بقلم مهدي كلشني
يُعرّف مبدأ السببيّة وفق الفلسفة الإسلاميّة على النحو التالي : ( كلّ حدث يحتاج سببًا ) ويترتب عن هذا المبدأ نتيجتان :
1- الحتميّة : إنّ لكل حدث سببًا وافيًا ، وبوجود هذا السبب يوجد الحدث .
2- اتساق الطبيعة : ويعني ذلك أن الأسباب المتشابهة تستتبع نتائج مماثلة .
ولا يمكن فصل هاتين النتيجتين عن مبدأ السببيّة العامّة وكلّ خروج عنهما يؤدي إلى الخروج عن مبدأ السببيّة. ويعترف القرآن الكريم بصحّة مبدأ السببيّة العامة . فعلى سبيل المثال ، غالبًا ما تتحدّث الآيات القرآنية عن الأنماط الثابتة التي رسمها الله سبحانه وتعالى في الكون سُنَّةَ اللهِ في الَّذيْنَ خَلَوا من قبلُ ولَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْديلاً سورة الأحزاب- الآية 62 .
كما أنه يجزم بأنَّ نظام الوقائع في الطبيعة يسير وفق قَدَرٍ معلوم وكلُّ مخلوقٍ أُوتيَ أجَلاً محددًا بحساب : وإِنْ مِنْ شَيْءٍ إلاّ عِندَنا خزائِنُه ، وما نُنَزِّلْهُ إلاّ بِقَدَرْ معلومٍ سورة الحجر – الآية 21 .
ويتضمن القرآن لوقفات كثيرة يرِدُ فيها ذِكرٌ لدور أسباب وسيطة معيّنة لحدوث بعض الوقائع وَاللّهُ أَنزَل مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا سورة النحل – الآية 65 ، وأرسلنا الرياحَ لَواقِحَ سورة الحجر – الآية 22 .
إنَّ وجود أنماط معيّنة في الطبيعة دليلٌ على وجود نواميس طبيعيّة ، وهذا يدلُّ بدوره على صحّة مبدأ السببيّة ، على أنَّ هذا لا يعني أنَّ الوقائِعَ مستقلّةٌ استقلالاً تامًّا عن الله ، بل يعني أنَّ كلَّ شيء يتحقَّقُ بإرادة الله لكن عن طريق أسباب ثانويّة معيّنة ، ولعلَّ الشاهِدَ القرآنيّ التالي يُوضِّحُ ذلك : والبلَدُ الطيّبُ يخرج نباتُه بإذن ربّه والذي خبُث لا يخرجُ إلاّ نَكِدًا ، كذلك نُصرِّفُ الآياتِ لقومٍ يشكرون سورة الأعراف الآية 58 .
ويعني ذلك أنَّ إرادةَ اللهِ ، رغم ضرورتها لنموّ النبات ، إلاّ أنّ خصب الأرض يُعَدُّ كذلكَ شرطًا . وقد استعمل بعض من كبار علماء الدين الإسلامي وبخاصّة الأشعريّون بعض آياتٍ من القرآن الكريم من مثل : مسخّراتٍ بأمره سورة الأعراف – الآية 54 ، وكذلك بعض الآيات التي تدلّ على حدوث المعجزات لدحض حكم السببيّة في العالم المادّي ، حيث يعيد هؤلاء كلّ حدثٍ لإرادة الله ، فهم يرون أن العلاقة بين ما يُعتقَد أنه سببٌ وبين ما يُعتقَد أنه نتيجة ، ليست علاقة ضرورية ، ووفق ذلك ، على سبيل المثال ، فالنار ليست هي السبب في احتراق القطن بل الله هو الذي يجعل القطن يحترق ، فإذا لم يشأ الله ، فلن يحترق القطن . واعتقدَ هؤلاء العلماء أنَّ الإقرار بأسباب ثانويّة يؤدي إلى إنكار قدرة الله . وقد قام الفلاسفة المسلمون بالرد على الفكر الأشعري بالاستناد إلى المعطيات التالية :
– إنّ تزامن سببين يؤثران في شيءٍ واحد أمرٌ مستحيل ، إذا كانت العلاقة بين السببين علاقة أفقيّة ، لكن من الممكن – في نظام أسباب عمودي – أن تُنسَب كلّ واقعة لله ، لأن الله يمنحها الوجود ، بيد أنّ التحقق يتم عن طريق وسائل محدّدة .
– بالنسبة إلى الكائنات الماديّة فإنَّ ما يُسمّى سببًا لا يمثّل سببًا كافيًا ، بل إنّه سببٌ وسيط أو ثانوي يمهّد الطريق لعطاء الله .
ويشرح صدر الدين الشيرازي وجهة نظر الفلاسفة المسلمين قائلا : ثمّة مجموعة أخرى من الفلاسفة ونخبة من الأئمة العلماء يعتقدون أنّ الأشياء تختلف من حيث قبولها بالوجود من الأصل. فالبعض لا يخضع للوجود ما لم يسبقهُ وجودٌ آخر على النحو نفسه الذي تتبع به الحادثةُ المادّة . وفق ذلك ، فإنَّ الخالق الذي لا حدود لقدرته ، يمنح الوجود وفق الإمكانات عن طريق نظام معين ، واعتبارًا لقدرات معيّنة لهذا النظام . فالبعض يصدر مباشرةً من الله والبعض يصدر عن وسيط أو وسطاء ، وفي الصيغة الأخيرة لا يمكن أن يوجد شيء ما لم تتحقق وسائله ومتطلباته المسبقة . والله وحده هو السبب بلا مسبب ، ومتطلبات الوجود ليست نتيجة نقص في قدرة العليّ القدير ، بل يرجع ذلك إلى ضعف في مُستقبِل الصدور أو الفيض. إذْ كيف يقدر المرء أن يتصوّر أيّة حاجة أو عجز في الخالق في حين أنّ الوسائل والطرُق كافّة صدرَت عن الخالق ؟ ولذلك فالله تعالى لا يحتاج إلى أيّة واسطة لخلق أيّ شيء .
أمّا بالنسبة للمعجزات ، فرغم أنها تؤدي إلى هدم سياق قوانينن الطبيعة . لكن ذلك لا يعني أنّ القانون غير صالح أو أنّ قانون السببيّة قد تمّ الخروج عليه ؛ ذلك أنَّ من الممكن جعل أحد القوانين عديم الأثر والفعالية بالاستعانة بقانون آخر من قوانين الطبيعة (مثلاً تحييد تأثير قوّة الجاذبيّة بفعل القوّة الكهرطيسيّة) المشكلة هي أننا لم نصل بعد إلى معرفة كافة قوانين الكون . مع حلول نظرية الكَمّ في الفيزياء وقبول مبدأ اللادقة أو التشكك لهايزنبرج على أنّه يعني حكم الصدفة في العالم الصغير (المجهري) شرع بعض علماء المسلمين بإحياء نظرية الأشعريين المهجورة ولجؤوا إلى نظرية الكَمّ لدعم وجهة نظرهم ، الأمر الذي نهض له بالنقد العلماء المسلمون المعاصرون ، الذين وظفوا في ردهم على هذا التصور ، بالأحرى التحليل التالي :
– إنَّ إنكار مبدأ السببيّة في العالم الصغير يعني طمس هذا المبدأ بالنسبة للعالم كلّه ، ذلك أنّ السببيّة تجعل الكون كلّه متماسكًا . أو كما قال الشابيستاري ، الصوفي الفارسي : إذا أزحتَ قطعةً واحدة من مكانها هوى الكون كلّه .
– إنَّ تعميم نتائج عدد محدود من التجارب على القوانين العامّة لا يمكن أن يكون معقولاً إلاّ إذا وُجِدَ مبدأ السببيّة . وقد توسّع بلانك Planck في هذا الرأي قائلاً : طبيعيٌّ أن يُقال إنَّ قانون السببيّة ليس سوى افتراض ؛ فإذا كان افتراضًا ، فليس افتراضًا كمعظم الافتراضات الأخرى ، بل هو افتراض أساسي لأنه يمثل الفرضية التي تُعَدُّ ضروريةً لإضفاء المعنى والمنطق على تطبيق كافّة الافتراضات في البحوث العلميّة ، ذلك أنَّ أيَّ افتراضٍ يدلُّ على قاعدةٍ معينة يفترِض مُسبقًا صحّة مبدأ السببيّة .
– إنَّ استحالة التنبُّؤ الدقيق في المجال الذرّي ينجم عن جهلنا بقوانين الحتميّة التي تحكم العالم الصغير ، وقد يرجع ذلك إلى نقص في الأدوات التجريبيّة الضروريّة أو إلى عدم القدرة على قياس تأثيرات الراصِد على التجربة .
– إنَّ إنكار مبدأ السببيّة يعني إنكار التحليل العقلي ، وبما أنَّ أيّ برهان يُعتبَر السبب لقبولنا بالنتيجة المطلوبة ، وإذا كان الرابط بين البرهان والنتيجة غير جوهريّ ، فإن البرهان لا يمكن أن ينتهي إلى النتيجة . وفي هذه الحالة فما من شيء يمكن أن يكون نتيجة برهان كما أنَّ أي برهان قد يؤدي إلى أية نتيجة . واختصارًا فإنه يتوجّب على العلم القبول بمبدأ السببيّة حتى يصبح وجود العلم مُبَرَّرًا .