المهندس عباس غني
إن قيل عنه إنه عصر الغيد والحسان ، عصر العود والقيان ، عصر الطرب والغناء ، فالقول صحيح ، وإن قيل عنه عصر العبادة والتقوى عصر المتصوفة والعشاق الهائمين في الذات الألهية ، فهو صحيح، إنه زمن المترفين والمعدمين ، وزمن إزدهار الدولة وإنحطاطها ، كان بأختصار أحسن الأزمان وكان أسوأ الأزمان بهذه المتناقضات الحادة يرسم الدكتور رافع أسعد عبد الحليم في كتابه عن الزهد والتصوف ، الصورة التي كان عليها (القرن الثالث) الهجري وهو القرن الذي شهد حياة الجنيد البغدادي.
تياران رئيسيان كانا يحكمان الحياة الاجتماعية في بغداد مركز الأمبراطورية العباسية هما تيار معاصر وما ينضوي تحت عباءته من ملذات ومحرمات وتغزل بالغلمان، وتيار ديني وما ينضوي تحت عباءته من حركات إسلامية وزهد وتصوف وقد عد كثير من الدارسين ومنهم الدكتور عبدالحليم حركة التصوف في وقتها ثورة عنيفة ولكنها سلمية قامت ضد التوزيع الطبقي (غنى فاحش وفقر مدقع) وضد التباين السلوكي الحاد بين تيار ضرب بالمعايير الأخلاقية عرض الحائط، وتيار تمسك بها الى حد التزمت.
في مثل هذا الخضم ولد الجنيد الذي نجهل تاريخ ولادته ولكننا نستدل من تاريخ وفاته 298 هجرية بأنه من أبناء القرن الثالث ورجالاته.
لعل تأثيرات السري السقطي أحد أبرز أعلام المتصوفة في ذلك القرن على إبن أخته، الجنيد، كانت وأضحة في رسم الطريق التي إختارها لنفسه وقد بذل فيها من الجهد والمكابدة والأخلاص ما جعلته ينال من المنزلة الكبيرة والموقع الأجتماعي والنبوغ والشهرة مافاق بها السري على الرغم من أن السري السقطي يوصف بأنه (سيد الطريقة الصوفية)، وآية ذلك أن الجنيد فهم المعنى الحقيقي للزهد والتصوف، وحرره من التسطيح والمظاهر الشكلية التي حكمت عقول وتصرفات العامة والسذج الذين فهموا التصوف على أنه ارتداء الصوف والملابس الممزقة والمرقعات فقد كان جنيد يرى بأن العلم يسبق التصوف ولايحق لأحد طرق هذا الباب أو الأخذ به مالم يكن على علم تام بأمور دينه في المقام الأول ولهذا لم يكتف بقراءة الصوفية وعلومها الصعبة ولغتها على يد خاله بل كان يتلقى علومه الأخرى على مشاهير عصره وخاصة سفيان الثوري الذي أخذ عنه العلوم الفقهية، ورفض الجنيد أن تكون الصوفية نوعاً من الأنكفاء على الذات والهرب إلى أي مكان بعيداً عن الحياة والمشاركة المؤثرة فيها، وهو ما جعله يفتي ويعين الناس على أمور دينها ودنياها وترك لنا الكثير من الآراء والأفكار، وقبل ذلك كله، فان إنتماءه إلى السلوك الديني الأسلام كان هو السابق على إنتمائه الصوفي فتراه يحج البيت الحرام 30 حجة مشياً على الاقدام، وظلت هذه السمة ترافقه في سلوكه العام والخاص، فهو لم يقبع في منـزله أو يعتزل الناس، بل كان حريصاً على أن تكون له حلقة ثابتة للدرس، وطلاب ينهلون من علمه، وقد تخرج على يديه عدد غفير من رجالات العلم والفكر كالفقيه الشافعي أبي العباس بن سريج وأبي بكر الشبلي وأبي محمد عبدالله الرازي وأبي بكر الواسطي وعمر بن عثمان المكي وغيرهم الكثير.
وتاكيداً لهذا الجمع بين (رجل الحياة ورجل الدين والتصوف) تقدم كتب السيرة هذا الوصف الدقيق لشخصيته [كان الجنيد نسيج وحده علماً وعبادة، وكانت إليه الإمامة في الفتوى، والزعامة في العلوم والمعارف] وكان يصلي في جوف الليل والناس نيام 300 ركعة، بكى من خشية الله حتى ذهبت جفونه [ثم بكى بقلبه حتى ليسمع منه الانين] وقد سئل يوماً (من أين أستقت العلم) فقال (من بين يدي الله على تلك الدرجة) وأشار إلى درجة في داره وقد تميز مع كل تلك الخشية بقوة الشخصية ويعد أنموذجاً لرجل الدعوة الشجاع، صريحاً جريئاً، آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر ولايخشى في قولة الحق لومة لائم.
هذا الرجل الصالح من أولياء الله هو أبو القاسم الجنيد البغدادي بن محمد بن الجنيد القواريري أو الزجاج، ولقد لحق به هذا اللقب لأن والده كان يبيع الزجاج وأصل أبيه من نهاوند من أعمال البصرة وقد ولد الجنيد البغدادي وعاش وتوفي في بغداد يوم الجمعة ودفن يوم السبت وكان يوم وفاته على ما يذكر المؤرخون مشهوداً، فقد خرجت بغداد عن بكرة أبيها علماؤها وأمراؤها وعامتها في وداعه حتى قدر عدد المشيعين لجنازته بستين الف شخص، ودفن في مقبرة الشويترية بجوار خاله السري، ولا غرابة ان يحظى بهذه المنـزلة فقد قيل يومها (ثلاثة في الدنيا لارابع لهم، أبو عثمان بنيسابور والجنيد في بغداد وأبو عبدالله بن الجلاء بالشام) وضريح الجنيد بسيط البناء وقبره يعلو نسبياً القبور المحيطة به حيث يقوم في مقبرة تحمل إسمه تضم رفات العديد من أهل العلم والفكر ورجال الدين، وهذه المقبرة ملاصقة لمنطقة وقوف القطارات ضمن المحطة العالمية في جانب الكرخ حيث تمر بالقرب منها السكك الحديد وعشرات العربات يومياً، وهي حافلة بالأشجار وأشجار النخيل، وقد ذكر العلامة محمود شكري الألوسي في كتابه الخاص عن مساجد بغداد وصفاً للمسجد المقام في المكان بأسم مسجد الجنيد قال فيه [هذا المسجد أزهر ومعبد منور قديم العهد في جانب الكرخ في بغداد خارج البلد، فيه مصلى لايسع سوى عدد يسير من المصلين، ولما وهن بناؤه وتخلخلت أرجاؤه سنة 1269 هجرية أعاد عمارته وأصلحه محمد نامق باشا، ومرقد الجنيد في هذا المسجد، وعلى المشهد قبة صغيرة، وفي هذا المسجد دفن الكثير من الصلحاء والعلماء كما تضم المقبرة مرقد النبي يوشع كذلك.
والجنيد الذي بلغ أتباعه ومريدوه في العالم الأسلامي مئات الآلاف قد خلف وراءه الكثير من الرسائل التي تحمل أفكاره و آراءه، وقد إتسم تراثه الفكري بأنه يجمع بين اللغة البلاغية العالية وبين الإسلوب التعليمي المبسط الذي يسعى إلى إيصال علمه ومعرفته الى العامة قبل الخاصة وإلى الجميع دون إستثناء.. رحم الله الجنيد إمام زمانه وشيخ عصره وطاووس الفقراء على مر الأزمنة والعصور.
__________
المصدر:- موقع الصوت الاخر
http://www.sotakhr.com/2006/index.php?id=1500