : تعبير عما تشعر به النفس حينما تصبح لأول مرة في حضرة الألوهية ، فتدرك أن الله هي وهي هو . ويقوم إذن على عتبة الاتحاد . ويأتي نتيجة وجد عنيف لا يستطيع صاحبه كتمانه ، فينطلق بالإفصاح عنه لسانه . وفيه يتبين هذه الهوية الجوهرية فيما بين العبد الواصل والمعبود الموصول إليه ، فيتحدث على لسان الحق ، لأنه صار والحق شيئاً واحداً ، ومن هنا ينتقل الخطاب إلى صيغة المتكلم بعد أن كان – في حال المناجاة – بصيغة المخاطب ، وفي حال الذكر بصيغة الغائب . لكن مَن المخاطِب ومن المخاطَب ؟
الأحرى أن يكون كلاهما واحداً ، ولذا لا يفترض هنا ( غير ) أن يتوجه إليه
الخطاب ، وهذا هو الأصل في تحريم إذاعة ما يجري في النفس إبان هذه الحال . ومن أذاع فقد شطح .
لكن هل كان في وسعه ألاّ يذيع ؟
ذلك هو مأزق الصوفي : فشدة الوجد ترغمه على الإذاعة ، والمذاع سر بين العبد والرب ، لأن التفرقة انتفت وصار اتحاد . ولهذا يمكن أن يقال : أن الشطح سر للصوفي لا بد منه . هنالك تتخذ الكلمات عند النفس امتلاءها الخاص بحقيقتها الوقتية ، وتسمع في باطنها أحاديث قدسية ، ثم تصلح النفس لغتها وفقاً لتلك الأحاديث ، وعلى وصيد الاتحاد الصوفي تقف ظاهرة الشطح ، هذه الدعوة إلى التبادل ، فيوزع العاشقين باستبدال كل منهما دوره بدور الآخر ، وترغب النفس في التعبير ، ( بصيغة المتكلم ) ، ومن غير شعور منها بذلك ، عن مقاصد المحبوب نفسه ، وإن في هذا لأشد امتحانٍ لتواضعها ، وإنه لختم لصطفائها .
فالعناصر الضرورية لوجود ظاهرة الشطح هي :
أولاً : شدة الوجد .
ثانياً : أن تكون التجربة تجربة اتحاد .
ثالثاً : أن يكون الصوفي في حال سكر .
ورابعاً : أن يسمع في داخل نفسه هاتفاً إلهياً يدعوه إلى الاتحاد ، فيستبدل دوره بدوره
وخامساً : أن يتم هذا كله والصوفي في حالٍ من عدم الشعور ، فينطق مترجماً عما طاف به متخذاً صيغة المتكلم وكأن الحق هو الذي ينطق بلسانه .
أما الشطحة نفسها فتمتاز بعدة خصائص :
منها أنها بصيغة ضمير المتكلم ، وإن كان هذا الشرط غير متحقق باستمرار .
( وأنها تبدو غريبة في ظاهرها ، لكنها صحيحة في باطنها ، أو على حد تعبير السراج ( ظاهرها مستشنع ، وباطنها صحيح مستقيم ) .
تقدير الصوفية للشطحات : إذا نظر في تقدير الصوفية للشطحات نرى الجرجاني في تعريفاته يقول : إن الشطح : عبارة عن كلمة عليها رائحة رعونة ودعوى ، تصدر من أهل المعرفة باضطرار واضطراب . وهو زلات المحققين ، فإنه دعوى حق يفصح بها العارف لكن من غير إذن إلهي .
وفي هذه العبارة الأخيرة نشاهد الرأي الغالب عند متأخري الصوفية والكتاب عامة ممن لا ينكرون هذه الظاهرة في ذاتها ، ولا يستشنعون الكلمات الشطحية ، بل يرون أن الخطأ الوحيد فيها هو أن أصحابها يفصحون بها دون إذن إلهي . وأصحاب هذا الرأي إنما يريدون التوفيق بين الاعتراف بصحة الشطحيات وبين إنكار ما يدل عليه ظاهرها مما استبشعه أهل السنة وخصوم الصوفية . ولهذا جاء رأيهم هذا غامضاً ، لأنه لا معنى لقولهم : ( دون إذن إلهي ) – إذ أن أولئك الذين باحوا بهذه الأسرار لم يشعروا بأنهم أذاعوا أسراراً محرمة . كما أنهم جعلوا كل الشطحيات تتدرج تحت هذا ، ونقصد بالشطحيات كل الكلمات التي تتصف بالخصائص التي أوردناها في أول هذا البحث ، فلم يذكر هؤلاء الكتاب أن ثمة كلمات من هذا النوع قد أذن بها ، وأن أخرى غيرها لم يؤذن بها ، بل كل ما وجدوه مما يخالف المألوف ، عدوه شطحاً ، وإذاً فلا معنى لهذا القول : ( دون إذن إلهي ) إلا إذا كان قد تم الإذن بالنسبة إلى كلمات من نفس النوع ، أما وهذا لم يحدث ، فقولهم هذا غير محصل ، وما لجأوا إليه إلا من باب الاعتذار عن تلك الكلمات دفاعاً عن أصحابها ضد الفقهاء وخصوم الصوفية .
ولعل السبب في هذا الدفاع على هذا النحو ما شاهده الصوفية أنفسهم بعد عهد الحلاج من خطر يتهددهم إذا أوغلوا في الشطح . فمن باب الأمن على أنفسهم آثروا أن يلتزموا الصمت في هذا الباب إذا وردت عليهم واردات من قبيل الشطحات . فمصير الحلاج إذن كان أبلغ عبرة لهم في هذا الباب . بالسر إن باحوا تبُح دماؤهم
ليس من المستبعد أن يكون الشبلي هو أول من نبه الصوفية إلى وجوب عدم الإباحة بهذه الأسرار ، لأنه – وقد كان صديق الحلاج الحميم ، وشاهد مصيره فأثر في نفسه أبلغ تأثير وأعمقه – آثر ، طمعاً في السلامة ، أن يدخل هذه الفكرة ويدعو هذه الدعوة . ومن هنا يذكر المؤرخون عن الشبلي هذه الكلمات التي تعبر عن هذا المعنى تمام التعبير .
قال الشبلي : أنا والحلاج في شيء واحد ، فخلصني جنوني وأهلكه عقله
وفي العبارة مفارقة ظاهرة قد توهم السخرية والتهكم ، لكنه في الواقع قد أراد هذا المعنى بظاهر حروف ألفاظه
وقال أيضاً : كنت أنا والحسين بن منصور شيئاً واحداً ، إلا أنه أظهر وكتمت .
على أن هذا كله لا يدل مطلقاً على أن الصوفية كلهم قد أخذوا بدعوة الشبلي
هذه . إنما كل ما نريد أن نقوله : هو أنه لعل الشبلي هو أول من تنبه إلى وجوب عدم إذاعة هذه الكلمات . فقد كان الصوفية – إلى ما قبل الحلاج – ينطقون بالكلمات الشطحية في غير تحرج ولا تحرز ، لأنه لم يكن للسلطان الخارجي بعد تأثير عليها . أما منذ قضية الحلاج فقد بدأ الصوفية يتبينون ما سيترتب على أقوالهم من نتائج عملية لابد أن يحسب لها ألف حساب . ولعل هذا يسمح لنا بتأريخ تفسير الجنيد ( المتوفي سنة 298 هـ / 910 م ) لشطحيات أبي يزيد البسطامي ، وهو التفسير الذي أورد لنا صاحب ( اللمع ) طرفاً منه .
فأقوال الحلاج قد بدأت تشغل الرأي العام حوالي سنة 290 هـ ، وإن كانت القضية لم تتخذ صورة رسمية إلا سنة 301 هـ / سنة 913 م ) ، لكن كان مصيره معروفاً مقدماً ، لهذا نظن أن الجنيد قد اندفع في ذلك الحين إلى تفسير شطحيات أبي يزيد حتى يُبرئ أبا يزيد ، لأنه كان من المعجبين به ، بحيث يمكن تأريخ تفسير الجنيد هذا بالفترة ما بين 290 إلى 298 ، وبخاصة في سنواتها الأخيرة لما أن اشتعلت مسألة الحلاج اشتعالاً كافياً .
وإذن فقضية الحلاج هي التي أثارت مشكلة الشطحيات إثارة قوية عنيفة نجد أصداءها المفصلة في كتاب ( اللمع ) ، الذي كان قريب عهد بها ، لهذا كرس للشطح والشطحيات فصولاً طوالاً ، فيها دافع عنها . وما كان له أن يدافع بهذه الحرارة ، إلا لأنه كان حديث عهدٍ بالجو الملتهب ، الذي أثارته بمناسبة قضية الحلاج . ويظهر أن المشكلة قد خبا أوارها في الربع الأخير من القرن الرابع ، أو هذا على الأقل هو ما يمكن أن يستخلص من صمت أبي بكر الكلاباذي ( المتوفي سنة 3 هـ80 أو 390 هـ ) في كتابه ( التعرف ) عن الشطحيات : ذكراً لها أو دفاعاً أو تبريراً . وقد يفيدنا هذا في تأريخ كتاب ( اللمع ) (للسراج المتوفي سنة 378 هـ ) بأن نجعله أُلِّف في حدود سنة 350 هـ ، إن لم يكن قبل هذا .
تاريخ الشطحات الصوفية :
إن الصور الأولى عن تاريخ الشطحات نجدها عند ابن أدهم وعند رابعة العدوية ، ثم تتخذ أول صورة واضحة كل الوضوح عند أبي يزيد البسطامي ( المتوفى سنة 261 هـ / سنة 875 م ) ثم يفصل الحلاج القول فيها ، ويحللها تحليلاً نفسياً موغلاً في العمق ، والشبلي يشير إليها مراراً وبعد الشبلي تندر أحوال الشطح في التصوف الإسلامي ، وينحدر مستواها . فالشطحيات المنسوبة إلى الجيلاني والرفاعي وابن عربي لا تكاد تبين إذا قورنت بشطحيات أسلافهم الكبار .
أما رابعة ، فالكلمات التي وردت الينا عنها مما يندرج في باب الشطح لا تعد بعد من الشطح إلا في معناه ، أما في صورته – أعني التحدث عن الله بضمير المتكلم – فليس لدينا من نوعه شيء . إنما هي أقوال ظاهرها مستشنع وباطنها مستقيم . وكلها تتعلق بالتوحيد والتجريد وزيادة المعنى الروحي أو وضعه مكان المعنى المادي فيما ورد به الشرع .
فهي في سبيل تجريد الحج من معناه الحسي قالت عن الكعبة لما حجت [ ولعل ذلك لآخر مرة ] على ( هذا الصنم المعبود في الأرض ! وإنه ما ولجه الله ولا خلا منه ) وابن تيمية – بطريقته الحادة الجافة – يرى أن هذا القول كذب على رابعة ، ثم يأخذ في الرد عليه أساس أن البيت العتيق ( لا يعبده المسلمون ، ولكن يعبدون رب البيت بالطواف به والصلاة إليه ) ، وأما أنه ( ما ولجه الله ولا خلا منه ) – فأما ( ما ولج الله فيه – فكلام صحيح ، وأما قوله : ( ما خلا منه ) – فإن أراد أن ذاته حالةً فيه أو ما يشبه هذا المعنى فهو باطل ، وهو مناقض لقوله ما ولج فيه ، وإن أراد به أن الاتحاد ملازم له لم يتجدد له ولوج ، ولم يزل غير حال فيه . فهذا مع أنه كفر وباطل يجب أن لا يكون للبيت مزية على غيره من البيوت ) . وتكذيب ابن تيمية لهذا القول على أساس أنه ليس لرابعة ، لم يقم على أساس تاريخي ، إنما على أساس عقلي هو استحالة نسبته إلى رابعة ، لأنها كانت عابدة مؤمنة ، وهو قول دال على الكفر . ولهذا لا يعتد هنا بقوله إن هذا القول كذب على رابعة ، ما دام لم يبن ذلك على أسباب من الأسانيد التاريخية ، والسبب العقلي الذي ذكره ينقضه ما ينسب إليها من أقوال أخرى – كما ترى – تستوجب من ابن تيمية التفكير أيضاً . وهي كذلك في سبيل تجريد معنى العذاب الحسي في النار تصرخ قائلة : ( يا رب ! أما كان لك عقوبة ولا أدب غير النار ؟ ! ) فهي توجه نوعاً من اللوم إلى الله على أنه لجأ لهذه الوسيلة الحسية في التعذيب ، وكانت تود لو أنه ارتفع بالعذاب إلى معنى روحي خالص ، مثل شقاء الضمير وما إليه . على أن لهجتها هنا خفيفة لو قيست بقولها الآخر الذي أورده المناوي فقال عن رابعة : وسمعت قارئاً يقرأ : إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ في شُغُلٍ فاكِهونَ فقالت : مساكين أهل الجنة ! في شغل هم وأزواجهم ! فالتفسير الشائع لقوله تعالى : فاكِهونَ : هو أنهم يفضون الأبكار اللواتي منحهم الله إياهن في الجنة ، لهذا نفرت من هذا المعنى الحسي الشهواني نفوراً شديداً فقالت تلك العبارة القاسية التي أزعجت رجلاً مثل ابن عربي – على الرغم مما له يشابه هذا – فعاب عليها هذه المقالة وقال : إنها ما عرفت ، وإنها المسكينة . فإنما شغلهم إنما هو بالله . قال : وهذا مكر الله الخفي بالعارفين في تجريح الغير ببادي الرأي والتعويض في حق نفوسهم . إنهم منزهون عن ذلك . وفي هذا نرى ابن عربي يسمي هذا بالمكر الخفي ، لا بالشطح . والحق أن هذه الأقوال وما إليها لا تنطبق عليها شروط الشطح بتمامها . لكنا نجد فيها مع ذلك صورةً أولية لما سيكون عليه الشطح الحقيقي من بعد . إنما نجد الشطح الحقيقي لأول مرة عند أبي يزيد البسطامي في القرن الثالث للهجرة . فعنده يتخذ الصورة الأصلية لهذه الظاهرة ، أعني التحدث بصيغة المتكلم . والأقوال التي تروي عنه في هذا الباب مختلفة ، لِاختلاف الأوقات الجارية عليه فيها ، ولِاختلاف المواطن المتداولة بما خص منها ، فكلٌ يحكى عنه ما ضبط من قوله ، ويؤدي ما سمع من تفصيل مواطنه ، كما قال الجنيد الذي شرح طائفة من هذه الشطحات وحللها بحيث ينفي ما يوهمه ظاهرها ، إذ رأى أن الحال القصوى التي بلغها أبو يزيد قد أفضت به إلى التفوه بعبارات قل من يستطيع فهمها ويعرف معناها ويدرك مستقاها ، ومن لم يسبر غورها يرددها وينكرها . والذي نراه أن كل أخلاف أبي يزيد نسجوا على منواله ، وأقوالهم يمكن أن تندرج في نفس الأبواب التي أطلق فيها القول ، فكان في الواقع أجرأ من عرفنا من الصوفية ، وكل هذا في إخلاص وحرارة وإيمان ، من غير تصنع ولا دلال ..
[ مبحث صوفي] : في تأويل شطحات الصوفية والردود المناسبة على اعتراضات المنكرين لها
عرض الشيخ عبد الوهاب الشعراني لأهم أقوال المنكرين لكلمات مشايخ الصوفية التي اصطلح على تسميتها ( الشطحات ) وذكر الأجوبة المناسبة لها على ألسنة محققي الصوفية ، وفيما يلي نذكر أقوال المنكرين والردود عليها كما بينها الشيخ الشعراني في رسائل خاصة بهذا الشأن على النحو الآتي :
يقول الشيخ عبد الوهاب الشعراني :
الإنكار : مما أنكروه على القوم : تكلمهم بالكلمات التي لا توافق ظاهر الشريعة
والجواب : « أنه لا ينبغي لأحد الإنكار إلا بعد إمعان النظر في ذلك الكلام مع التبحر في علوم الشريعة ، ثم أن تلك الكلمات لا تخلو إما أن تكون في التوحيد أو في فروع الفقه ، فإن كان في التوحيد فلا تخلو إما أن يفهم بعد إمعان النظر نقول معناه أو لا يفهم معناه ، فإن لم نفهم معناه فلا يجوز إنكاره ، لأن الإنكار لا يكون إلا بعد الفهم ، وإن فهم معناه فلا يخلو إما أن يكون في حال السكر أو في حال الصحو .
فإن كانت في حال السكر فحكم صاحبها حكم المجنون والنائم والمغمى عليه والصبي الذي لا يُميِّز أو يُميَّز ، ولا يخفى أنه لا ثواب لأحد من هؤلاء في تلك الكلمات ولا عقاب عليها حتى لو نطقوا بكلمة كفر … وقد ورد في الحديث ، في الصحيحين في الذي ظلت عنه دابته في أرض فلاة وعليها طعامه وشرابه وآيس منها فوضع رأسه لينام فاستيقظ فوجد دابته واقفة عند رأسه فقال من شدة الفرح : اللهم أنت عبدي وأنا ربك ما يشهد لما قلناه بالنطق بالمحال ، وقد قال فيه : أخطأ من شدة الفرح (1) ، ولم يقل فيه كفر ، مع أنه قلب حقيقة الربوبية وهي قديمة إلى العبودية وهي حادثة وبالعكس ، ولم يكن في قلبه إلا التوحيد … وانظر إلى قوله : أخطأ من شدة الفرح ، فبين فيه أن شدة الفرح مدهشة تدهش العقل بمشاهدة الحقيقة واتساعها » .
الإنكار : ومما أنكروه على الشبلي قوله : ما في الجبة إلا الله .
وقالوا : هذا يقتضي مذهب الحلولية .
والجواب : « لا ينبغي الإنكار على الشبلي ، لأن كلامه مع أهل العلم الذين هذبتهم أحاديث الشريعة وقواعدها ، فهو مثل قوله تعالى : وَهُوَ اللَّهُ في السَّماواتِ وَفي الْأَرْضِ وحديث : إن الله في قبلة أحدكم …
ومعنى كلام الشبلي : ما في جسمي فاعل إلا الله تعالى حقيقة ، وجميع أفعالي إنما هي مجاز بحكم إمداد الحق تعالى لا مستقلا ، وبذلك أولوا قول من قال : ما في الكون إلا الله ، أي : ما فيه فاعل حقيقة إلا هو » .
الإنكار : ومما أنكروه على الشبلي تفسيره قوله : إِنَّ في ذَلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أي لمن كان الله تعالى قلبه .
قال ابن القيم : وهذه جراءة عظيمة على كلام الله تعالى وهو خلاف أقوال المفسرين.
والجواب : « إنه لا ينبغي الإنكار على الشبلي إلا بعد العجز عن تأويل كلامه ، والذي ظهر لي : أن الكلام فيه حذف ، أي : لمن كان الله تعالى مؤيدا قلبه ، كما قالوا في معنى حديث : فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به
إلى آخره ، أي كنت مؤيدا له في جميع حواسه الظاهرة والباطنة حتى لا يزيغ عن طريق الحق ، فقاس الشبلي على القلب السمع والبصر ، ولا يجوز حمل كلام الشبلي على ظاهره ، فإنه كان من العلماء الجامعين بين طريقي الظاهر والباطن » .
الإنكار : مما أنكروه على الشبلي قوله لما سئل : متى تستريح ؟ قال : إذا لم أر له ذاكرا .
الجواب : « اعلم أن الذكر أبداً لا يكون مع المشاهدة ، ولا بد للذاكر أن يكون محجوباً بذكره وهو من وراء حجاب ، لا راحة عنده ، فإذا رفع الحجاب وقعت المشاهدة وزال الذكر بتجلي المذكور » .
الإنكار : ومما أنكروه على أبي يزيد قوله لما سمع قارئاً يقرأ : إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَديدٌ فقال : بطشي أشد .
قال المنكر : هذا كلام من لم يشم من الإسلام شمة فلا يجوز ذكره .
والجواب : « إنه لا ينبغي الإنكار على أبي يزيد [ بلا ] بسبب ، بل يجب حمله على تمجيد الله تعالى وعلمه بسعة حلمه وعلمه وعفوه … أما بطش العبد فهو محض انتقام ليس فيه رحمة لضيق العبد وحصره » .
الإنكار : ومما أنكروه على أبي يزيد البسطامي قوله لما سمع خوف الناس من النار : وما النار والله لو رايتها لأطفأتها بطرف مرقعتي .
قال ابن القيم : هذا قول زنديق يجب قتله فإن الهوان بما خوَّف الله تعالى به عباده كفر .
والجواب : « إن أبي يزيد كان الغالب عليه الغيبة عن الخلق شدة حضوره مع الله تعالى وصاحب هذا الحال تتلاشى عنده الكائنات في جناب شهود الحق تعالى » .
الإنكار : ومما أنكروه على أبي يزيد أيضاً قوله : سبحاني ما أعظم شأني ، أنا ربي الأعلى .
الجواب : « قيل ذلك للجنيد فقال : إن الرجل مستهلك في شهود الجلال ، فنطق بما استهلكه لذهوله عن رؤية غير الله ، فلم يشهد إلا الحق ، فنعته بقوله سبحاني سبحاني بحكم النيابة عن الحق جل وعلا من باب حديث : إن الله قال على لسان عبده سمع الله لمن حمده …
وقال بعض العارفين إن قول أبي يزيد وارد على سبب ، وهو أنه قال يوما : سبحان الله .
فقال له الحق تعالى في سره : هل شهدت فيَّ عيب حتى تنزهني عنه ؟
فقال يا رب .
فقال له الحق : فنفسك إذن نزه عن النقائص ، فأخذ أبو يزيد في الرياضة والمجاهدة حتى يخرج عن سائر الأجناس والرعونات النفسانية .
فقال إذن : سبحاني ، أي أنني تطهرت يا رب عن النقائص بفضلك وبرحمتك » .
الإنكار : ومما أنكروه على أبي يزيد قوله : أنا اللوح المحفوظ
والجواب : « أن مراده أن قلبه انجلى من الصدأ والغبار بكثرة الذكر والرياضة حتى صاركالمرآة » .
الإنكار : مما أنكروه على الإمام الغزالي قوله : ليس في الإمكان أبدع مما كان .
قال المنكر : وهذا يفهم منه العجز في الجناب الإلهي وهو كفر صريح .
الجواب : ( قال الشيخ محيي الدين ابن عربي في الفتوحات : إن كلام الغزالي في غاية التحقيق ، فلا ينبغي الإنكار عليه ، لأنه ما ثم إلا مرتبتان ، مرتبة قدم ، ومرتبة حدوث .
فالمرتبة الأولى للحق تعالى وحده بإجماع جميع الملل ، والمرتبة الثانية للخلق . فلو خلق تعالى ما خلق فلا يخرج عن رتبة الحدوث ، فلا يقال : هل يقدر الحق تعالى أن يخلق قديما يساويه في القدم ، لأنه سؤال مهمل في غاية المحال .
( وأجاب الشيخ عبد الكريم الجيلي : بأن كل واقع في الوجود قد سبق به العلم القديم ، فلا يصح أن يرقى عن رتبته في العلم الإلهي ولا ينزل عنها ، فصح قول الإمام ليس في الإمكان ابدع مما كان » .
الإنكار : ومما أنكروه على الغزالي قوله : إن الاشتغال بعلم الظاهر بطالة .
قال ابن القيم : هذا جهل مفرط منه ، وأصل الصوفية العلم أنهم رأوا أن طريق الاشتغال به لا توصلهم إلى الرياسة إلا بعد طول زمان بخلاف طريقهم المبتدعة من لبسهم الزي وصلاتهم بليل وصيامهم بالنهار وتقصير الثياب والأكمام .
والجواب : « أنه لا ينبغي الإنكار على الغزالي بسبب قوله ذلك ، فإن مراده أن الاشتغال بالعلم على طريق أهل الجدال بطالة ، بنسبة طريق العلماء العاملين ، لأنه بطالة من كل وجه .
وقد كان سفيان الثوري يقول : قد صار علم الناس اليوم من جملة زادهم إلى النار لعدم مراعاتهم العمل به وجعلوه شبكة يصطادون به أمر معاشهم .
وكيف يظن بالغزالي أنه يريد ما فهم المنكر وهو يعلم أن علم الشريعة هو أساس علم الحقيقة » .
الإنكار : ومما أنكروه على ميمون بن مهران قوله : تكلمت نفسي مع الخضر – عليه السلام – في مسألة من مسائل المحبة ، وكان الملائكة يستحسنون قولي ، والله – عز وجل – يسمع كلامي فلم يعيب علي ولو أنه تعالى عاب علي لكان أخرسني …
والجواب : « أنه لا ينبغي لأحد الإنكار على ميمون ، لأنه ادّعى وقوع أمر ممكن عادة ، فإن الخضر لم يزل الأولياء يجتمعون عليه إلى عصرنا هذا ، وأنا بحمد الله تعالى ممن اجتمع به » .
الإنكار : ومما أنكروه قول الشيخ محيي الدين ابن عربي : حدثني قلبي عن ربي .
والجواب : « اعلم أن المراد بذلك ما يحصل للقلب في حال المشاهدة الذاتية من العلم الذي منه يفيض على السر والروح والنفس ، وهذه الحالة وإن كانت رفيعة فثم ما هو أرفع منها ، وهو قول شيخنا – رضي الله عنه – كثيرا : حدثني ربي عن نفسي ، أي : حدثني ربي عن نفسه بارتفاع الوسائط » .
الإنكار : ومما أنكره على الصوفية قولهم : فلان من الأنبياء .
والجواب : « اعلم أن المراد بذلك أنبياء الأولياء ، وهم كل ولي أقامه الحق تعالى في تجل من تجلياته ، وأقام له مظهر محمد ومظهر جبريل – عليه السلام – ، فأسمعه ذلك المظهر الروحاني خطاب الأحكام المشروعة لمظهر محمد ، حتى إذا فرغ من خطابه وفرغ عن قلب هذا الولي عقل صاحب هذا المشهد جميع ما تضمنه ذلك الخطاب من الأحكام المشروعة الظاهرة في هذا الأمة المحمدية ، فيأخذها هذا الولي كما أخذها المظهر المحمدي للحضور الذي حصل له في هذه الحضرة مما أريد به ذلك المظهر المحمدي من التبليغ لهذه
الأمة ، فيرد إلى حسه وقد وعى ما خاطب الروح به مظهر محمد وعلم صحته علم يقين بل عين يقين ».
الإنكار : ومما أنكروه على الصوفية قولهم : لا يكون الفقير فقيراً حتى لا يصير له إلى الله حاجة .
والجواب : « اعلم أن هذا اللفظ وإن كان ظاهره القبح ، فهو من جهة المعنى في غاية الحسن ، لأن هذه الحالة من أرفع درجات التسليم ، وصاحب هذا المقام هو الذي اتخذ الله وكيلاً لعلمه بأنه تعالى أعلم بمصالحه منه … وإيضاح ذلك : أن الفقير لا يكون من أهل الأدب مع الله تعالى حتى لا يبقى في باطنه حاجة معينة يرجَّح قضاءها على تركها ، وأعلى من هذا مقاماً من رأى كل شيء محتاج إلى كل شيء ، ولم تحجبه الأسباب عن المسبب » .
الإنكار : ومما أنكروه على قول الغوث الأعظم الشيخ عبد القادر الجيلاني : أوتيتم معاشر الأنبياء اللقب وأوتينا ما لم تؤتوا .
الجواب : أراد بقوله أوتيتم اللقب ، أي حُجر علينا لقب النبي وإن كانت النبوة سارية إلى يوم القيامة في أكابر الرجال ، لأنهم نواب الأنبياء وورثتهم .
وأما قوله وأوتينا ما لم تؤتوا : فهو معنى قول الخضر – عليه السلام – الذي شهد الله بعدالته وتقدمه في العلم لموسى – عليه السلام – : أنا على علم علمنيه الله لا تعلمه أنت ، يريد من الوجه الخاص الذي بين كل إنسان وبين ربه – عز وجل – . ومحتمل أن يريد الشيخ عبد القادر بالأنبياء هنا أنبياء الأولياء أصحاب التعريف الإلهي … فيكون تصريحاً منه بأن الله تعالى قد أعطاه ما لم يعطهم .
الإنكار : ومما أنكروه على الصوفية قولهم : المحمدي المقام .
الجواب : « لا يقال في أحد من القوم محمدي إلا لأحد شخصين :
أما شخص اختص بميراث علم من حكم لم يكن في شرع قبله .
وأما شخص جمع المقامات ثم خرج عنها إلى لا مقام ، كأبي يزيد البسطامي وأضرابه فهذا أيضاً يقال فيه : محمدي وما عدا هذين الشخصين فإنما ينسب في الحقيقة إلى من هو وارثه من الأنبياء عليهم السلام » .
الإنكار : ومما أنكروه على الصوفية قول بعضهم : أمرني الحق بكذا أو نحو ذلك .
الجواب : « إن الأمر الإلهي من صفة الكلام وهو مسدود دون الأولياء من جهة التشريع ، فما بقي في الحضرة الإلهية أمر تكليفي إلا والشريعة قد جاءت به ، فما بقى لولي إلا سماع
أمرها . فكل من قال من أهل الكشف أنه مأمور بأمر خاص يخالف الشرع المحمدي فقد إلتبس عليه الأمر ، وما عدا الأوامر المشروعة فللأولياء فيها القدم الراسخة » .
الإنكار : وما أنكروه على الصوفية قول بعضهم : مقام الولاية أتم من مقام الرسالة والنبوة .
الجواب : « الولاية هي الفلك المحيط العام ، ولهذا لم تنقطع ، ولها الإنباء العام . وأما التشريع والرسالة فمنقطعة . وهذا الأمر قصم ظهور أولياء الله ، لأنه يتضمن ذوق انقطاع العبودة الكاملة ، ولكن من لطف الله تعالى بأوليائه أن أبقى لهم النبوة العامة التي لا تشريع فيها ، وأبقى لهم التشريع في الاجتهاد في ثبوت الأحكام . فإذا رأيت النبي يتكلم بكلام خارج عن التشريع فمن حيث هو ولي وعارف ، لأن مقام النبي من حيث ما هو عالم أتم وأكمل من حيث هو رسول … لأن الولاية هي الجهة الحقانية الأبدية التي لا تنقطع دنيا وأخرى ، بخلاف النبوة والرسالة ، لأنهما ينقطعان بذهاب الأمم والتكاليف » .
الإنكار : ومما أنكروه ، قول الشيخ أبو سليمان الداراني – رضي الله عنه – : لو وصلوا ما رجعوا .
الجواب : « اعلم أن مراد الشيخ والله أعلم إنما هو الرجوع إلى الشهوات الطبيعية واللذات النفسانية ، وإلا فالرجوع إلى الخلق للإرشاد والتعليم بعد كمال الترقي حتى يصير يأخذ عن ربه تعالى ، فهذا لا تمنعه الطائفة ، لأنه كمال » .
الإنكار : ومما أنكروه قول أبي يزيد البسطامي – رضي الله عنه – : خضت بحراً وقف الأنبياء بساحله .
الجواب : « اعلم أن البحر هو القرآن العظيم لمن فهم القرآن ما هو ، فهو الفهم العميق الذي لا يدرك لمعانيه قرار ، ولولا أن الغاطس فيه يقصد المواضع القريبة من الساحل ما خرج للخلق أبداً ، فالأنبياء والورثة لهم ، هم الذين يقصدون هذه المواضع رحمة بالعالم ، وأما الواقفون الذين وصلوا ومسكوا ولم يردوا ولا انتفع بهم أحد … فغطسوا إلى الأبد لا يخرجون ، فقد علمت أن هذا القول من أبي يزيد ليس إزراءً بمقام الأنبياء حاشا من ذلك وكان شيخنا
[ أبو علي الدقاق ] يقول : هذا القول مما وقع لأبي يزيد قبل الكمال ، ولذلك قال خضت ماضيا ولم يقل لنا خائض الآن ، ومن هنا علم نقص صاحب المواقف وغيره ممن قال : أوقفني الحق ، وقال لي ، وقلت له ، وبالجملة فلا يعرف كلام الناس ويميز بين ما قالوا قبل الكمال وما قالوه بعده إلا كمَّل العارفين .
الإنكار :
ومما أنكروه على الصوفية قول قائلهم :
أريدك لا أريدك للثواب
وكل مآربي قد نلت منها
ولكني أريدك للعقاب
سوى ملذوذ قلبي بالعذاب
الجواب : « يقول الشيخ كمال الدين القاشاني : جعل غاية مطلوبه أن يتلذذ بالعذاب ، وليس أن مقصوده من العذاب التلذذ به ، وإلا لكان ذلك رعونة من جهة طلب اللذة ومن جهة الافتراح بتخصيصها ومن جهة طلبه خرق العادة الذي هو حصول اللذة في محل الآلام ، بل إنما أراد بذلك أن يرى حسن رضاه بأحكام مولاه بما ليس للنفس فيه حظ بوجه ، وإلى إظهار هذا المعنى قصد القائل :
لَتعذيبي من الهجران عندي
لأني في الوصال عبد حظي
أحب إلي من طيب الوصالي
وفي الهجران عبد للموالي