يفتتح الغزالي كلامه عن السماع فيقول : (دل النص والقياس جميعا على اباحته ) ثم يفصل الغزالي فيقول : ( اما القياس فهو ان الغناء اجتمعت فيه معاني ينبغي ان تبحث عن افرادها ثم عن مجموعها فان فيه سماع صوت طيب موزون مفهوم المعنى محرك القلب فالوصف الاعم انه صوت طيب ثم الطيب ينقسم الى الموزون وغيره والموزون ينقسم الى المفهوم كالاشعار والى غير المفهوم كاصوات الجمادات وسائر الحيوانات )(1) . ويقول الغزالي : اما سماع الصوت الطيب من حيث انه طيب فلا ينبغي ان يحرم بل هو حلال بالنص والقياس , اما النص فيدل على اباحته سماع الصوت الحسن امتنان الله تعالى على عباده اذ قال : ( يزيد في الخلق ما يشاء )(2) . فقيل هو الصوت الحسن . وفي الحديث ( ما بعث الله نبيا الا حسن الصوت )(3) . وفي الحديث في معرض المدح للنبي داود عليه السلام انه كان حسن الصوت في النياحة على نفسه وفي تلاوة الزبور حتى كان يجتمع الانس والجن والوحش والطير لسماع صوته وكان يحمل في مجلسه اربع مائة جنازة وما يقرب منها في بعض الاوقات . ثم يقول وقوله تعالى : ( ان انكر الاصوات لصوت الحمير )(4) يدل بمفهومه على مدح الصوت الحسن ولو جاز ان يقال : انما ابيح بشرط ان يكون بالقران الكريم للزمه ان يحرم سماع صوت العندليب لانه ليس من القران .
اما القياس فهو ان يرجع الى تلذذ حاسة السمع بادراك ما هو مخصوص به , وللانسان عقل وخمس حواس ولكل حاسة ادراك وان مدركات تلك الحاسة ما يستلذ , فلذة النظر في المصبرات الجميلة كالخضرة والماء الجاري والوجه الحسن وبالجملة سائر الالوان الجميلة , وهي في مقابلة ما يكره من الوان الكدرة القبيحة .
وللشم الروائح الطيبة وهي مقابلة المسكتره وللذوق الطعوم اللذيذة كالدسومة والحلاوة والحموضة وهي في مقابلة المرارة المستبشعة , وللمس لذة اللين والنعومة وهي مقابلة الخشونة والضراسة , وللعقل لذة العلم والمعرفة وهي في مقابلة الجهل والبلادة ولذلك الاصوات المدركة بالسمع تنقسم الى مستلذة كاصوات العنادل والمزامير ومستكرهة كنهيق الحمير وغيرها .
ثم يقول النظر في الصوت الطيب الموزون فان الوزن وراء الحسن فكم من صوت حسن خارج عن الوزن وكم من صوت موزون غير مستطاب والاصوات الموزونة باعتبار مخارجها ثلاثة .
أ– تخرج من جماد كصوت المزامير والاوتار وضرب القضيب والطبل وغيره .
ب – تخرج من حنجرة حيوان اما انسان او غيره كصوت العنادل والقمارى فهي مع طيبها موزونة متناسبة المطامع والمقاطع فلذلك يستلذ سماعها , فسماع الاصوات يستحيل ان يحرم لكونها طيبة وموزونة .
ولا يستثنى من هذه الا الملاهي والاوتار والمزامير التي ورد الشرع بالمنع منها لا للذتها اذ لو كان المنع للذة لقيس عليها كل ما يلتذ به الانسان ولكنها محرمة تبعا لتحريم الخمر وذلك لعلل ثلاث احداها انها تدعو الى شرب الخمر , الثانية انها في حق قريب العهد بشرب الخمر تذكر مجالس الانس بالشرب فهي سبب انبعاث الشوق اذا قوى فهو سبب الاقدام ,الثالثة الاجتماع عليها لما صار من عادة اهل الفسق فتمنع التشبه بهم .
ج – الموزون والمفهوم وهو الشعر وذلك لا يخرج الا من حنجرة الانسان فيقطع اباحته لانه ما زاد الا كونه مفهوما غير الحرام , والصوت الطيب الموزون غير الحرام فاذا لم يحرم الاحاد فمن اين يحرم المجموع ؟.
ثم ينظر فيما يفهم منه فان كان فيه امر محظور حرم نثره ونظمه وحرم النطق به سواء كان بالحان او لم يكن , والحق فيه ما قال الشافعي رحمه الله اذ قال الشعر كلام نحسنه حسن وقبيحه قبيح .
ان الشعر على الرغم من ان الرسول ﷺ لم ينظمه كما جاء في الاية الكريمة : ( وما علمناه الشعر وما ينبغي له )(5) , يبقى حقيقة انه قد انشد بين يدي الرسول ﷺ كما اسلفنا بل وثبت تشجيعه للشعر وثبت كذلك بما لا يدع مجالا للشك ان الامام علي كرم الله وجهه وهو وزير النبي ﷺ قد نظم الشعر نظما ورجزا مدحا للرسول ﷺ وهجاء لاعداء الاسلام وله في ذلك ديوان كامل مطبوع كما ثبت كذلك ان بضعة المختار فاطمة الزهراء عليها السلام قد قالت الشعر في رثاء ابيها ﷺ في البيت المشهور
صبت علي مصائب لو انها صبت على الايام عدن لياليا
كما انشدت عائشة ام المؤمنين رضي الله عنها :
ذهب الذين يعاش في اكنافهم وبقيت في خلف كجلد الاجراب
ولقد انشد الشعر كثير من الصحابة الا من لم يستطع قول الشعر فهو خارج عن القاعدة والبقية يقولون البيت والبيتين والقصيدة الكاملة , فمن الذي يقول بان الشعر حرام ؟ اللهم الا ما كان غرضه قذف المسلمين وهجاؤهم .
وقد خلص الغزالي الى القول فقد خرج من جملة التفضيل السابق ان السماع قد يكون حرما محضا وقد يكون مباحا وقد مكروها وقد يكون مستحبا .
الهوامش:
(1) الامام الغزالي – احياء علوم الدين –ج2 ص270 .
(2) فاطر : 1 .
(3) اخرجه الترمذي في الشمائل .
(4) لقمان :19 .
(5) يس : 69 .
المصدر: السيد الشيخ محمد الكسنزان الحسيني – كتاب الطريقة العلية القادرية الكسنزانية ص327-329 .