المستشار طارق البشري
10/02/2006
مظاهرة في الأزهر تندد بإساءة استغلال حرية التعبير
في السنين الماضية أُثير موضوع “الحق في التعبير” وعلاقته “بالثوابت الدينية”، أثير ذلك في صور ملموسة تتعلق بما ورد ببعض القصص والروايات من عبارات لا يمكن للنفس المؤمنة بالدين أن تتقبل قراءتها أو سماعها أو تلقيها بأي وسيلة من وسائل الأداء والتلقي، سواء بالنسبة للذات الإلهية والرسالة النبوية، أو بالنسبة لما يقع عامة في قلب المؤمن موقع التسليم والخشوع.
وهذه المسألة ذاتها ترددت من قبل في مجالات قصصية وفكرية خارج مصر وفي داخلها، وكانت أقرب للمعارك الفكرية اشتد فيها الخصام، وذلك على مدى العقدين الماضيين، وهذا يعني أن ما وقع في السنتين الأخيرتين بمصر لم يكن مُحدثًا ولا طارئًا، إنما تكررت وقائع متشابهة منه على طول عقدي الثمانينيات والتسعينيات، تبدأ الموجة بكتاب أو قصة تُكتشف، وتعلو بصخب الخلاف ثم تهبط، لا لأن المشكلة حُلَّّت، فإن أمرًا من ذلك لا يُحَلُّ، وإنما تهبط لأن أحداثًا أخرى صرفت الناس، أو لأن الحديث صار تكرارًا بغير عائد يعود أو قناعة تَجِدّ أو اقتراب يحدث، أو تباعد يزيد، هو مثل حوادث الحدود بين البلاد المُتحاربة، حَدَثٌ ثم تبادل لإطلاق النيران ثم سكوت، وفي كل الأحوال يظل الترقب قائمًا.
على أن الجديد عندنا الآن أن جمعية الثقافة والحوار طرحت الموضوع في مؤتمر عن “الحق في التعبير” ليجري التداول الفكري بشأنه بعيدًا عن الأحداث المُثيرة وعن أجواء المعارك الفكرية، ومشكلة المعارك الفكرية أنها مثل معارك الحروب القتالية، تستقطب فيها المواقف وتجنح إلى المفاصلة، وتغلق فيها الحدود، وتستبعد منها مساعي التوفيق وإمكانات الاحتكام إلى مبدأ أو منهج بحثي يتراضى الأطراف على قبول نتائجه، كما أن المعيار الذي يسود لا يتعلق بالخطأ والصواب بقدر ما يتعلق بالنصر والهزيمة.
ومن هنا جاء طرح “جمعية مصر للثقافة والحوار” هذا الموضوع للتداول بعيدًا عن الأحداث المثيرة والمناسبات “القتالية”؛ وهو ما يمكن من إتاحة الحديث الموضوعي والبحث عن المعايير التي تُساهم في تبين أوضاع الاحتكام في هذا الشأن، ومن هنا ترد محاولتي التي أضعها في هذا السياق.
طبيعة الحق في التعبير والثوابت الدينية
أول ما يرد الحديث بشأنه هو: ما هو “الحق في التعبير”؟ وما هي “الثوابت الدينية”؟ وأن تبين طبيعة كل منهما هو أول خطوات البحث في حدود العلاقة بينهما.
فالحق هو ما ثبت ووجب، أي هو الواجب الثابت، ويُطلق على المال والملك والوجود الثابت، وبمقتضى كونه واجبًا ثابتًا فهو يكون معينًا أو قابلاً للتعين. والحق في الفكر الوضعي هو سلطة يخولها القانون للشخص على شيء معين مثل حق الملكية، وهو سلطة تُخول شخصًا مُطالبة شخص آخر بإعطاء شيء أو بعمل أو بامتناع عن عمل، أو هو مصلحة يحميها القانون كما يقول البعض، وعلى كل الأحوال فهو بمُقتضى أي من هذه التعريفات ينبغي أن يكون مُعينًا.
فالحق يكون على أمر محدود كامتلاك شيء بعينه، أما ما يسمى “الحق في التملك” فهو “رخصة” وليس حقا بالمعنى المُتعين، والرخصة وجه من وجوه الإجازة، هي مكنة إتيان فعل ما، هي وجه من وجوه الإباحة، وهي تشير إلى المعنى الذي يُستخدم له اليوم لفظ “الحرية” فنقول بحرية التملك والتعاقد أو حرية الاعتقاد والتعبير؛ بمعنى أن الأمر يقع في مجال الجائز من الأمور.
أبيّن هذه المسألة لكي تتضح الفروق بين المعاني، فالحق ينبغي أن يُقتضى، وإذا تعارض حقان وكانا متساويين في الأحقية، وجب إزالة التعارض بينهما بما يحفظهما معا أو يحفظ أكبر قدر منهما معًا، أما الرُّخص فهي تدور في إطار المُباح والجائز، والحريات تقف عند حدود الحقوق، أي أن حريتي تقف عند أعتاب حق غيري، وحريتي في الحركة والتنقل تقف عند حدود ملك غيري، أرضًا كان أو سكنًا.
و”لاي” قال إنه بموجب حريتي في الحركة يكون لي أن أقتحم بيت جاري، ولا يكون بموجب رخصتي في التملك، فإنه يمكنني أن أبيع ملك غيري، وبالمثل فإن حريتي في التعبير، لا تَكفُل لي سب غيري بأن أنسب له ما يُشينه، ولا تَكفل لي القذف في حقه بأن أُلصق به من الجرائم ما لم يثبت أنه ارتكبها، فأضعه في موضع التهمة دون شبهة.
وللإنسان حُرَم وعصم، فالدول مثلا لا تمتلك البحار والمحيطات وليس لها عليها سيادة، ولكن لكل دولة مساحة في البحر تُعتبر مياها إقليمية، هذه المساحة هي المُتعارف على أن الغريب الداخل فيها بغير إذن يمكنه أن يُهدد أمن هذه الدولة، وعُرف نظام مثيل لذلك في البوادي، فكان للقبيلة “حمى” يحوطها خارج نطاق سكنها وعملها، وللبيت “حمى” يحوطه خارج أسواره.
ومن ثم فإن الرخص والمُباحات، أي الحريات تقف عند حدود حقوق الآخرين فلا يحل انتهاك حق للغير باسم الحرية، ما دام حقًّا مُعترفًا به من الجماعة أو الدولة.
وكذلك فإن هذه الحريات تقف عند حدود العصم والحُرَم التي للغير، أي هذا النطاق الذي يُحيط بالغير وبحقوقهم، ولا يحق انتهاكه طبقًا لما تتعارف عليه الجماعة المعنية.
اختلاف المرجعية الفكرية
لا أريد أن أقصر حديثي في بيان المسألة المُثارة وهي “حق التعبير والثوابت الدينية” على الموقف الديني فقط؛ لأنه في إطار الفكر الديني لا تثور مشكلة في هذا المجال إلا في إطار الفروع، للبحث مثلاً فيما هي الثوابت وما لا يُعتبر منها.
ولكن أصل المشكلة التي تقوم بين هذين الطرفين، “حق التعبير” و”الثوابت الدينية” تكسب حدتها واستعصاءها على الحل من أن كلا من العبارتين تنحدر لدى المُتمسكين بها من مرجعية فكرية مناقضة للأخرى، المسألة هنا تقوم لا بين حق التعبير وثوابت الدين بمعنييهما المُتبادر، ولكنها تقوم بين مرجعيتين فكريتين: المرجعية المُتحصنة في ثوابت الدين، والمرجعية الوضعية التي تستخدم “حق التعبير” بوصفه مُقدسًا أوجده البشر في تاريخهم الحديث ليحل محل المرجعية الدينية ذاتها؛ أي أنها تستخدم هذا “الحق” لإزاحة ثوابت الدين.
ونحن عندما نتكلم عن ثوابت الدين، إنما نصدر عن المرجعية الدينية وعن أصولها، والمرجعية الدينية تُلزم المُتدين، واختياره لتدينه يُلزمه إراديًّا بحراسة ثوابت ما يتدين به، ولا تقوم لديه مشكلة في احتكامه إلى ثوابت ما يُريد أن يحفظه، كما لا تقوم مشكلة لدى من يتحاور معه من المُتدينين، لاستقرار توافقهما على الاحتكام إلى ما يتوافقون على حفظه من ثوابت وأصول ومرجعيات.
إنما تقوم المشكلة عندما لا يكون الطرف الآخر في الحوار مُتدينًا، وعندما يكون صادرًا عن مرجعية وضعية يريد لها السيادة، هنا يدور الجدال على محورين متوازيين لا يلتقيان، ولا يستطع المُتدين أن يُلزم غير المُتدين بموجبات التدين، وبحاكمية لا يقبلها غير المُتدينين ولا يقبلون حكمها، ولعل البعض منهم يجتهد في سعيه إلى نفيها.
وما دام الوضع الاجتماعي المُشترك، والعيش المُشترك يفرض علينا أن نتحاور ونتجادل، فعلينا أن نسعى إلى استخراج معايير للاحتكام تمكن من المجادلة بالتي هي أحسن.
أقول ذلك؛ لأنه يتعين علينا أن نبحث عن الحلول، وأن نستجمع قوانا وأن نتشارك بقدر ما يسعنا الجهد وما تحتملنا الثوابت.
المرجعية الفكرية الغربية
إننا إذا استندنا إلى بيانات حقوق الإنسان التي صيغت في إطار المرجعية الفكرية للثقافة الغربية، وصارت هي الإطار الذي تترسم به الحقوق في هذه الثقافة، نلحظ ما يلي:
أن البيان العالمي لحقوق الإنسان الذي أصدرته الأمم المتحدة في 10 ديسمبر سنة 1948، نص في المادة الثانية منه على أن “لكل إنسان حق التمتُّع بكافة الحقوق والحريات الواردة في هذا الإعلان، دون أي تمييز، كالتمييز بسبب العنصر أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الدين أو الرأي”، فهو يميز بين “الحقوق” وبين “الحريات”، فالعطف كما يقال يقتضي المُغايرة، وعطف الحريات على الحقوق في تمتع الإنسان بها يُفيد أن لكل من اللفظين صلاحيته الخاصة، بما يؤكد ما سبق ذكره عن التمييز بين الحق وبين الرخصة أو الإباحة.
ثم إن المادة 18 من البيان ذاته تنص على أن “لكل شخص الحق في حرية التفكير والضمير والدين، ويَشمل هذا الحق حرية تغيير ديانته أو عقيدته، وحرية الإعراب عنهما بالتعليم والمُمارسة وإقامة الشعائر ومراعاتها، سواء أكان ذلك سرًّا أم مع الجماعة”، كما تنص المادة 19 على أن “لكل شخص الحق في حرية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحق حرية اعتناق الآراء دون أي تدخل، واستقاء الأنباء والأفكار وتلقيها وإذاعتها بأية وسيلة كانت دون تقيد بالحدود الجغرافية”.
ويُلاحظ على هذين النصين، أنه من وجهة نظرنا، نحن المُتدينين بدين الإسلام، أن لدينا تحفظات تتعلق بحرية ترك المسلم لدينه، على تفاصيل ليس المجال مجال الحديث عنها ولا ذكر الخلافات بشأنها.
ولكن ما أريد الإشارة إليه، فيما يتعلق بما أثيره هنا، هو أن كلا النصين السابقين يضربان الأمثلة على ما يقصدان بحرية التفكير وحرية الدين وحرية الرأي والتعبير، هذه الحريات تتعلق بتغيير الدين أو العقيدة وبحرية الإعراب عن ذلك، وحرية التعليم وممارسة الشعائر ومراعاتها، كما أن حرية الرأي والتعبير تشمل حرية اعتناق الرأي واستقاء الأنباء والأفكار وإذاعتها.
والمفهوم أن ضرب المثل وإن كان يفيد عدم قصر الحكم والمعنى المبدئي على حالة المثل المضروب، وأنه يُجيز القياس عليه، فإن القياس هنا يكون قاصرًا على ما هو من جنس المثل المضروب، وإن كل الأمثلة الواردة بالنصين، سواء عن حرية التفكير والدين أو حرية الرأي والاعتقاد، إنما تفيد الاعتناق والمُمارسة بالتلقي والإعراب، فهي تقف من دون ما يمس الآخرين، اعتداء على أي من حقوقهم، وانتهاكًا لأي من الحرم والعصم التي تمس هذه الحقوق. ويؤكد هذا المعنى أيضا، أن “الاتفاقية الدولية بشأن الحقوق المدنية والسياسية” التي صدرت عن الأمم المتحدة في 1976 أوردت عددًا من الأحكام المُتعلقة بهذا الأمر، والمادة 17 منها تُشير إلى حرمات الشخص وعصمه وحقه في حماية القانون لها، فَتَنُص فقرتها الأولى: “لا يجوز التدخل بشكل تعسفي أو غير قانوني بخصوصيات أحد أو بعائلته أو ببيته أو مراسلاته، كما لا يجوز التعرض بشكل غير قانوني لشرفه وسمعته”، وتنص في فقرتها الثانية: “لكل شخص الحق في حماية القانون ضد مثل هذا التدخل أو التَّعرض”.
والمادة 20 في فقرتها الثانية تؤكد على حماية هذه الحرمات بشكل جماعي وتَنُص على: “تمنع بحكم القانون كل دعوة للكراهية القومية أو العنصرية أو الدينية من شأنها أن تُشكل تحريضًا على التمييز أو المُعاداة أو العنف”.
حق الفرد وحق الجماعة
ومن ناحية أخرى، فإن الحرية في التعبير هي أمر مكفول للشخص أو للفرد، ونحن نلحظ أن هذين اللفظين هما ما استخدمه كلٌّ من إعلان حقوق الإنسان والاتفاقية الدولية بشأن الحقوق المدنية والسياسية، ومن الطبيعي أن الجماعات يتكون كل منها من أفراد، ومن ثم فإن الحقوق والحريات المكفولة للفرد تصدق أيضا على الجمع من الأفراد، هذا من نوافل الأقوال، إنما ما أقصد الإشارة إليه أن حق الفرد إن تعارض مع حق الجماعة، وجب بذل الجهد للتوفيق بينهما، فإن لم يمكن التوفيق، أو فيما لم يمكن فيه التوفيق، وجب تقديم حق الجماعة، وكان حق الجماعة أولى بالمراعاة من حق الفرد.
لا أجد في نفسي حاجة لأن أثبت هذه المسألة، فهي في ظني ثابتة، سواء من وجهة نظر الفقه الإسلامي، أو من وجهة نظر الفكر الوضعي، والفقه الإسلامي يجعل حق الجماعة في مجال حقوق الله سبحانه؛ لأن ما يتعلق بالنفع العام للناس ويعود على مجموع الأفراد والجماعات إنما يُنسب إلى الله تعالى، من قبيل التعظيم لهذا الحق (لأن الله سبحانه مُستغن عن الناس وجماعاتهم)، ومن قبيل ألا يختص بهذا الحق واحد من الطغاة والجبابرة، فيدعي لنفسه القوامة عليه بسبب شيوعه.
كما أننا نعرف أن ما يُهم الجماعة مما يُعتبر في مرتبة الحاجات إنما ينزل بوصفه الجماعي منزلة الضرورات.. وهكذا. ومن حيث الفكر الوضعي، فإنه يكفي في هذا المجال ما أوردته الاتفاقية الدولية بشأن الحقوق الدينية والسياسية؛ إذ قررت في الفقرتين الأولى والثانية من المادة 18 حرية الفكر والضمير والديانة للفرد، وعدم جواز الإخضاع للإكراه في هذا الشأن، ثم نصت الفقرة 3 من المادة ذاتها “تخضع حرية الفرد في التعبير عن ديانته أو مُعتقداته فقط للقيود المنصوص عليها في القانون والتي تستوجبها السلامة العامة أو النظام العام أو الصحة العامة، أو الأخلاق أو حقوق الآخرين وحرياتهم الأساسية”، فإن لفظ “العامة” أو “العام” الموصوف به أي من النظام أو السلامة أو الصحة، صريح الدلالة في تعلقه بالجماعة، وهو يُفيد خضوع حرية الفرد في أي من ذلك لما تستوجبه مصلحة الجماعة.
وكذلك فإن المادة 19 من الاتفاقية ذاتها بعد أن أقرت حق الفرد في اتخاذ الرأي وحريته في التعبير، وما يشمله ذلك بالصيغة السابق إيرادها في بيان حقوق الإنسان، بعد ذلك نصت الفقرة 3 على أن مُمارسة هذه الحرية ترتبط “بواجبات ومسئوليات خاصة”، ومن ثم “فإنها قد تخضع لقيود معينة، ولكن فقط بالاستناد إلى نصوص القانون، والتي تكون ضرورية:
أ- من أجل احترام حقوق وسمعة الآخرين.
ب- من أجل حماية الأمن الوطني أو النظام العام أو الصحة العامة أو الأخلاق.
وبذلك يظهر أن الحقوق والحريات المذكورة ترتبط بواجبات ومسئوليات، فهي من بدئها ليست حقوقا طليقة من كل قيد، وإنها تخضع للقيود الضرورية، وإن هذه الضرورات لا يكفي بشأنها عدم المساس بحقوق الغير وسمعتهم، إنما يتعين أن تكون من أجل “احترام” هؤلاء الآخرين واحترام سمعتهم، وإنها مُقيدة بحقوق الجماعة، أمنًا ونظامًا وصحة وأخلاقًا. ومن هذا يبدو أن حق الفرد وحريته في التعبير إنما يتغير ويخضع لحقوق الجماعة ولما لها من حرم وعصم.
نسبية الحقوق وإطلاقية الثوابت الدينية
بقيت نقطة أخرى، فإن الحق في التعبير أو الحرية المُتعلقة به هي أمر بشري، وأمور البشر نسبية، وهي دائمًا محدودة بقيود تتعلق بحقوق الغير وحرياتهم، والأمر البشري يحتمل الزيادة والنقصان وترد عليه الضوابط والحدود، ونحن إذا راجعنا أي دستور من الدساتير، نلحظ أن الحقوق العامة والرخص يرد الإقرار الدستوري بها مضبوطة بضوابط التنظيم والتنسيق، من حيث الواجبات والأعباء، ومن حيث حقوق الآخرين ورخصهم، ومن حيث المصالح العامة للجماعة ونظامها، والصياغات في ذلك تضيق وتتسع وتشتد وتخف، ولكنها دائمًا موجودة بحكم لزوم الضبط والتنظيم للأنشطة البشرية.
أما عن الثوابت الدينية، فأولها بطبيعة الحال الإيمان بوجود الذات الإلهية، فضلاً عن الرسالة النبوية، والله سبحانه مطلق الوجود مطلق القدرة مطلق التنزيه، والقرآن هو كلام الله أنزله الروح الأمين على محمد صلى الله عليه وسلم نزل إلينا من الغيب، وهذه هي الثوابت الأساسية في دين الإسلام، وبالنسبة للمسيحية يرد هنا أيضا ما يتعلق بما يؤمن به المسيحيون مُتعلقا بالوجود الإلهي وبصفات السيد المسيح، فنحن في هذا الصدد نكون إزاء حقائق وتصورات إيمانية مطلقة.
والمطلق لا يحتمل النقص ولا الزيادة، ولا ترد عليه تجزئة ولا تبعيض، وهو إذا انجرح فلا يبقى منه شيء، لذلك نهينا أن نؤمن ببعض الكتاب ونكفر ببعض؛ لأن الكفر ببعضه ولو بكلمة منه أو حرف هو كفر به جميعه، ولا يوجد معيار يمكن به إسقاط حرف واحد من القرآن واستبقاء الباقي، ومن يقول إن لفظًا في القرآن ورد غير صحيح، أو أن حُكمًا من أحكام القرآن ورد مُتعلقًا بزمان النزول وحده، فلن تجد معيارًا يمكن به قصر هذا القول على ما قيل فيه وعدم انسحابه إلى النص المُنزل كله.
لذلك نلحظ أن تعريف رجال أصول الفقه للقرآن، يذكر أنه كلام الله سبحانه الذي نزل به الروح الأمين على محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، والمنقول إلينا بالتواتر جيلا عن جيل. وفي التعريف ترد عبارة “والمدون بين دفتي المصحف بدءًا بأول سورة الفاتحة، وانتهاء بآخر سورة الناس”؛ وذلك حرصًا على ربطه كله بهذا الوصف الملموس، ثم يزيد مصداق قوله تعالى: ( إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وإنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) ، فالحجة على ثبوته وكماله ترد من داخله لا من خارجه، أي ترد بنص فيه.
ومن ذلك فإن حقوق البشر وحرياتهم -وهي نسبية- ينبغي أن تقف عن حدود ما هو مطلق من ثوابت الدين، ولا تداخل بين الأمرين، إنما هي هيمنة المطلق على النسبي، ولا يبقى مطلق إلا بهذا الضابط، والنسبي إذا نقص يستمر الباقي منه موجودًا، أما المُطلق فلا يلحقه نقص، وإن نَقصَ لا يبقى منه باق، ولا مناسبة بين الأمرين، ولا بد من مُهيمن، إما أن يهيمن المطلق على النسبي، وهنا يبقى النسبي موجودا ومحدودا في إطار حاكمية المطلق، أو العكس بأن يُهيمن النسبي على المُطلق فلا يبقى هناك ثوابت دينية.
الخلاصة
وخلاصة هذا الحديث ما يلي:
ثمة ضوابط مُلزمة، تتحدد بها العلاقة بين حق التعبير والحرية بشأنه وبين الثوابت الدينية، وهي:
أولاً: إن الحريات والرخص تقف عند حدود الحقوق وحدود الحرم والعصم.
ثانيًا: إن حق الفرد يقف عند حدود حق الجماعة، وحق الجماعة المحدودة يقف عند حدود حق الجماعة الشاملة.
ثالثًا: إن النسبي من الحقوق والحريات والرخص، مما هو من شئون البشر، يقف عند حدود المُطلق من ثوابت الدين.
وسنختلف كثيرًا عند إعمال هذه الضوابط، عند تبين وجه الصواب عن كل حالة مُعينة تجدُّ، وعند كل نازلة تنزل، ولكن التوافق على إعمال هذه الضوابط، من شأنه أن يحل كثيرًا من الخلافات ومن شأنه أن يتحول به الخلاف إلى اختلاف، ومن شأنه أن يوجد مشتركًا عامًّا ترد الاختلافات في إطاره اختلافات فروع غالبًا.. والحمد لله.
المصدر: موقع اسلام اون لاين . نت
http://www.islamonline.net/arabic/contemporary/2006/02/article02a.shtml