الشيخ محمد السمنودي :
« ( الخلوة ) اشترطوا لها أربعة وعشرين شرطاً أذكرها لك تتميماً للفائدة .
الأول أن يعود نفسه السهر والذكر وخفة الأكل والعزلة كما تقدم حتى يتمرن على ذلك . أن يستأذن الشيخ في دخولها ولا يدخلها بلا إذن البتة ما دام في حجر التربية .
الثاني : أن يدخلها على نية حبس نفسه عن الناس ليريحهم من شره وضره ويرتاح من شرهم وضرهم .
الرابع أن يدخلها كما يدخل المسجد متعوذاً مبسملاً مخلصاً لله تعالى .
الخامس أن يدخل الشيخ قبله ويركع فيها ركعتين بجمعية منه فإن ذلك يقرب الفتح على المريد .
السادس أن يعتقد أن الله ليس كمثله شيء ولا تدركه الأبصار وأنه لا يأمر بالفحشاء ولا بترك الأعمال الصالحة في عموم إقامته إذا حدث له شيء في خلوته وقال أنا الله أو أنت ولي أو حبيبي أو قد أبحتك حضرتي فأرح نفسك من العنا والمشقة فلست أغضى عليك بعد هذا اليوم فليعلم أن هذا الخطاب لا يخلو أما أن يكون من جهة أو لا فإن كان من جهة فهو من الشيطان قطعاً فليتعوذ بالله وليتحصن بالذكر والإخلاص وقراءة القرآن إن كان قارئاً وإن كان من غير جهة فهو من الحق سبحانه وتعالى لكن لا يخلو ما أن يكون من باب المكر أو من باب الرضى الدائم كما وقع لأهل بدر .
وعلامة الثاني أن يصحبه الحفظ وعلامة الأول أن يصحبه الميل إلى الراحات والشهوات فيستعيذ بالله من الله كما في الحديث ( أعوذ بك منك )(1) ويتحفظ من الأول بدليل الاعتقاد العلمي الإيماني بأن الله تعالى ليس كمثله شيء ولا تدركه الأبصار ونحو ذلك فإنه ينصرف عنه خائباً وينجو منه ومن أضلاله ولا بد من تلبسه بعمل قولي أو فعلي يشغل به نفسه لما قيل إن النفس دائمة الاشتغال إن لم تشغلها بالحق اشغلتك بالباطل .
السابع أن لا يعلق نفسه بكرامة ولو غرض عليه أنواع الكرامات لكن يقبل ما يرد عليه من الله بحسن الأدب ولا يقف معه فإنه مهما وقف مع شيء فهو غايته وبحسن الظن بالله وليقل رب زدني علماً .
الثامن أن لا يسند ظهره إلى جدار ولا يتكئ عن شيء ويكون مطرقاً رأسه مغمضاً عينيه .
التاسع أن يشتغل قلبه بالمراقبة لربه مستحضراً جلوسه بين يديه لقوله تعالى : ( أنا جليس من ذكرني )(2) .
العاشر أن تكون الخلوة مظلمة لا يدخلها شعاع الشمس ينبغي أن يكون ارتفاعها قدر قامتك وطولها قدر سجودك وعرضها قدر جلستك ولا يكون فيها ناس وإن أمكن أن يبيت عندك أحد بحيث يكون قريباً من باب الخلوة كان أحسن لكن بشرط أن لا يكثروا من الحركة ويشتغل قلبك بهم ولا تكثر أنت الحركة فيها .
الحادي عشر الصوم مع تقليل الأكل عند الفطر وعليه تقليل الماء حسب الجهد والطاقة فإن ذلك مما يوجب تقليل الأجزاء الهوائية والنارية ويصفوا القلب بذلك .
الثاني عشر دوام الوضوء فإنه نور ظاهر مع استدامة استقبال القبلة فيها .
الثالث عشر السكوت إلا عن ذكر الله أو ما دعت إليه ضرورة شرعية وما عدا ذلك محبط للعمل مذهب نور القلب .
الرابع عشر إذا خرج من خلوته لوضوء يخرج مطرقاً رأسه غير ناظر إلى شيء إلا لحاجة فإنهم يكرهون فضول النظر كما يكرهون فضول الطعام مغبطاً رأسه بشيء مستدرياً من الهوى لئلا يصيبه وأعضاؤه مخلخلة من الذكر .
الخامس عشر المحافظة على الجمعة والجماعة فإن المراد الأعظم من الخلوة عند القوم متابعة النبي ﷺ وفي ترك ذلك خلل عظيم في المتابعة حيث كان في المسجد الذي تقام فيه أو يقتدي بشخص وهو داخل الخلوة وهو يراه ويفتح الباب اللهم إلا أن يغلب عليه الحال ويستولي فإن استولى عليه الحال فالحكم له وهو عذر طاهر .
وقال السهروردي رأينا من تشوش عقله في خلوته ولعل ذلك من ترك الجماعة ولا يجلس مع الناس بعد الصلاة ويصلي السنة في الخلوة والرواتب والركعتين عند طهارته من الحدث ولا يقتصر على الفرائض ويأتي بأوراد الطريق جميعاً .
السادس عشر المحافظة على الأمر الأوسط بين الجوع والشبع وما ينبغي له أن كان وقت الفطر لم يجد نفسه تابعة للأكل والشرب أن يفطر على زبيبة أو لوزة لأن تعجيل الفطر سنة أو جرعة ماء ثم يقوم إلى الصلاة فإذا أتمها بأدبها فليحضر بعد ذلك المعد لغذائه فيها وإذا كان عنده من يخدمه فليجعل ذلك شوربة أرز ولا يجعل فيها ملحاً إلا أن كان بحيث لم تظهر ملوحته للذائق وليكن الذي يأكله من الشعير وإلا من البر من غير ملح فيه أيضاً هذا إذا لم يحصل له مشته بتأخير العشاء والا قدمه وشرط بعض الشيوخ أن يكون طعام المختلي دسماً لم ينفصل من حيوان السابع عشر أن لا ينام إلا عن غلبة وحد الغلية أن يتشوش عليه الذكر ولا ينام لراحة البدن بل أن قدر أن لا يضع جنبه على الأرض وينام جالساً فعل فإن النوم يسمى الرطوبة وبنمو الرطوبة تشتغل الأجزاء الترابية فيتكدر صفو القلب وتتثبط الروح عن الترقي في الملكوت فلا يحصل له نتيجة الخلوة .
الثامن عشر نفي الخواطر كلها خيراً كانت أو شراً لأن الخواطر تفرق القلب عن الجمعية الحاصلة بالذكر إلا أن يبلغ درجة التميز فإنه عند ذلك ينفي ما يحب نفيه وينفي ما يحب بقاءه وإنما كان المريد ينفي الخواطر كلها لأنه دخل في الطريق لا تميز له بين الخواطر التي ترد على الضمائر والوارد عليها في اليوم والليلة اثنان وسبعون ألف خاطر لأنها تارة تكون بإلقاء الحق وتارة بإلقاء الشيطان ويكون بإغواء النفس .
فإن كان من قبل الله يسمى حديثاً ، وإن كان من قبل الملك يسمى هاتفاً وإن كان من قبل الشيطان يسمى وسواساً وإن كان من قبل النفس يسمى هاجساً فكل ما فيه قربة فهو من الأول والثاني وكل ما فيه مخالفة أو موافقة معلولة فهو من الثالث والرابع ولكل واحد من الأربعة علامة يتميز بها عن الآخر فينبغي إذا خطر له خاطر أن ينظر ما يعقبه فإن أعقبه برد ولذة ولم يجد له الما ولم تتغير له صورة فهو الملكي وينزل علماً وإن أعقبه تهويش في الأعضاء أو ألم كان الشيطان وينزل تخبيطاً وأما إذا أعقبه في القلب ألم أو في الصدر ضيق أو في الصلب [ تكزاز ] كان النفس لأن النفس إذا طلبت شيئاً من الشهوات الحت في طلبه فقد شبهوها بالطفل الصغير إذا أخذت منه إليه بخلاف الشيطان فإن مقصوده الإغواء بأي وجه كان وأما إذا كان له على القلب شبكة وليس للنفس ولا للشيطان معه دخل بحال ولا للملك عليه اعتراض ولا يرد بأمر ولا نهي ولم يندفع بالدفع فهو الأول فإن له على القلب حاكماً كالسبع الضاري على الفريسة الضعيفة لكن هذا الفرق يحتاج إلى صفا قلب وسريرة .
وقال بعضهم إذا كان الخاطر من قبل الله تعالى كان تنبيهاً للعبد وإيقاظاً له وإن كان من قبل الملك يكون تحريضاً على العبادة وإن كان من قبل القلب وافق الملك وإن كان من قبل الشيطان يكون تزييناً لمعصيته وربما يدعو الشيطان إلى عبادة ويحرض عليها أو على ذكر آخر أو على شهوة فيشتبه بالنفسي والملكي وإنما يفرق بينهما بأن الخاطر الملكي يتولد منه السكون والشيطاني تعقبه الوحشة والتثاقل والنفس تلح في الطلب وتبالغ ولا تقبل البدل كما تقدم فلا ينتفي هذا الخاطر إلا بنفي تام وجد بليغ جمع الأشياخ على أن النفس لا تصدق وإن القلب لا يكذب تنبيه من قصر فهمه عن إدراك حقيقة الخواطر والتبس عليه الأمر فليزن الخاطر بميزان الشرع فإن كان فرضاً أو نقلاً يمضه أو محرماً أو مكروهاً ينفيه فإن استوى الخاطران في نظر العلم ينفي قربهما إلى مخالفة هوى النفس فإن النفس يكون لها هوى كامن في أحدهما والغالب في شأنها الاعوجاج والركون إلى الدون وقد يعبر عن الخاطر بالوارد وكلاهما بمعنى واحد .
وقيل يفرق بينهما بأن الوارد كالبرق يلوح ثم يروح والخاطر يمكث أكثر من الوارد لأن مكث الوارد لحظة أو ساعة وإذا زاد في مكثه فيوما فإن زاد على ذلك فهو الخاطر .
ومن علامات الخاطر أن يمكث ثلاثة أيام ومن علامات الوارد الإلهي والخاطر الإلهي أن العبد من دام مستغرقاً مع الله غائباً به عمن سواه فأفعاله كلها تصدر عن الله من أي قسم كانت سواء كانت من الباطن والظاهر أو من عالم الغيب أو من عالم الشهادة أو من إدراكات العقل أو من غيره ومن علاماته أيضاً إذا رجع عن أفعاله لا يمين ما فعل من فعل ما من أكل أو شرب أو غير ذلك من أمر الأفعال فكان في ذلك الوقت فعالاً بالله لا أنه ينشأ من خلق جديد .
وأشار صاحب الإنسان الكامل بقوله يأكلون ويشربون ويحلفون أنهم لا يأكلون ولا يشربون وهم عند الله بارون صادقون لتصديق الحق تعالى لهم في ذلك على أن أفعالهم ليست صادرة عنهم وإنما هي كلها من الله لأنها أفعال حميدة وعلامة الأفعال الحميدة السنية أن تكون دالة على الله في كل من الأفعال أو حال من الأحوال وإنها ليست متعلقة بأكوان بل طائرة عن الأكوان في طلب صاحب الأكوان .
والوارد الملكي يرد من عالم الملكوت .
وفي اصطلاح السادة الصوفية إن عالم الملك هو البشرية وعالم الملكوت هو الروحانية لأن الروحانية متعلقة بالنفس لقول بعضهم ما دمت بشر أنت بشر أي ما دمت مع نفسك الحيوانية فأنت في أفعالك الدنية غرقان في بحر أكدار البشرية لأن البشرية هي النفس الحيوانية .
ومن علامات الدخول في مقام الروحانية أن تخلص من أوصاف نفسه الحيوانية ومن أفعالها الردية حتى لا يبقى عليه منها بقية وتكون أفعاله كلها طيبة سنية لأنها صادرة من النفس المرضية ومعرفة هذه الخواطر أهم الأمور على المريد في الخلوة يستعين بذلك على عدو به النفس والشيطان سيما في هذا الحال الذي زلت فيه الإقدام إلا من عصمه الله وقليل ما هم .
قال شيخنا البكري في هدية الأحباب ومما ينفع في طرد الخواطر عن القلب إذ تعجمت عليه واشغلته عن ربه إذا كان على طهارة أن يجدد الوضوء فإن لم تذهب فليرفع الصوت بالذكر إلى أن تقل ثم يعود إلى خفضه بعد ذلك فإن لم تقل برفع صوته فليتوجه بهمته إلى شيخه في دفعها فإذا ذهبت ثم عادت فليضع يده على قلبه وليقل سبحان الملك القدوس الفعال الخلاق سبع مرات ثم يقل : ( إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز )(3) .
وقيل إنها تنفع في زوال الوسواس بالملازمة عليها خلف الصلوات سبعاً أو ثلاثاً وذكر البوني في شمس المعارف الصغرى إن مما ينفع لدفع استيلاء الخواطر على القلب أن يتوضأ ويذكر يا قدير فلهذا تذهب عنه ثم قال وإذا وجد أي المختلي استرخاء في بدنه واستشعر بالضعف فليغتسل وليذكر يا قوي إلى أن ينقطع نفسه سبعة أنفاس فإن الله تعالى يحدث فيه قوة باطنة وظاهرة .
ثم قال ومن أدركه جوعه وقلق وتشوش خاطره من اختلاف الأفكار فليتوضأ ويذكر يا أمين يا هادي سبعة أنفاس كاملة كما تقدم فإن الله يذهب جوعه عنه ويسكن خاطره ويصفي وقته أنتهى .
وذكر غيرهم إن مما يقع للجوع اسمه تعالى الصمد فإنه إذا ذكره الجائع ظهر أثره في الحال واسمه تعالى الجليل يتلوه الضمآن يسكن ظماؤه .
وقيل سورة تبارك إذا تلاها الإنسان ويده على قلبه سكن عطشه .
التاسع عشر دوام ربط قلبه بالشيخ واستفساره علم الوقائع منه على وجه التسليم فإن الأستاذ باب المريد الذي يدخل منه على رسول الله ﷺ ولذلك يجب رعايته بالظاهر والباطن .
العشرون أن لا يفتح باب الخلوة لطارق يطرق عليه إلا لشيخه ويرد الجواب بآية من القرآن إن أمكنه ولا يكلمه إلا كلمة واحدة لا يزيد عليها أو يقصد بكلمته الذكر ولا يتكلم مع غير شيخه مدة الخلوة وإن ذلك مما يفسد عليه خلوته فإذا أقام الشيخ خادماً فلا يزيد في الكلام على الحاجة من أربع كلم إلى ثلاث ومن ثلاث إلى اثنين ثم إلى واحدة فإن الكلام مفسد وتفريق للجمعية .
الحادي والعشرون إذا رأى شيئاً في الواقعة فلا يستحسنه ولا يطلب من الشيخ تأويله وربما لا يرى الشيخ مصلحة في التأويل ولا يكتم من الشيخ واقعة لقبحها ولا لحسنها فإنه يكون خائناً والله لا يحب الخائنين .
فإن قال الشيخ هذا نفسي أو شيطاني أو غير ذلك وجب عليه اعتماده ما لم يصل إلى الذوق فإن وصل وذاق الخاطر وعرفه وميزه عن غيره وحسن الفرق بين الشهد والحنظل فلا بأس باعتماده على معرفته وأما معرفته لذلك بالعبارة فيصعب نوع صعوبة فلهذا نسب مبدأ هذا الأمر إلى منتهاه فإن مبدأه مرض ومنتهاه صحة فإن القلب داء وأمراض في الابتداء فإذا داواه الشيخ الحاذق صح وصار سليماً وإذا صح القلب وسلم ذوقه سلمت الاتباع كلها .
الثاني والعشرون دوام الذكر وهو لا إله إلا الله كما اختاره الجنيد وجماعة والله على ما اختاره بعض المتأخرين .
وقال الشيخ دمرداس إن الذكر في الخلوة يكون بما يعطيه الشيخ للمريد حسب ما يرى …
وقال بعضهم : المبتدئ لا إله إلا الله والنتهي بذكر الله .
وقال بعضهم التحقيق أن ذلك راجع إلى الذاكر فإن وجد التأثير في قلبه بلا إله إلا الله لزمه وأكثر منه وإن وجد التأثير بالله لزمه وأكثر منه وأجمع المشايخ المرشدون أن المريد لم يسلك طريقاً أقرب ولا أوضح من الذكر فلا يشتغل بسواه ما عدا السنن والفرائض .
وقال في هدية الأحباب على المريد أن يشتغل بجميع أوراد الطريق والا يخل بأدب من آدابها كما تقدم وينبغي أن يشهد الذاكر أن المحرك له في الذكر هو الله عز وجل ولا قدرة له فيكون الله تعالى بهذه الملاحظة هو الذاكر .
الثالث والعشرون الإخلاص وهو حسم مادة الرياء والشرك الخفي فإن ذلك محبط للعمل قال تعالى فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً .
الرابع والعشرون أن لا يعين مدة الخلوة فلا يحدث نفسه بالخروج منها بعد الأربعين يوماً فإن حدث نفسه بذلك فقد خرج في اليوم الأول ولكن يحدثها بأنها قبرها إلى يوم القيامة وهذا دقيق لا ينتبه له التابعون ولا يأنس إلى الخلوة حتى يجانب كل من عاشره وصاحبه فيستوحش من ضدها ثم يستأنس بذكر الله عز وجل ثم لم يزل مستأنساً بالذكر حتى تنقطع عنه الأضداد ثم يأخذ من هنا في بداية الخلوة المعنوية فيكون بصورته مع الأغيار وبمعناه مع الله تعالى ويؤيد ذلك قول الجنيد لمريده إذا كان أنسكم بالله في الخلوة ذهب أنسكم إذا خرجتم منها »(4) .