في اللغة : ( قَدُسَ الشيء / الشخص : طهُر وكان مباركاً .
قدَّس الله : عظَّمه وبجَّله ونزّهَه عما لا يليق بألوهيته ) .
وفي القرآن الكريم : وردت هذه اللفظة في القرآن الكريم ( 10 ) مرات على اختلاف مشتقاتها ، منها في قوله تعالى : ( إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك في الوادي المقدس طوى ) .
وفي الاصطلاح الصوفي : يقول الشيخ ابن قضيب البان : « قال لي [ الحق ] : الأقدس : هو البريء من شوائب نقائص كثرة الإمكان » .
ويقول الشيخ عبد الغني النابلسي : « قدس الله : أي طهر من أكدار الأغيار . ( سره ) أي : حقيقته التي هو قائم بها من حيث ظهورها له في محاكاته التي صنفها في علم المعرفة » .
وقال الشيخ عبد الله الخضري : « قدس الله سره : أي طهّر الله سره من ظلمات النفس وقساوتها بنور معرفته » .
وفي اصطلاح الطريقة الكسنـزانية نقول : قدس الله سره : تعني نزه الله أسراره أي بواطنه من النقائص والكدورات وحفظها ، وزادها نماءاً وبركة .
قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : ( ما فضلكم أبو بكر بكثرة صيام ولا صلاة ولكن بسر وقر في صدره ) . قال أحد العارفين : لو اطلع زري على سري لقلعته .فسرهم مقدس ومطهر من أن يطلع عليه غير الله تعالى وفي الحديث الشريف ورد : ( لي وقت مع الله لا يسعني فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل ) .
وكذلك ورد في السنة النبوية الشريفة : أن عمر بن الخطاب قال لحذيفة : أنشدك الله وما يحق لي عليك من الولاية ، أنا ممن أسر إليك رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنافقين ؟ قال : لا ، فرفع عمر يديه ثم كبر ، ثم قال : أنشدك بالله وما يحق لي عليك من الولاية كيف ما رأيت مني ؟ قال : يا أمير المؤمنين إن جمعت فيء الله وقسمته في ذات الله فأنت أنت ، وإلا فلا ، فقال عمر : ( اللهم إنك تعلم أني لا آكل إلا وجبتي ، ولا ألبس إلا حلتي ، ولا آخذ حصتي ) .
والقدس هو الطهارة كما يقول ابن عربي ، وهي ذاتية وعرضية ، فالذاتية كتقديس الحضرة الإلهية التي أعطيها الاسم القدوس فهي القدس عن أن تقبل التأثر فيها من ذاتها ، فإن قبول الأثر تغيير في القابل وإن كان التغيير عبارة عن زوال عين بعين ، أما في محل أو مكان فيوصف المحل أو المكان بالتغيير ، ومعنى ذلك أنه كان هذا المحل مثلاً أصفر فصار أخضر أو كان ساكناً فصار متحركاً فتغير المحل أي قبل الغير فالقدس والقدوس لا يقبل التغيير جملة واحدة وأما القدس العرضي فيقبل الغير وهو النقيض وما تفاوت الناس إلا في القدس العرضي فمن ذلك تقديس النفوس بالرياضات وهي تهذيب الأخلاق وتقديس المزاج بالمجاهدات وتقديس العقول بالمكاشفات والمطالعات وتقديس الجوارح بالوقوف عند الأوامر والنواهي المشروعات ونقيض هذا القدس ما يضاده مما لا يجتمع معه في محل واحد في زمان واحد فهذا هو القدس الذي ذكرنا ملكه فالقدس العارض لا يكون إلا في المركبات فإذا اتصف المركب بالقدس ، فذلك المسمى حظيرة القدس أي المانعة قبول ما يناقض كونها قد ساومهما لم تمنع فلا تكون حظيرة قدس فإن الحظر المنع ( وما كان عطاء ربك محظورا ) أي ممنوعاً فالقدس حقيقة إلهية سيالة سارية في المقدسين لا يدرك لنورها لون مخصوص معين ، ولا عين تسري في حقائق الكون ليس لعالم الأرواح المنفصلين عن الظلمة عليها أثر ، وذلك أن الأرواح المدبرة للأجسام العنصرية لا يمكن أن تدخل أبداً حظيرة القدس ، ولكن العارف الكامل يشهدها حظيرة قدس ، فيقول العارف عند ذلك : إن هذه الأرواح لا تدخل حظيرة القدس أبداً لأن الشيء يستحيل أن يدخل في نفسه ، فهي عنده حظيرة قدس ، وغير العارف يشارك في هذا الإطلاق ، فيقول إنها لا تدخل حظيرة القدس أي لا تتصف بالقدس أبداً ، فإن ظلمة الطبع لا تزال تصحب الأرواح المدبرة في الدنيا والبرزخ والآخرة ، فاختلفا في المشهد ، وكل قال حقاً ، وأشار إلى معنى ، وما تواردوا على معنى واحد ، ولهذا لا يتصور الخلاف الحقيقي في هذا الطريق .
والسر له معاني كثيرة ومن معانيه أنه (علم الباطن) وهو سر من أسرار الله عز وجل ، وحكم من حكم الله يقذفه في قلوب من يشاء من عباده ، قال الغزالي : علم الآخرة قسمان علم مكاشفة وعلم معاملة ، وعلم المكاشفة هو علم الباطن وذلك غاية العلوم ، وقد قال بعض العارفين : من لم يكن له نصيب منه يخاف عليه سوء الخاتمة ، وأدنى النصيب منه التصديق وتسليمه لأهله وقال بعضهم : من كان فيه خصلتان لم يفتح عليه منه بشئ بدعة أو كبر ، ومن كان محباً للدنيا أو مصراً على الهوى لم يتحقق به ، وقد يتحقق بسائر العلوم وهو عبارة عن نور يظهر في القلب عند تطهيره من الصفات المذمومة ، وهذا هو العلم الخفي الذي أراده المصطفى صلى الله تعالى عليه وسلم بقوله : ( إن من العلم كهيئة المكنون لا يعلمه إلا أهل المعرفة بالله تعالى فإذا نطقوا به لم يجهله إلا أهل الإغترار بالله تعالى ، فلا تحقروا عالما آتاه الله تعالى علماً منه فإن الله عز و جل لم يحقره إذا آتاه إياه ) .
ومن معانيه الإخلاص كما ورد في الحديث القدسي ، يقول الله تعالى : ( الإخلاص سر من سري استودعته قلب من أحببت من عبادي ) .
وقال : ( الإخلاص سر من سري استودعته قلب من أُحِبّ لا يَطَّلِع عليه مَلَك فيكتبه ولا شيطان فيفسده ) .
يقول الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي رحمه الله : وقد سئل عن الإخلاص : ما هو؟ فقال : سمعت : علي بن سعيد ، وأحمد بن محمد بن زكريا ، وقد سألتهما عن الإخلاص ، فقالا : سمعنا علّي بن إبراهيم الشقيقي ، وقد سألناه عن الإخلاص ، فقال : سمعت : محمد بن جعفر الخصّاف ، وقد سألته عن الإخلاص ، فقال : سألت أحمد بن بشار عن الإخلاص : ما هو ؟ قال : سألت أبا يعقوب الشريطيّ عن الإخلاص : ما هو ؟ قال : سألت أحمد بن غسّان عن الإخلاص : ما هو ؟ قال : سألت عبد الواحد بن زيد عن الإخلاص : ما هو ؟ قال : سألت الحسن عن الإخلاص : ما هو ؟ قال : سألت حذيفة عن الإخلاص : ما هو ؟ قال : سألت جبريل عليه السلام عن الإخلاص : ما هو ؟ قال : سألت ربِّ العزة عن الإخلاص: ما هو ؟ قال : ( سرّ من سرّي استودعته قلب من أحببته من عبادي ) .
والسر من معانيه أنه نور الله ، قال الله سبحانه وتعالى : ( الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضئ ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شئ عليم ) قال أبي بن كعب : مثل نوره في قلب المسلم ، وهذا هو النور الذي أودعه في قلبه من معرفته ومحبته والإيمان به وذكره وهو نوره الذي أنزله إليهم فأحياهم به وجعلهم يمشون به بين الناس واصله في قلوبهم ثم تقوى مادته فتتزايد حتى يظهر على وجوههم وجوارحهم وأبدانهم بل وثيابهم ودورهم يبصره من هو من جنسهم وسائر الخلق له منكر فإذا كان يوم القيامة برز ذلك النور وصار بأيمانهم يسعى بين أيديهم في ظلمة الجسر حتى يقطعوه وهم فيه على حسب قوته وضعفه في قلوبهم في الدنيا فمنهم من نوره كالشمس وآخر كالقمر وآخر كالنجوم وآخر كالسراج وآخر يعطي نورا على إبهام قدمه يضئ مرة ويطفأ أخرى إذا كانت هذه حال نوره في الدنيا فأعطى على الجسر بمقدار ذلك بل هو نفس نوره ظهر له عيانا ولما لم يكن للمنافق نور ثابت في الدنيا بل كان نوره ظاهرا لا باطنا أعطى نوراً ظاهراً ماله إلى الظلمة والذهاب وضرب الله عز وجل لهذا النور ومحله وحامله ومادته مثلا بالمشكاة وهي الكوة في الحائط فهي مثل الصدر وفي تلك المشكاة زجاجة من أصفى الزجاج ، وحتى شبهت بالكوكب الدري في بياضه وصفائه وهي مثل القلب ، وشبه بالزجاجة لأنها جمعت أوصافاً هي في قلب المؤمن ، وهي الصفاء والرقة ، فيرى الحق والهدى بصفائه ، وتحصل منه الرأفة والرحمة والشفقة برقته ، ويجاهد أعداء الله تعالى ويغلظ عليهم ، ويشتد في الحق ويصلب فيه بصلابته ، ولا تبطل صفة منه صفة أخرى ، ولا تعارضها بل تساعدها وتعاضدها .