حسن مظفر الرزو
يقف الصوفي في عصرنا الراهن في مقام برزخي وصفته بدقة الآية الكريمة (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ )[1]. فالبحران هما بحر الشريعة الذي تمتد أطرافه لتشمل جميع مفردات عالم الشهادة وتشعباتها، وبحر الحقيقة الذي لا قرار لتخومه حيث تنتشر آثاره على عالم الأمر، وحيث الغيب والأمر الإلهي.
وعلى هذا الأساس نجد الصوفي يقف دائماً بين ضدين، ومشاهدة نقيضين. ينفي ويثبت، لا يستقر به قرار، ولا تطمئن به دار، متحرك ساكن، وراحل قاطن مع أحواله ومقاماته.
يشاهد أمور الدنيا من عولمة، وتدفق المعلومات، وطغيان أنشطة الانترنيت، والتجارة الرقمية، من خلال قوله تعالى ( اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ )[2] .
وينظر الى دائرة الحقيقة من خلال قوله تعالى ( لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا)[3] فيعتقد يقيناً بأن جميع التيارات العولمية التي تعصف بمفردات عالمنا المعاصر هي نتيجة حتمية لتجليات إلهية على الكون، نشأ عنها ما نراه من متغيرات سريعة، في عالم الشهادة، لا حول للإنسان بها ولا قوة، فيقبل بها، ويقبل على التعامل معها من خلال معايير الشريعة، مستهدياً بأنوار الطريقة، ولا يعدها من الأمور التي ينبغي الوقوف بوجهها، أو يناصبها العداء.
فينصاع الى الأمر الإلهي عند تعامله مع المتغيرات العولمية والمعلوماتية، ويقتفي ما جاء في ظاهر الشريعة دون أن يقحم نفسه في محاولة لتأويل النص، حيث تبزغ آثار النفس الأمارة بالسوء، وتغيب آثار النفس المطمئنة. ودليله في هذا السلوك قوله تعالى ( فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ )[4] .
ويشاهد حقيقة الأمر بأن كل الأفعال التي تصدر عنه، ليست سوى أمر إلهي متوجّه نحو عالم الشهادة، فليس سوى أمر الله يمسك بزمام الأمر كله بدليل قوله تعالى ( فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى )[5] .
ثم لا يلبث أن يسود نفسه يقين مطلق بأن كل ما نعيشه الآن، مصدره إلهي صرف، وليس كما يتوهم البعض بأنها آثار جانبية لأفعال بشرية، عندما يلقى في روعه قوله تعالى ( ليس لك من الأمر شيء)[6]. ثم تترسخ في نفسه حقيقة أن كل ما يطرأ من أمور حوله هي بلاء وفتنة في خيّرها وشرّها لقوله تعالى ( وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ )[7] .
ثم ترنو أنظاره الى أصحاب الطريقة العلية، الذين تمسكوا بحدود الشريعة، وآداب الطريقة، فيجد معهم طمأنينة، وتحقق السلامة من الانحدار مع آفات الدنيا وزينتها، بعد أن يلقى في روعه قوله تعالى ( إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ )[8] . آنذاك تنجلي أمامه مقامات عبوديته المطلقة للبارئ عز وجل، ويعلم علم يقين بأن عليه مداومة المراقبة في كل حركة وسكنة يقوم بها. لأن مآله الى الله تعالى كما أخبرنا البارئ عز وجل بقوله ( إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا )[9] .
فتنمحق ذاته، وتخفت نداءات الجزء الدنيوي منه، ويطمئن قلبه عندما يتحقق لبصيرته الصوفية بأن كل ما يسري في الكون بقدر، وأن كل الحسابات الرياضية، والإحصائيات بالغة التعقيد، التي تقوم بها الحاسبات الإلكترونية، والمؤسسات العولمية العلمية والتجارية، والصناعية لا يمكن أن تتجاوز العقبة التي حددها الأمر الإلهي لها. ودليله على ذلك قوله تعالى ( إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَر)[10].
وهكذا سيبقى الصوفي ، في عصرنا الراهن، بين نارين، نار الشريعة والأمور التي تدور في فلكها، ونار الحقيقة والأحوال التي تتوالى نفحاتها على ذاته بالليل والنهار. فالشريعة تطالبه بالحقيقة لكي يستهدي بأنوارها، والحقيقة تطالبه بالشريعة لكي يلتزم بحدودها وآدابها، وهذا هو الابتلاء الذي أشار إليه رسول الله ﷺ بقوله ( إِنَّ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ بَلَاءً الْأَنْبِيَاءَ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ)[11].
وعند مركز هذه الدائرة الاحاطية لا يتبقى أمامه لكي يلتزم بحدود الشريعة ، ويتمسك بأهداب الطريقة، إلا أن يلتزم بفحوى خطاب آخر آية أنزلت على قلب رسول ﷺ ، فختمت باب وحي جبريل عليه السلام، وختمت رسالة خاتم الرسل صلى الله عليه وسلم، واستكملت دائرة الحقيقة المحمدية الجامعة بقوله تعالى : (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ )[12] .
فيلتزم بشعار التقوى، ويتدثر بدثار الإحسان، لأنهما أنجع عقار شافي لصوفية عصر العولمة والمعلومات، ويترك الالتفات الى دائرة الدنياـ إلا من جهة كونها وسط لسريان أوامر الشريعة من جهة، وقوابل لآثار الحقيقة بحسب ما حباها الله تعالى من استعداد، وأكرمها من أنوار الاستمداد، من جهة أخرى.
الهوامش:
[1] . سورة الرحمن : آية 20.
[2] . سورة التوبة : آية 106.
[3] . سورة البقرة : آية 264.
[4] . سورة النساء : آية 90.
[5] . سورة الأنفال : آية 17.
[6] . سورة آل عمران : آية 128.
[7] . سورة الأنبياء : آية 35.
[8] . سورة الفتح : آية 10.
[9] . سورة مريم : آية 94.
[10] . سورة القمر : آية 49.
[11] . أخرجه الإمام أحمد في مسنده : الحديث 25832.
[12] . سورة البقرة : آية 281.