ما دام القارئ يتغيا الحكم على التراث الصوفي، بغية الإفادة من الناضج الملتزم منه فإن أمانة العلم تلزمه أن يفرق بين أقوال الصوفية موثّقة النسبة إليهم، وفهم مؤرخي الفكر وكُتّاب الطبقات لأقوال الصوفية وأفعالهم، ذلك أنه إضافة إلى ما يغلب على كتب الطبقات من بعض المبالغات فإنها تُكتب غالباً في وقت متأخر عن حياة المؤرخ لهم، وليس بالضرورة أن يدقق المؤرخ في كل رجال سند الرواية التي ينسبها إلى هذا الشخص أو ذاك، وربما استنبط من روايات لم تخضع لقواعد الجرح والتعديل معاني هو فيها مجتهد ويبتغي بها الخير، وإن جاءت حقيقتها -بعد الدرس والتفنيد- على خلاف مما قصد إليه باجتهاده.
فإذا أضفنا إلى ذلك رغبة بعض المؤرخين في إضفاء صفات معينة على العَلَم أو الشخص الذي يؤرّخون له لسبب مذهبي، أو لميل طائفي، كان لنا أن نؤكد ضرورة التفرقة بين أقوال الصوفية أنفسهم ونظرة المؤرخين لهم وللتصوف، باعتبارها ضرورة منهجية للحكم والاستنباط.
ولا ينفرد التصوف بهذه المسألة فيا روي عنه وعن أهله، بل هي سمة عامة في عموم الروايات “وهكذا كثير من أهل الروايات، ومن أهل الآراء والأذواق، من الفقهاء والزهاد والمتكلمين وغيرهم، يوجد فيما يأثرونه عمن قبلهم، وفيما يذكرون معتقدين له شيء كثير، وأمر عظيم من الهدى، ودين الحق الذي بعث الله به رسوله. ويوجد أحياناً عندهم من جنس الروايات الباطلة أو الضعيفة، ومن جنس الآراء والأذواق الفاسدة أو المحتملة شيء كثير”.
وها نحن أولاء نذكر بعض الأمثلة التي ذكرها مؤرخو التصوف، وهي عند التحقيق تؤدي إلى غير ما قصدوا إليه، أو لا تدل على ما استنبطوه؛ الأمر الذي جعل بعض العلماء يفندها ويرد عليها.
أ- مسألة الصُفّة وربط التصوف بصفات أهلها:
بول -صاحب التعرف لمذهب أهل التصوف-: “وقال قوم إنما سموا صوفية لقرب أوصافهم من أوصاف أهل الصُفّة الذين كانوا على عهد رسول الله “.
ولو كان الأمر مجرد رواية عن قوم قالوا هذا في نسبة التصوف لهان الأمر، لكننا نجد السراج الطوسي يصف أهل الصفة بأنهم مقيمون في المسجد، وأنهم لم يؤمروا بطلب المعاش من المكاسب والتجارات. ويصف حب رسول الله لهم، وارتباطه بهم، ويذكر أن الصوفية وجدوا فيهم الاقتداء والاهتداء، ويذكر أن عددهم كان نيّفًا وثلاثمائة.
أما أبو طالب المكي فيجعل منهم رباطًا، ولهم رئيس هو أبو هريرة يأمرهم فيأتمرون، ويصفهم بأنهم كانوا أشد الناس زهدًا. وقريب من هذه الأوصاف وصف أبي نعيم لهم.
وقد فهم أحد الباحثين من هذا تمهيد المكي للربط بين صِفة أهل الصُفّة هذه وبين الرباط عند الصوفية، وربما يوطئ بذلك لحاجة المريد إلى شيخ ينزل المريد عند أمره ونهيه.
وقد تابع هؤلاء المؤرخين في فكرتهم ربط الصوفية بأهل الصفة، وجعلها بذرة التصوف الأولى بعض كبار الباحثين “ونحن لا نجد بذور هذه الحياة الروحية مغروسة في قلب النبي وقلوب صحابته من الخلفاء الأربعة فحسب، وإنما نحن واجدوها أيضًا حية نامية في قلوب كثير من الصحابة غير الخلفاء، ويكفي أن نذكر هنا أهل الصفة، وما كان لهم من أثر قوي في تاريخ الحياة الروحية الإسلامية عامة، وفي تاريخ التصوف الإسلامي خاصة”.
وإذا كنا نتفق مع هؤلاء المؤرخين في صلاح مجموع أهل الصفة، فلا نوافقهم على إقامتهم الدائمة في المسجد. ولا على عدم شغلهم وكسبهم في كل الحالات، ولا نوافق كذلك على أن العدد كان ثابتًا، بل إنه كان يزيد وينقص حسب ظروف القادمين من مكة والذين لا يجدون مأوى لهم غير المسجد، فقد كانوا يزيدون فيكونون ستين أو أكثر ويقلون حتى يكون عددهم عشرة.. “فإن المؤمنين كانوا يهاجرون إلى النبي إلى المدينة، فمن أمكنه أن ينزل في مكان نزل به. ومن تعذر ذلك عليه نزل في المسجد إلى أن يتيسر له مكان ينتقل إليه”.
بل إن ابن تيمية يرى أن من كان ينزل بالصفة هم من جنس سائر المسلمين ليس لهم مزية في علم ولا دين، “بل فيهم من ارتد عن الإسلام وقتله النبي صلى الله عليه وسلم كالعرنيين الذين اجتووا المدينة، وحديثهم في الصحيحين من حديث أنس، وفيه أنهم نزلوا الصفة، فكان ينزلها مثل هؤلاء، ونزلها من خيار المسلمين سعد بن أبي وقاص، وهو أفضل من نزل بالصفة ثم انتقل عنها، ونزلها أبو هريرة وغيره.. وقد روي أنه كان غلام للمغيرة بن شعبة وأن النبي قال: أهذا واحد من (السبعة)، وهذا الحديث كذب باتفاق أهل العلم: وإن كان قد رواه أبو نعيم في الحلية”.
ولم يؤثر للصوفية الأوائل – فيما قرأت- أقوال ينسبون فيها أنفسهم إلى الصفة، وبعيدًا عن عدم موافقة النسبة لقواعد اللغة العربية في النسب، فإن ما حكاه المؤرخون في مسألة الصفة وربط التصوف بها باعتبار أنها أول بذوره، صاحبه كثير من البُعد عن حقائق تاريخية تتصل بالمسألة ذاتها، وإننا نظلم الصوفية إن حكمنا عليهم وفق هذه الروايات وأمثالها.
ب- وقريب من المثال السابق ما حكاه المؤرخون مما يفيد أن بداية التصوف كانت على يد علي بن الحسين زين العابدين (توفى بالبقيع 99هـ) فالكلاباذي يقول تحت باب عقده بعنوان: “في رجال الصوفية”: “من نطق بعلومهم، وعبّر عن مواجيدهم، ونشر مقاماتهم، ووصف أحوالهم قولاً وفعلاً بعد الصحابة رضوان الله عليهم علي بن الحسين زين العابدين، وابنه محمد بن علي الباقر، وابنه جعفر بن محمد الصادق..”.
كذلك ربط بعض المتأخرين بين الحسن البصري وعلي بن أبي طالب في علمه الذي ورثه عنه والموروث من النبي صلى الله عليه وسلم وراثة لا كسبًا، بل إن البعض جعل مستندهم في الخرقة الصوفية أن عليًا ألبسها الحسن البصري، وأخذ عليه العهد بالتزام الطريقة، واتصل ذلك منهم حتى الجنيد من شيوخهم، ولا يعلم هذا عن علي من وجه صحيح.
ولعل هذه الأمثلة وما تفيده من توجيه لتاريخ التصوف وجهة معينة لسبب أو لآخر هي التي جعلتنا نؤكد الحاجة إلى التفرقة المنهجية التي أشرنا إليها، ونفهم في ضوء هذا موقف ابن تيمية من أمثال هذه الروايات، فقد نقل عن القشيري قوله في اعتقاد الصوفية وأنهم أشاعرة في مجمل اعتقادهم، ثم رد ابن تيمية هذا الفهم من القشيري بالرجوع إلى أقوال المشايخ أنفسهم ليثبت أنهم كانوا على اعتقاد السلف “فصل فيما ذكره الشيخ أبو القاسم القشيري في رسالته المشهورة من اعتقاد مشايخ الصوفية، فإنه ذكر من متفرقات كلامهم ما يستدل به على أنهم كانوا يوافقون اعتقاد كثير من المتكلمين الأشعرية، وذلك هو اعتقاد أبي القاسم الذي تلقاه عن أبي بكر بن فورك وأبي إسحاق الإسفراييني…، والثابت الصحيح عن أكابر المشايخ يوافق ما كان عليه السلف، وهو الذي كان يجب أن يُذكر، فإن في الصحيح المحفوظ عن أكابر المشايخ مثل الفضيل بن عياض، وأبي سليمان الداراني، ويوسف بن أسباط، وحذيفة المرعشي، ومعروف الكرخي إلى الجنيد بن محمد، وسهل بن عبد الله التستري، وأمثال هؤلاء ما يبين حقيقة مقالات المشايخ”.
ويورد ابن تيمية أقوالهم موثقة النسبة إليهم ليصل إلى أن الصوفية سلفيون في العقائد بعامة، وأن المعرفة عندهم تخالف المصطلح الكلامي، والإيمان عندهم قول وعمل، وكذلك كان موقف ابن تيمية حين روى القشيري عن أبي سليمان الداراني قوله في الرضا “قال أبو سليمان الداراني: الرضا ألا تسأل الله الجنة ولا تستعيذ به من النار” فقد شكك ابن تيمية في صحة هذه النسبة إلى أبي سليمان، معتقدًا على أمثلة ذكرها القشيري في رسالته و”سندها فيه كلام”، ومستندًا كذلك إلى الكتب التي اهتمت بجمع أقوال الصوفية مثل حلية الأولياء لأبي نعيم، وطبقات السلمي، وصفة الصفوة لابن الجوزي وغيرها لم تذكر هذه الكلمة لأبي سليمان. ويذكر أنه من المحتمل أن تكون هذه الكلمة نُقلت بالمعنى عن قول آخر، إذ ثبت لأبي سليمان أنه قال: لو ألقاني في النار لكنت بذلك راضيًا، فيشبه أن يكون بعض الناس حكى ما فهم بالمعنى فذكر الكلمة التي هي موضع الحديث.
ويؤكد ابن تيمية استبعاد صدور هذا القول من أبي سليمان “فإن الشيخ أبا سليمان من أجلاء المشايخ وساداتهم، ومن أتبعهم للشريعة حتى إنه كان يقول: إنه ليمر بقلبي النكتة من نكت القوم فلا أقبلها إلا بشاهدين من الكتاب والسنة، فمن لا يقبل نكت قلبه إلا بشاهدين يقول مثل هذا الكلام؟!!”.
قلت: فلو أخذ ابن تيمية برواية القشيري مع – تقديره له- لكان اتهامه لأبي سليمان الداراني أسبق من إنصافه: ولا نسد الطريق على الإفادة من أقواله – أو إشاراته أو أخلاقه.
المصدر : منتديات النفيس
http://www.elnafeas.net/montada/index.php?showtopic=193