الحكم بالنقل
إن المتتبع للتأريخ الإسلامي لا يجد كثير عناء في معرفة الإباحة المطلقة لضرب الدفوف والطبول في الصدر الأول من الإسلام سواءً في الأعياد أو المناسبات أو الأفراح أو غيرها .
ومن خير من تتبع هذه المسألة بالتقصي والتحقيق الإمام أبو حامد الغزالي في كتابه ( إحياء علوم الدين ) حيث عقد له كتاباً خاصاً سمّاه ( كتاب آداب السماع والوجد ) اعتمدنا عليه في بحثنا هذا بشيء من التصرف والاختصار(1) ومما ساقه فيه من الأدلة على إباحة وجواز استعمال المسلمين هذه الآلات اخترنا ما يأتي :
يدل عليه من النقل : إنشاد النساء على السطوح بالدف والألحان عند قدوم رسول الله ﷺ :
طلـع البـدر علينـــا مـن ثنيـات الـوداع
وجـب الشكـر علينـــا مـا دعــا لله داع (2) .
فهذا إظهار السرور لقدومه وهو سرور محمود ، فإظهاره بالشعر والنغمات والرقص والحركات أيضاً محمود . وهو جائز في قدوم كل قادم يجوز الفرح به وفي كل سبب مباح من أسباب السرور .
ويدل على هذا أيضاً ما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عقيل عن الزهري عن عروة عن عائشة ( رضي الله عنها ) : أن أبا بكر دخل عليها وعندها جاريتان في أيام منى تدففان وتضربان والنبي متغشٍ بثوبه فانتهرهما أبو بكر فكشف النبي ﷺ عن وجهه وقال : ( دعهما يا أبا بــكر فإنــها أيام عيد )(3) .
وما روي في الصحيحين : قالت عائشة رضي الله عنه : دخل علي رسول الله ﷺ وعندي جاريتان تغنيان بغناءٍ بعاث فاضطجع على الفراش وحول وجهه عنهما، فدخل أبو بكر
فانتهرني وقال : مزمار الشيطان عند رسول الله ، فأقبل عليه رسول الله ﷺ وقال : ( دعهما) فلما غفل غمزتهما فخرجتا (4) .
وما روي عن السيدة عائشة أنها قالت : كان يوم عيد يلعب فيه السودان بالدرق والحراب ، فإما سألت رسول الله ﷺ ، وإما قال : ( تشتهين تنظرين ؟) .
فقلت : نعم ، فأقامني وراءه . . . ويقول : ( دونكم يا بني أرفدة ) . حتى إذا مللت قال : (حسبك ؟) .
قلت : نعم .
قال : (فاذهبي )(5) .
بعد أن ساق الإمام أبو حامد الغزالي هذه الأدلة وغيرها قال : فهذه الأحاديث كلها في الصحيحين ، وهو نص صريح في أن الغناء واللعب ليس بحرام ، وفيها دلالة على أنواع من الرخص :
1. الرخصة في الغناء والضرب بالدف من الجاريتين .
2. منعه لأبي بكر عن الإنكار والتغيير وتعليله بأنه يوم عيد ، أي هو وقت سرور ؟ وهذا من أسباب السرور .
3. الرخصة في اللعب ، ولا يخفى عادة الحبشة في الرقص واللعب [ المصحوب بنقر الطبول ] .
4. فعل ذلك كان في المسجد .
5. قوله ﷺ : ( دونكم يا بني أرفدة ) وهذا أمر باللعب والتماس له ، فكيف يقدر كونه حراماً ؟
6. وقوفه طويلاً في مشاهدة ذلك وسماعه [ وهو رخصة بالفعل والنظر والاستماع ] .
7. قوله ﷺ لعائشة : ( أتشتهين أن تنظري ) ولم يكن ذلك عن اضطرار .
وخلص الإمام أبو حامد الغزالي إلى القول : أن هذه المقاييس والنصوص تدل على إباحة الغناء والرقص والضرب بالدف واللعب بالدرق والحراب والنظر إلى رقص الحبشة والزنوج في أوقات السرور كلها – قياساً على يوم العيد – فإنه وقت سرور ، وفي معناه يوم العرس والوليمة والعقيقة ويوم القدوم من السفر وسائر أسباب الفرح ، وهو كل ما يجوز به الفرح شرعاً ، ويجوز الفرح بزيارة الأخوان ولقائهم واجتماعهم في موضع واحد على طعام أو كلام فهو أيضاً مظنة السماع . أي محل إباحة للإنشاد وضرب الدف أو الطبل .
ونضيف إلى ما تقدم من النصوص الدالة على الإباحة ضرب الدف ما رواه بريدة
قال : خرج رسول الله ﷺ في بعض مغازيه فلما انصرف جاءت جارية سوداء فقالت: يا رسول الله إني كنت نذرت إن ردك الله سالماً أن أضرب بين يديك بالدف وأتغنى .
قال لها : ( إن كنت نذرت فاضربي وإلا فلا ) ، فجعلت تضرب .
فلو كان ضرب الدف معصية لما صح نذرها ، إذ نذر المعصية باطل ، وإن هذا الحديث يشير إلى جواز نذر الضرب بالدف لأي مناسبة ، ويفهم منه عدم التقيد بحالات خاصة .
بل إن الضرب بالدف ليس مباحاً فقط ، بل هو محبب أيضاً ، وذلك حين يفصل ما بين الحرام والحلال ، فقد ورد في أحاديث عديدة منها ما روى الخمسة عن محمد بن حاطب قال : قال رسول الله ﷺ : ( الفصل بين الحرام والحلال الصوت وضرب الدف )(6) والمراد به إعلان الزواج وإشهاره .
وروى عبد الله بن أحمد في المسند أنه كان يكره نكاح السر حتى يضرب بدف .
وأما فيما يتعلق بتخصيص ضرب الدف على النساء والجواري وتحريمه على غيرهن ، فإن ظاهر الأحاديث تقتضي عموم الإباحة للكل ، لأنه ورد في بعض الأحاديث :
( اضربوا ) والواو لجماعة الذكور ، وأنه لو كان حراماً لحرم استماعهم له كبقية آلات اللهو .
الحكم بالقياس
قال الإمام أبو حامد الغزالي راداً على من يقول بحرمة السماع وبضمنه حرمة الضرب في الآلات الموسيقية :
اعلم أن قول القائل : السماع حرام ، معناه أن الله تعالى يعاقب عليه ، وهذا أمر لا يعرف بمجرد العقل ، بل بالسمع ومعرفة الشرعيات محصورة في النص أو القياس على المنصوص . وأعني بالنص : ما أظهره بقوله ، أو فعله . وبالقياس : المعنى المفهوم من ألفاظه وأفعاله . فإن لم يكن التحريم فيه نص ، ولم يستقم فيه قياس على منصوص بطل القول بتحريمه ، وبقي فعلاً لا حرج فيه كسائر المباحات .
ثم رأى بناءً على ما ساق من أدلة نقلية ، أنه لا دليل شرعي على تحريم السماع وما يتضمنه من إنشاد أو ضرب بالدفوف والطبول البتة ، بل على العكس من ذلك فقد دلت النصوص على إباحته .
وأما القياس فقد ذهب فيه إلى ما خلاصته : أن أصوات الطيور الجميلة كالعندليب والقمارى وغيره إنما هي أصوات موزونة متناسبة المطالع والمقاطع بطبيعتها التي خلقها الله تعالى عليها ، وهذه الأصوات هي الأصل في صنع الآلات الموسيقية ، إذ ما من شيء توصل أهل الصناعات بصناعاتهم إلى تصويره إلا وله مثال في الخلقة التي استأثر الله باختراعها وسماع أصواتها يستحيل أن يحرم لكونها طيبة أو موزونة بطبعها ، فلا ذاهــب إلى تحـريم سماعها ، ولا فرق بين حنجرة وحنجرة ، ولا بين جماد وحيوان ، فينبغي أن يقاس على صوت العندليب الأصوات الخارجة من سائر الأجسام باختيار الآدمي ، كالذي يخرج من حلقه أو من القضيب والطبل والدف وغيره .
فكل آلة يستخرج منها صوت مستطاب موزون – سوى ما يعتاده أهل الشرب – كشاهين الرعاة ، وشاهين الطبالين ، وكالطبل والقضيب ، فباقي على أصل الإباحة قياساً على أصوات الطيور وغيرها . قال الله تعالى : ( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زينَةَ اللَّهِ الَّتي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ والطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ )(7) ، فهذه الأصوات لا تحرم .
بل لقد ذهب الإمام أبو حامد الغزالي إلى أن الذي لا يتأثر بالسماع ، ولا يتحرك : ناقص مائل عن الاعتدال ، بعيد عن الروحانية ، زائد في غلظ الطبع والكثافة على الجمال والطيور بل على جميع البهائم ، فإن جميعها تتأثر بالنغمات الموزونة ، ولذلك كانت الطيور تقف على رأس داود لاستماع صوته .
آثار الدف والطبلة ونحوهما في القلب
ذكر الإمام أبو حامد الغزالي : أن للاعتياد على استماع هذه الآلات مشتركة مع الكلمات المسجعة الموزونة لأغراض مخصوصة ، آثاراً قـوية ومحمــودة في القلب ، وهي فيما قال سبعة مواضع ، اخترنا منها :
الأول
غناء الحجيج ، فإنهم يدورون في البلاد بالطبل والغناء ، وذلك مباح ، لأنها أشعار نظمت في وصف الكعبة والمقام والحطيم وزمزم وسائر المشاعر ، وأثر ذلك يهيج الشوق إلى حج بيت الله تعالى ، واشتعال نيرانه إن كان ثمة شوق حاصل ، أو استثارة الشوق واجتلابه إن لم يكن حاصلاً .
وإذا كان الحج قربة والشوق إليه محموداً ، كان التشويق إليه بكل ما يشوق محموداً ، وكما يجوز للواعظ أن ينظم كلامه في الوعظ ويزينه بالسجع ويشوق الناس إلى الحج ، جاز لغيره نظم الشعر ، فإن الوزن إذا انضاف إلى السجع صار الكلام أوقع في القلب ، فإذا أضيف إليه صوت طيب ونغمات موزونة زاد وقعه ، فإن أضيف إليه الطبل وحركات الإيقاع زاد التأثير وكل ذلك جائز .
الثاني
ما يعتاده الغزاة لتحريض الناس على الغزو ( الجهاد ) ، وذلك أيضاً مباح كما للحاج ، وطرق الأوزان الشعرية المشجعة تخالف الطرق المشوقة ، وهذا أيضاً مباح في وقت يباح فيه الغزو .
الثالث
السماع في أوقات السرور وتهييجاً له ، وهو مباح إن كان ذلك السرور مباحاً ، كالغناء في أيام العيد ، وفي العرس ، وفي وقت قدوم الغائب ، وفي وقت الوليمة والعقيقة ، وعند ولادة المولود ، وعند ختانه ، وعند حفظه القرآن العزيز ، وكل ذلك مباح لأجل إظهار السرور به .
وقد نقل عن عدد من الصحابة أنهم حجلوا في سرور أصابهم (8) . وهو جائز في قدوم كل قادم يجوز الفرح به ، وفي سبب كل مباح من أسباب السرور .
الرابع
سماع من أحب الله وعشقه واشتاق إلى لقائه ، فلا ينظر إلى شيء إلا رآه فيه ، فالسماع في حقه ، مهيج لشوقه ، ومؤكد لعشقه وحبه ، ومستخرج منه أحوالاً من المكاشفات والملاطفات لا يحيط الوصف بها يعرفها من ذاقها وينكرها من كَلَّ حسه عن ذوقها ، وتسمى تلك الأحوال بلسان الصوفية : وجداً مأخوذة من الوجود ، ثم تكون تلك الأحوال أسباباً لروادف وتوابع لها تحرق القلب بنيرانها وتنقيه من الكدورات ، كما تنقي النار الجواهر المعروضة عليها من الخبث ، ثم يتبع الصفاء الحاصل به مشاهدات ومكاشفات ، وهي غاية مطالب المحبين لله تعالى ، ونهاية ثمرة القربات كلها . فالمفضي إليها ( يقصد المدائح والضرب بالدفوف والطبول ) من جملة القربات لا من جملة المعاصي والمباحات .
وقد خلص الإمام أبو حامد الغزالي في كتابه إلى النتيجة التالية :
أن الآلة إذا كانت من شعار أهل الفساد كالمزامير والأوتار ، فهي ممنوعة ، لأنها مظنة التشبه بهم ، وما عدا ذلك يبقى على أصل الإباحة كالدف – وإن كان فيه الجلاجل – وكالطبل والضرب بالقضيب وسائر الآلات .
فهذا ما أردنا أن نذكره من حكم الضرب على الدف والطبل في المحافل الدينية أو الاجتماعية ، وقد ظهر على القطع إباحته في بعض المواضع ، والندب إليه في بعض المواضع .
الهوامش:
[1] انظر التفاصيل المقتبسة متفرقة في كتاب إحياء علوم الدين – ج 2 ص 268 – 282 .
[2] أخرجه البيهقي في دلائل النبوة من حديث عائشة .
[3] صحيح البخاري ج 1 ص 335 رقم 944 .
[4] صحيح مسلم ج -2 ص: 609 .
[5] صحيح مسلم ج -2 ص: 609 .
[6] صحيح البخاري ج-1 ص: 28 .
[7] الأعراف : 32 .
[8] اخرجه أبو داود من حديث علي .
المصادر:السيد الشيخ محمد الكسنزان – موسوعة الكسنزان فيما اصطلح عليه اهل التصوف والعرفان ج 8مادة(د ف ف) .