إن الحوار الهادئ ينمي عقل الطفل ويوسع مداركه ويزيد من نشاطه في الكشف عن حقائق الأمور ومجريات الحوادث والأيام وإن تدريب الطفل على المناقشة والحوار يقفز بالوالدين إلى قمة التربية والبناء إذ عندهم يستطيع الطفل أن يعبر عن حقوقه وبإمكانه أن يسأل عن مجاهيل لم يدركها وبالتالي تحدث الانطلاقة الفكرية له ، فيغدو في مجالس الكبار ، فإذا لوجوده أثر ، وإذا لآرائه الفكرية صدى في نفوس الكبار ؛ لأنه تدرب في بيته مع والديه على الحوار وأدبه وطرقه وأساليبه .. واكتسب خبرة الحوار من والديه . أما ما يفعله بعضهم بإلزام الطفل السكوت الدائم ليدل على التهذيب الأخلاقي والصمت التام والأدب الرفيع فإن هذا طيب وجيد بشرط أن تكون للطفل القدرة على التعبير عن أفكاره واستطاعته الحوار بأدب وخلق جم . وإن رسول الله حاور الطفل بهدوء وروية عندما سأله عن عدد الجيش – كما تقدم – أما الصحابة فكانوا يضربونه فلا يجيبهم . وأن رسول الله حاور الفتى المقبل على طلب الزنا بشكل هادئ فقام الفتى وقد أبغض الزنا بغضاً شديداً .
وقد تقدم في قيام الأطفال لليل حديث ابن عباس – الذي رواه البخاري وحرصه على القيام وفي رواية ثانية زيادة : نتعلم منها محاورة الرسول مع الطفل الناشئ ابن عباس وإليك الحوار الهادئ اللطيف : عن ابن عباس – أنه قال : بت عند خالتي ميمونة لأراقب صلاة رسول الله فانتبه رسول الله وقال : نامت العيون وغارت النجوم وبقى الحي القيوم ثم قرأ آخر آل عمران : إن في خلق السموات والأرض ثم قام إلى شن معلق في الهواء فتوضأ وافتتح الصلاة فتوضأت ووقفت عن يساره فأخذ بأذني ، وفي رواية : بذؤابتي وأدارني خلفه حتى أقامني عن يمينه فعدت إلى مكاني فأعادني ثانياً وثالثاً ، فلما فرغ قال : ما منعك يا غلام أن تثبت في الموضع الذي أوقفتك فيه ؟ فقلت : أنت رسول الله ، ولا ينبغي لأحد يساويك ، فقال : اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل .
ويحاور طفلاً يريد الدخول في المعركة بكل هدوء وروية ويسمع رأيه وينصفه .
عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال : أيّمَتْ أمي وقدمت المدينة فخطبها الناس فقالت : لا أتزوج إلا برجل يكفل لي هذا اليتيم ، فتزوجها رجل من الأنصار ، قال : فكان رسول الله يعرض غلمان الأنصار في كل عام ، فيلحق من أدرك منهم ، قال : فعرضت عاماً ، فألحق غلاماً ، وردّني ، فقلت : يا رسول الله ، لقد ألحقته ورددتني ولو صارعته لصرعته ، قال : ( فصارعه ) فصارعته فصرعته ، فألحقني . رواه الحاكم في مستدركه 2/60 . وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه وأقره الذهبي .
كما يدرب الطفل أثناء الحوار على احترام رأي الطرف الآخر وخاصة إن كان له دليل شرعي إن كان الحوار في الأدلة الشرعية وإن كان الحوار في الأمور الظنية والاحتمالات العقلية ، فيعلم أن يوسع صدره لذلك ، إذ كلما زادت الآراء الظنية والاحتمالات الفكرية العقلية فإن العقل يزداد نضوجاً وتتوسع دائرة الخيال الفكري ويبدأ الترجيح بين تلك الاحتمالات من مؤيدات أخرى . فعن محمد بن أبي بكر الثقفي قال : سألت أنساً رضي الله عنه ونحن غاديان من منى إلى عرفات – عن التلبية ؟ كيف كنتم تصنعون مع النبي (صلى الله عليه وسلم) قال : كان يلبي الملبي لا ينكر عليه ويكبر المكبر فلا ينكر عليه ، متفق عليه .
إن الإنكار لا يكون إلا في حالة واحدة ألا وهي حالة إجماع الأمة فمن خالف الإجماع فإنه ينكر عليه لأن رأيه أصبح شاذاً خرج عن الأمة وفقهائها فهذا الرأي هو الذي يشق المسلمين : ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً وأما عدا الإجماع فإن الحوار الفكري قائم ومستمر إلى يوم القيامة لذا نرى في المذاهب الفقهية الأربعة المعتبرة قولهم : وعليه الفتوى وهذا الأصح وهذا الأصح وهذا صحيح فينزلون الآراء منازلهم وما ذلك إلا دليل النضج العقلي الفقهي لأولئك الأئمة رحمهم الله تعالى .
وسار الصحابة بعد ذلك على منهج النبوة فهذا عمر بن الخطاب أمير المؤمنين يشكو إليه أب عقوق ولده فما كان عمر إلا أن استدعى الابن ليفهم الحقيقة فقال عمر للابن: ما حملك على عقوق أبيك ؟ فقال يا أمير المؤمنين ما حق الولد على أبيه ؟ قال: أن يحسن اسمه وأن يحسن اختيار أمه وأن يعلمه الكتاب فقال : يا أمير المؤمنين إن أبي لم يفعل شيئاً من ذلك فالتفت عمر للأب ، وقال له : لقد عققت ولدك قبل أن يعقك . وكان عمر يحاور الصبيان حتى إنه يستشيرهم في الأمور المهمة .
حينما ولي الخلافة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وفدت الوفود من كل بلد لبيان حاجتها وللتهنئة فوفد عليه الحجازيون فتقدم غلام هاشمي للكلام وكان حدث السن فقال عمر : لينطق من هو أسن منك فقال الغلام أصلح الله أمير المؤمنين إنما المرء بأصغريه قلبه ولسانه فإذا منح الله عبداً لساناً لافظاً وقلباً حافظاً فقد استحق الكلام وعرف فضله من سمع خطابه ولو أن الأمر يا أمير المؤمنين بالسن لكان في الأمة من هو أحق بمجلسك هذا منك ، فقال عمر : صدقت ، قل ما بدا لك ، فقال الغلام : أصلح الله أمير المؤمنين نحن وفد تهنئة لا وفد مرزئة ، وقد أتيناك لمن الله الذي من علينا بك ولم يقدمنا إليك رغبة ورهبة ، أما الرغبة فقد أتيناك من بلادنا ، وأما الرهبة فقد أمنّا جورك بعدلك ، فقال عمر : عظني يا غلام ، فقال الغلام : أصلح الله أمير المؤمنين ، إن ناساً من الناس غمرهم حلم الله عنهم وطول أملهم وكثرة ثناء الناس عليهم فزلت بهم الأقدام فهووا في النار فلا يغرنك حلم الله عنك وطول أملك وكثرة ثناء الناس عليك فتزل قدمك فتلحق بالقوم فلا جعلك الله منهم وألحقك بصالحي هذه الأمة ، ثم سكت ، فقال عمر : كم عمر الغلام ؟ فقيل هو ابن إحدى عشرة سنة ، ثم سأل عنه ، فإذا هو من ولد سيدنا الحسين بن علي فأثنى عليه ، ودعا له .
وعن مصعب بن سعد قال : كان أبي إذا صلى في المسجد تجوّز ، وأتم الركوع والسجود ، وإذا صلى في البيت أطال الركوع والسجود والصلاة ، قلت : يا أبتاه ، إذا صليت في المسجد جوزت ، وإذا صليت في البيت أطلت ، قال : يا بني إنا أئمة يقتدى بنا . رواه الطبراني في الكبير ورجاله رجال الصحيح كذا قاله الهيثمي في المجمع (1/182 ) .
ونورد فيما يلي نموذجاً حياً في الحوار الهادئ كان سبباً في تصحيح مسار إمام كبير ، فقد رأى الإمام أبو حنيفة غلاماً يلعب بالطين فقال له : يا غلام ! إياك والسقوط في الطين فقال الغلام للإمام : إياك أنت من السقوط ؛ لأن سقوط العالِم سقوط العالَم ، فكان أبو حنيفة لا يفتي بعد سماع هذه الكلمة إلا بعد مدارسة المسألة شهراً كاملاً مع تلامذته .
وروى الخطيب بسنده إلى مجاشع بن يوسف أنه قال : كنت بالمدينة عند مالك (ابن أنس) وهو يفتي الناس ، فدخل عليه محمد بن الحسن ، صاحب أبي حنيفة – وهو حدث – وذلك قبل أن يرحل إليه لسماع الموطأ منه ، فقال محمد : ما تقول في جنب لا يجد الماء إلا في المسجد ؟ فقال مالك : لا يدخل الجنب المسجد ، قال محمد : فكيف يصنع وقد حضرت الصلاة وهو يرى الماء ؟ قال : فجعل مالك يكرر : لا يدخل الجنب المسجد ، فلما أكثر عليه ، قال له مالك ، فما تقول أنت في هذا ؟ قال : يتيمم ويدخل ، فيأخذ الماء من المسجد ، ويخرج فيغتسل ، قال من أين أنت ؟ قال : من أهل هذه ، وأشار إلى الأرض ، ثم نهض ، قالوا : هذا محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة ، فقال مالك : محمد بن الحسن كيف يكذب ؟ وقد ذكر أنه من أهل المدينة ، قالوا : إنما قال من أهل هذه ، وأشار إلى الأرض ، قال : هذا أشد علي من ذاك .
ويقول الجنيد : كنت بين يدي السري ألعب ، وأنا ابن سبع سنين ، وبين يديه جماعة يتكلمون في الشكر ، فقال لي : يا غلام ما الشكر ؟ فقلت : لا تعصي الله بنعمه ، فقال : يوشك أن يكون حظك من الله تعالى لسانك ، قال الجنيد : فلا أزال أبكي على هذه الكلمة التي قالها السري .
______
المصدر :-
كتاب منهج التربية النبوية للطفل – ص165-ص171 تأليف محمد نور بن عبد الحفيظ سويد