الإمام الحسين أحد الرموز المشرقة من أئمة آل البيت ( عليهم السلام ) الذين استكملت فيهم الصفات الإنسانية ، وبلغوا ذروة الكمال المطلق ، وأقاموا منار هذا الدين ، ورفعوا شعار الحق والعدل في الأرض ، وتبنوا القضايا المصيرية للإسلام ، وعانوا في سبيله جميع ألوان الخطوب ، ولاقوا كل جهد وضيق من جبابرة عصورهم وطغاة أزمانهم .
استشهاد إمامنا الحسين وسيرته الروحية : عنوان راسخ لحقيقة الثبات على الطريق الى الله تعالى … ولعظمة المثالية في أخذ العقيدة وتمّثلها ..
لأنها جسدت بحق أهم الأهداف في الرسالة السماوية كلها وهي : الفناء في محبة الله تعالى ، الى درجة يتجسد فيها معنى هذه الأبيات حياً على أرض الواقع :
هجرت الخلق طراً في هواكا
و أيتمت العيال لكي أراكا
فلو قطعتني في الحب إربـاً
لما مال الفؤاد إلى سواكا .
والقيام بواجب المحبة وتحبيب الخلق الى الحق تعالى كما قال أبو الدرداء : ( لئن شئتم لأقسمن لكم ، إن أحب عباد الله إلى الله ، الذين يحببون الخلق الى الله ويحببون الله إلى خلقه ) .
إلاسم المبارك
لما ولد الإمام الحسن فسماه الإمام علي باسم ( حمزة ) ولما ولد الحسين سماه ( جعفر ) ، تخليداً لذكرى عمّه وأخيه ، إلا إن الوحي الذي لا ينطقُ الرسولُ إلا عنه ، قد حكمَ لهما باسمين آَخرين ، هما : الحسن والحسين ، إسمان من أسماء أهل الجنّة ، لم يكونا في الجاهلية ، وفي هذا قال الإمام علي : دعاني رسولُ الله فقال : إنّي اُمرتُ أن اُغيّر اسمَ ابنَيَّ هذين .
فقلت : اللهُ ورسولُه أعلم ، فسمّاهما حسناً و حسيناً .
الحسين بين يدي الرسول الأعظم
منذ الأيام الأولى والعناية المحمدية تحف بسيدنا الحسين ، ولقد تجلت ألطف صورها في حالة لم يسبق لها مثيل ، وهي إرضاعه للحسين بإبهامه الشريف ويذكر الصحابة الكرام رضوان الله تعالى عليهم إن رسول الله صلى الله تعالى عليه واله وسلم كان يظهر محبته للحسين ، ومن ذلك ما جاء على لسان أبي هريرة أنه قال: رأيت رسول الله وهو حامل الحسين بن علي، وهو يقول: { اللهم أني أحبه وأحب كل من يحبه}.
ومن محبة رسول الله لحفيده أنه كان يراعي مشاعره حتى وهو في الصلاة ، فقد روى عبد الله بن شداد عن أبيه قال: سجد رسول الله سجدة أطالها، حتى ظننا أنه قد حدث أمر، أو أنه يوحى إليه، فسألناه عن ذلك، فقال: كـل ذلك لـم يكن، ولكن ابني ارتحلني فكرهـت أن أعجلـه حتى يقضـي حاجتـه… .
إنّ موقف الرسول العظيم تجاه الحسين لا يستند إلى عاطفةٍ مجردة فهو في أعظم الحالات قرباً من الله . ولكن الله تعالى أراد أن يري المسلمين في كل زمان ومكان العظمة التي سيبلغها هذا الإمام ..
فهو يصعد على هذه القمّة الشمّاء ، وحضرة الرسول صلى الله تعالى عليه واله وسلم في حالة العروج إلى السماء ، فإنّ الصلاة معراج المؤمن ، والرسول سيّد المؤمنين .
فأيّ تعبيرٍ يمكن أنْ يستوفي وصف هذه العظمة ، وهذا العُلوّ وهذا الشموخ ؟ الذي لا يُشك في تقرير الرسول له ، وعدم معارضته إيّاه بل إظهاره الرضا والسرور به .
وهل حَظِيَ أحَد بعدَه بهذه الحظوة الرفيعة ؟ كلاّ ، لا أحد .
أمّا قبله ، فنعم : أبوه الإمام عليٌّ ، فقد رَقِيَ – بأمْر من الرسول ظهرَه الشريف ، يومَ فتح مكّة ، فصعدَ على سطح الكعبة وكسّر الأصنام , وفي ذلك المقام قال الإمام : ( خُيلَ إليَ لو شِئْتُ نِلْتُ اُفُقَ السماء ) .
إنّ الشرفَ في الرُقيّ على ظهر النبيّ وهو المثال المجسَد للقُدس والعُلوّ لا يزيد على شرف الصاعد ، إذا كان مثل عليّ والحسين ، ممّن هو نفس النبيّ أو فلذة منه
وكان يلاعبه في صغره حتى ولو كان خارجاً في شأن من شؤونه مع بعض الصحابة الكرام ، روى يعلى بن مرة قال: خرجنا مع النبي إلى طعام دعونا له، فإذا حسين يلعب بالسكة فتقدم النبي وبسط يديه فجعل الغلام يفر هاهنا، وهاهنا ويضاحكه النبي حتى أخذه فجعل إحدى يديه تحت ذقنه والأخرى في فأس رأسه فقبله وقال: حسين مني وأنا من حسين، أحب الله من أحب حسيناً، حسين سبط من الأسباط…
بهذا النص النبوي الشريف دلل حضرة المصطفى على مدى الصلة العميقة التي بينه وبين حفيده ، وما نراه في هذا القول من حضرة الرسول لم يقتصر في معناه على الرابطة النسبية التي بينه وبينه فقط ، وإنما عنى أمراً آخر هو أدق وأعمق فالحسين منه لأنه يحمل روحه وهديه، ويحمل اتجاهاته العظيمة الهادفة إلى إصلاح الإنسان ورفع مستواه، وتطوير وسائل حياته على أساس الإيمان بالله الذي يحمل جميع مفاهيم الخير والسلام في الأرض، كما دلَّ قوله : {وأنا من حسين} أن ما يبذله السبط العظيم من التضحية والفداء في سبيل الدين، وما تؤديه تضحيته من الفعاليات الهائلة في تجديد رسالة الإسلام، وجعلها نابضة بالحياة على مر الأجيال الصاعدة فكان الرسول الأعظم بذلك حقاً من الإمام الحسين فهو المجدد لدينه، والمنقذ له من شر تلك الطغمة الحاكمة .. وأعاد للإسلام نضارته وحياته، ورفع رايته عالية خفاقة في جميع الأجيال.
كما دلل على عظمة حفيده بأن أضفى عليه كلمة السبط ، وأراد بها أنه أمة من الأمم قائم بذاته، ومستقل بنفسه، فهو أمة من الأمم في الخير وأمة من الشرف في جميع الأجيال والآباد.
هذه بعض الأخبار التي أثرت عن حضرة الرسول الأعظم في ريحانته وهي أوسمة شرف ورفعة قلده بها ، إشعاراً منه بأن ظله، وحقيقته ستمثل في هذا الطفل، وسيكون صورة فذة لإنسانيته العليا، وأسراره العظمى .
النشأة والتربية الروحية
عاش الإمام الحسينُ ، وجدّه منهَمكٌ في بثّ الرسالة الإسلاميّة ، والدولة آخذة بالأوج والرفعة ، والرسولُ الأعظم لا ينفكّ يدبّر أُمورها ، ويرعى مصالحها ، ويُعالج شؤونها ، ويخطّط لها .
فالحسين السبط عليه السلام ، الذي يدور في فلك جدّه صلى الله تعالى عليه واله وسلم ، ويجلس في حجره ، ويصعد على ظهره ، ويرتقي عاتقه وكاهله ، لابُدّ وأن يمتلئ بكلّ وجوده من كلام الرسول وحديثه ، فهو يسمع كلّ ما يقول ، ويرى كلّ ما يفعل ، وقد عاشر جدّه سبعاً من السنين ، تكفيه لأنْ يعيَ منه الكثير من الأُمور التي تعدّ في اصطلاح العلماء حديثاً لرسول الله صلى الله تعالى عليه واله وسلم ، و سُنّةً له .
وقد ابتدأ ابن عساكر برواية بعض الأحاديث التي سمعها الحسين من جدّه ، وأوَل حديث ذكره هو قوله : سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه واله وسلم يقول : {ما من مسلم ولا مسلمةٍ يُصاب بمصيبة وإنْ قدم عهدها ، فيُحدِث لها استرجاعاً ، إلاّ أحدَثَ اللهُ له عند ذلك ، وأعطاهُ ثوابَ ما وعده عليها يوم أُصيبَ بها } .
أَوَ من القَدَرِ أن يكون هذا أوّل حديثٍ يُروى في ترجمة الإمام الحسين عليه السلام؟ أوْ أنّ الرسول صلى الله تعالى عليه واله وسلم أراد أنْ يلقّنَ الحسين عليه السلام في أوّل دروسه له ، درساً في الصبر على المُصيبة ، التي تكون قطب رحى سيرته ، ومقرونة باسمه مدى التاريخ ؟ .
وكان الحسين من القلائل الذين اخذوا البيعة والعهد من رسول الله صلى الله تعالى عليه واله وسلم في هذا السن ، فقد جاء في الحديث المروي عن الإمام أبي جعفر محمّد بن عليّ الباقر : أنّه قال : إنّ النبي بايعَ الحسن والحسين ، وعبد الله بن عبّاس ، وعبد الله بن جعفر ، وهم صغار لم يبلغوا .
وقال : {ولم يبايع صغيراً إلاّ منِّا } .
وتدل هذه البيعة على أنّ قلّة الأعوام في أولاد هذا البيت الطاهر ، ليستْ مانعةً عن بُلوغهم سنّ الرشد المؤهّل للأعمال الكبيرة المفروضة على الكبار ، مادام فعلُ الرسول صلى الله تعالى عليه واله وسلم يدعمُ ذلك ، ومادام تصرّفهم يكشف عن أهليّتهم ومادام الغيبُ ، والمعجز الإلهيّ يُبَيّن ذلك . وكما كان رسول الله صلى الله تعالى عليه واله وسلم يمهد للرابطة الروحية مع حضرة الإمام علي كرم الله وجهه ، مهد كذلك لحفيده الحسين وذلك من خلال حث الناس على محبته والإكثار من النظر إليه ، فقد روى جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه واله وسلم : {من أراد أن ينظر إلى سيد شباب أهل الجنة فلينظر إلى الحسين ابن علي} .
السلوك بين يدي الإمام علي
سار الإمام الحسين بعد رسول الله صلى الله تعالى عليه واله وسلم على خطى أبيه في التقوى والورع فتحرى سبل الكمال في الحياة الروحية ، وقد روى عن والده وإمامه الكثير الكثير من النصوص الدالة على اهتمامه بالسير والسلوك على نهج الطريقة ، فكانت بدايته التعرف على حقيقة الإيمان ، ودرجاته في تكوين الإنسان فقال : سمعت أبي يقول : ( الإيمان معرفة بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالأركان ) .
وكما أخذ أبيه من قبل العهد بذكر ( لا اله إلا الله ) من رسول الله مشافهة فقد أخذه الحسين من أبيه ومع الاستغفار ، فقال في ذلك رواية عن الإمام علي : ( خير الدعاء الاستغفار ، وخير العبادة قول لا إله إلا الله ) .
هذا النهج في الذكر العبادة غايته رجوع العباد إلى الله تعالى بالتوبة عن الذنوب ، ورفع النظر إلى ما وراء الماديات من الجوانب الروحية في الحياة ، يقول الإمام الحسين عليه السلام نقلا عن أبيه : ( عجبت لمن يحتمي من الطعام مخافة الداء ، كيف لا يحتمي من الذنوب مخافة النار) ، بمعنى إن الإنسان عليه إن يحتمي من الذنوب التي قد توصله إلى النار في الحياة الأبدية أكثر من حميته من الطعام الذي قد يؤذي صحته في الحياة الفانية .
وأخذ عن أبيه حب الفقراء والمساكين وعلى وجه الخصوص أهل الصفة رضوان الله تعالى عليهم ، روى ابن عساكر بإسناده عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم قال: مرَّ الحسين بمساكين يأكلون في الصفة فقالوا: الغداء فنزل وقال: ( إن الله لا يحبُّ المتكبرّين ) فتغدّى معهم ، ثم قال لهم : قد أجبتكم فأجيبوني . قالوا: نعم . فمضى بهم إلى منزله فقال للرباب: اخرجي ما كنت تدخرين .
واخذ عنه محبة الدعوة والإرشاد لكثرة ما كان يسمعه وهو يعظ الناس قائلا : ( لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليسلطن الله عليكم أشراركم ، ثم يدعو خياركم فلا يستجاب لهم… ) .
كما أورثه حث الناس على النظر في دقائق الأمور وصغائرها وحملهم على التورع في كل ما يريبهم من أمور دينهم ودنياهم ، وفي هذا روى عن أبيه انه قال : ( إن الله تبارك وتعالى أخفى أربعة في أربعة : أخفى رضاه في طاعته ، فلا تستصغرن شيئا من طاعته فربما وافق رضاه ، وأنت لا تعلم ، وأخفى سخطه في معصيته فلا تستصغرن شيئا من معصيته فربما وافق سخطه معصيته وأنت لا تعلم ، وأخفى إجابته في دعوته فلا تستصغرن شيئاً من دعائه فربما وافق إجابته وأنت لا تعلم ، وأخفى وليه في عباده فلا تستصغرن عبداً من عبيد الله فربما يكون وليه وأنت لا تعلم ) .
حلقات الوعظ والإرشاد الحسينية
كان مجلسه مجلس علم ووقار قد ازدان بأهل العلم من الصحابة رضوان الله تعالى عليهم ، وهم يأخذون عنه ما يلقيه عليهم من الأدب والحكمة ، ويسجلون ما يروون عنه من أحاديث جده ، ومما سطره المؤرخون : إن الناس كانوا يجتمعون إليه ويحتفون به ، وكأن على رؤوسهم الطير يسمعون منه العلم الواسع والحديث الصادق . وكان مجلسه في جامع جده رسول الله وله حلقة خاصة به ، وفي يوم سأل رجل من قريش أين يجد الحسين عليه السلام ؟ فقيل له 🙁 إذا دخلت مسجد رسول الله فرأيت حلقة فيها قوم كأن على رؤوسهم الطير فتلك حلقة أبي عبد الله .
لقد جذبت شخصية الإمام ، وسمو مكانته الروحية قلوب المسلمين ومشاعرهم فراحوا يتهافتون على مجلسه ، ويستمعون لأحاديثه ، وهم في منتهى الإجلال ، والخضوع . وقد ذكر الزهري في كتاب (المغازي) أن البخاري روى عن الحسين أحاديث كثيرة ، وفيها باب تحريض النبي على قيام الليل ، كما روى عنه الترمذي في كتاب (الشمائل النبوية) أحاديث كثيرة ، وقد نقلها عنه سفيان بن وكيع ونلمع أو نلمح إلى بعض رواياته عن جده : • قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه واله وسلم : ( من حسن إسلام المرء قلة الكلام فيما لا يعنيه ) .
- قال : سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه واله وسلم يقول : ( إن الله يحب معالي الأمور ويكره سفاسفها ) .
- قال : سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه واله وسلم يقول : ( من يطع الله يرفعه ، ومن يعص الله يضعه ومن يخلص نيته لله يزينه ، ومن يثق بما عند الله يغنيه ، ومن يتعزز على الله يذله ) .
وقد انتهل من نمير علومه حشد كبير من الصحابة وأبنائهم ومنهم : الشعبي ، وعكرمة ، وكرز التميمي ، وسنان ابن أبي سنان الدوئلي ، و عبد الله بن عمر ، وابن عثمان والفرزدق وابن أخيه زيد بن الحسن وطلحة العقيلي وعبيد بن حنين وأبو هريرة ، وعبيد الله بن أبي يزيد ، والمطلب بن عبيد الله بن خنطب ، وأبو حازم الاشجعي ، وشعيب بن خالد ، ويوسف الصباغ ، وأبو هشام وغيرهم . وبهذا ورث الإمام الحسين مدرسة العلم المحمدي واتخذ من الجامع النبوي منبرا له يلقي من زائدة في روضاته الشريفة محاضراته في علم الفقه والتفسير ، ورواية الحديث ، وقواعد الأخلاق وآداب السلوك وكان المسلمون يفدون عليه من كل فج للانتهال من نمير علومه المستمدة من علوم النبي ومعارفه ومعارف أبيه .
من نفحاته الصوفية
إذا تأملنا فيما أبقاه لنا التراث الإسلامي من نصوص وأقوال للإمام الحسين نجد أنها على قلتها قد تطرقت إلى معظم أركان وأسس التصوف الإسلامي والتي سارت على خطاه طلاب الحقيقة ومريدي طريق الحق سبحانه وتعالى . ومن ذلك على سبيل المثال حديثه عن أهم ركن من أركان الطريقة وهو ( الذكر ) الذي طالما تعاهده الصوفية بالعناية والاهتمام على اعتبار انه زاد المسير الى الله تعالى ، يقول الإمام الحسين : ( ذكر الله على الصفاء ينسي العبد مرارة البلاء ، وكما هو واضح من نص الإمام ، فإن الذكر يشترط الصفاء ، والمراد به حضور القلب مع الخالق جل وعلا ، بمعنى إن ذكره تعالى والبال خال صافٍ مما سواه ، يثمر حلاوة تنسي العبد مرارة البلاء مهما كانت وكيفما كانت ، فينال العبد بذلك فضلان في آن واحد ، الذكر مع الحضور والرضا بالقضاء ).
ومن ذلك ذكره لمقامي الخوف والرجاء وطريقة تحقق المؤمن بهما ، وفي ذلك يقول : لا يكون المؤمن مؤمناً حتى يكون خائفاً راجياً ، ولا يكون خائفاً راجياً حتى يكون عاملاً لما يخاف ويرجو .
وقد تحدث الإمام في علم الحقائق ، ومما تطرق إليه هو حقيقة النية فقال : حقيقة النية : هي الإرادة الباعثة للقدرة المنبعثة عن المعرفة .
و كان كثيراً ما يذكر الناس بهوان الدنيا ، وإنها وسيلة لا ينبغي ان تبتغى لذاتها فكان يعضهم قائلا : ( عباد الله اتقوا الله ، وكونوا من الدنيا على حذر فإن الدنيا لو بقيت لأحد أو بقي عليها أحد لكانت الأنبياء أحق بالبقاء ، وأولى بالرضاء ، وأرضى بالقضاء ، غير أن الله خلق الدنيا للبلاء وخلق أهلها للفناء ، فجديدها بال ، ونعيمها مضمحل ، وسرورها مكفهر والمنزلة بلغة ، والدار قلعة فتزودوا فإن خير الزاد التقوى ) .
ومن وصاياه الأخلاقية أنه قال لابن عباس : ( لا تتكلمن فيما لا يعنيك فاني أخاف عليك الوزر ، ولا تتكلمن فيما لا يعنيك حتى ترى للكلام موضعاً فرب متكلم قد تكلم بالحق فعيب ، ولا تمارين حليما ولا سفيها ، فإن الحليم يغلبك ، والسفيه يؤذيك ، ولا تقولن في أخيك المؤمن إذا توارى عنك إلا ما تحب أن يقول فيك إذا تواريت عنه ، واعمل عمل رجل يعلم أنه مأخوذ بالإجرام مجزي بالإحسان…) .وهذه الكلمات الذهبية هي بعض ما أُثر عنه في مكارم الأخلاق ، ومحاسن الصفات التي يكسب بها الإنسان المنهج السليم ، وحسن السلوك وسلامة الدارين .
إستشهاد الإمام الحسين وأثره في التصوف الإسلامي
شكل حدث الاستشهاد الحسيني ضمن ذلك التوقيت – زماناً ومكاناً – نقطة تحول جذرية في حياة المسلمين الروحية ، وذلك لأنه هز قلوبهم ، وحز في نفوسهم ، ما حل في ريحانة رسول الله صلى الله تعالى عليه واله وسلم ، فتملك معظم الناس الندم فعمّ الوجوم العالم الإسلامي .. ففتحت أثر ذلك أبواب الزهد في العالم الإسلامي بشتى الصور والأشكال ، فهذا ابو عثمان النهدي يترك الكوفة الى البصرة وهو يقول : لا أسكن بلدا قتل فيه ابن بنت رسول الله ، وهذا عبد الرحمن بن ابي نعيم من زهاد البصرة يذكر الناس قائلا : يا أهل العراق ، تسألونني عن المحرم : يقتل ؟ وقد قتلتم ابن بنت رسول الله صلى الله تعالى عليه واله وسلم ، وقد قال رسول الله صلى الله تعالى عليه واله وسلم فيه : {هما ريحانتاي من الدنيا} ومعنى هذا ان كبيرة قتل الحسين عليه السلام تهون دونها كل الأمور..
أسس استشهاد الحسين عليه السلام قاعدة عريضة لتذكير الناس بهوان الدنيا وعظمة الآخرة ، وفي الكوفة قام الناس يجهرون بالبكاء والتوبة حتى لقبوا بالتوابين كما يذكر الطبري وابن الأثير في عبارته : وما دخلت سنة 65 هـ حتى كانت صيحة التوابين .. تزلزل الأرض تحت بني أمية ، وحتى كانت الكوفة تشهدهم في سلاحهم ينطلقون ساعين نحو قبر الحسين وهم يتلون الآية الكريمة 🙁 فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ ) . وقد تبنى هذا التوجه كبار صوفية ذلك العصر وعلى رأسهم الشيخ الحسن البصري ( قدس الله سره ) الذي انتحب حين بلغه مصرع الإمام وتأوه وقال : ( واحسرتاه ماذا لقيت هذه الأمة ؟! قتلَ ابن دعيها ابن نبيها ، اللهم كن له بالمرصاد ، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون ) وزاد من وعظه وإرشاده متخذا من والحزن وسيلة له في ذلك فكان اذا اقبل فكأنما أقبل من دفن حميمة ، وإذا جلس فكأنه أسير قد أمر بضرب عنقه ، وكان اذا ذكرت النار عنده كأنها لم تخلق إلا له ، وكان يكثر من تذكير الناس قائلا : طول الحزن في الدنيا تلقيح العمل الصالح . وهكذا اثر استشهاد الحسين عليه السلام في التصوف الإسلامي باتجاهين :
الأول : الجهاد الأصغر والذي تمثل بخروج التوابين وجهرهم بمقارعة الظلم .
الثاني : الجهاد الأكبر ، أي جهاد النفس بالزهد والورع والبكاء والخشية من الله تعالى والرجوع إليه بالتوبة والاستقامة على الطريقة . وهما ركنان طالما نظر إليهما الصوفية كثقلين أساسيين في ميزان الإيمان فقاموا بالجهاد الأصغر كلما اضطروا لذلك ولم يجدوا عنه محيصا ، وتواصوا بالجهاد الأكبر في كل لحظة من لحظات حياتهم .. في ذلك يقول حضرة الشيخ عبد القادر الكيلاني ( قدس الله سره ) : قد أخبرك الله جل جلاله بجهادين : ظاهر ، وباطن . فالباطن : جهاد النفس والهوى ، والطبع والشيطان ، والتوبة عن المعاصي والزلات والثبات عليها ، وترك الشهوات المحرمات . والظاهر : جهاد الكفار المعاندين له ولرسوله … فالجهاد الباطن أصعب من الظاهر ، لأنه شيء ملازم متكرر »55 وهي شعلة أوقد جذوتها بعد رسول الله صلى الله تعالى عليه واله وسلم حضرة الإمام الحسين عليه السلام ولا زالت توهجاتها تشع إلى يوم الناس هذا .
قالوا في الامام الحسين
غاندي – الزعيم الهندي
لقد طالعت بدقة حياة الإمام الحسين، شهيد الإسلام الكبير، ودققت النظر في صفحات كربلاء واتضح لي أن الهند إذا أرادت إحراز النصر، فلا بد لها من اقتفاء سيرة الحسين.
جارلس ديكنز – الكاتب الإنجليزي المعروف
إن كان الإمام الحسين قد حارب من أجل أهداف دنيوية، فإنني لا أدرك لماذا اصطحب معه النساء والصبية والأطفال؟ إذن فالعقل يحكم أنه ضحى فقط لأجل الإسلام .
موريس دوكابري
يقال في مجالس العزاء أن الحسين ضحى بنفسه لصيانة شرف وأعراض الناس، ولحفظ حرمة الإسلام، ولم يرضخ لتسلط ونزوات يزيد، إذن تعالوا نتخذه لنا قدوة، لنتخلص من نير الاستعمار، وأن نفضل الموت الكريم على الحياة الذليلة.
جورج جرداق – العالم والأديب المسيحي
حينما جنّد يزيد الناس لقتل الحسين وإراقة الدماء، وكانوا يقولون: كم تدفع لنا من المال؟ أما أنصار الحسين فكانوا يقولون لو أننا نقتل سبعين مرة، فإننا على استعداد لأن نقاتل بين يديك ونقتل مرة أخرى أيضاً.
انطوان بارا – مسيحي
لو كان الحسين منا لنشرنا له في كل أرضٍ راية، ولأقمنا له في كل أرضٍ منبر، ولدعونا الناس إلى المسيحية باسم الحسين .
السير برسي سايكوس – المستشرق الإنجليزي
حقاً إن الشجاعة والبطولة التي أبدتها هذه الفئة القليلة، على درجة بحيث دفعت كل من سمعها إلى إطرائها والثناء عليها لا إرادياً. هذه الفئة الشجاعة الشريفة جعلت لنفسها صيتاً عالياً وخالداً لا زوال له إلى الأبد.
تاملاس توندون – الهندوسي والرئيس السابق للمؤتمر الوطني الهندي:
هذه التضحيات الكبرى من قبيل شهادة الإمام الحسين رفعت مستوى الفكر البشري ، وخليق بهذه الذكرى أن تبقى إلى الأبد، وتذكر على الدوام.
_________________________________
المصدر : مجلة الكسنزان العدد الثاني .