التصوف جانب من أخصب جوانب الحياة الروحية في الإسلام، لأنه تعميق لمعاني العقيدة، واستبطان لظواهر الشريعة، وتأمّل لأحوال الإنسان في الدنيا، وتأويل للرموز والشعائر يهبها قيمًا موغلة في الأسرار، وانتصار للروح على الحرف، لأن الروح يحيي، والحرف يميت. كل هذا شائع ومعروف عن التصوف الذي ألّف في تراثنا الإسلامي حركة فكرية وعلمية عظيمة، فالمتصوفة شكلوا فرقًا انتشرت في كل أنحاء العالم الإسلامي، وكان منهم مفكرون كبار مثل ابن عربي، ورموز شهادة وتضحية حتى الموت مثل الحلاّج، وهم بشهادة دارسيهم صفوة مختارة قدمت بسلوكها نماذج عليا للسلوك. كل هذا يعرفه كل من قرأ تاريخ التصوف الإسلامي، وبخاصة في عصور ازدهاره، ولكن السؤال يتناول الحاضر. فهل التصوف مازال حيًا إلى اليوم؟ وإذا لم يكن الأمر كذلك، فهل يمكن إعادة إنتاجه أو إحيائه، وبالتالي تجريده؟ وبداية، ما الذي يمكن أن يقدمه التصوف للإنسان المعاصر في بداية ألفية جديدة من عمر الإنسانية، خاصة أن بعض صفحاته لا تخلو من فكر خرافي ومن فكر آخر ماضوي بطبيعته، ولا نضارة أو مستقبلية فيه؟ وتأسيسًا على كل ذلك، ألا يعتبر الاهتمام بالتصوف اليوم نوعًا من سباحة عكس التيار؟ هذه الأسئلة وسواها مما يتصل بحركة التصوف ماضيًا وحاضرًا ومستقبلاً كانت محور هذا الحديث الذي دار بين الكاتب والصحفي اللبناني جهاد فاضل والدكتورة سعاد الحكيم، أستاذة الفلسفة والتصوف بكلية الآداب بالجامعة اللبنانية. ارتبط اسم الدكتورة سعاد الحكيم بالتصوف منذ بداية حياتها. فوالدها كان منتسبًا إلى «الأسرة الدندراوية»، وهي كيان اجتماعي له نهج صوفي، وقد تابعت بعده هذا الاهتمام. من يراجع ثبت مؤلفاتها ودراساتها، يجد أنها وقفت حياتها على التصوف. فمنذ حصولها على الدكتوراه من جامعة القديس يوسف عام 1977 وهي تعطي دروسًا ومحاضرات عن التصوف في أكثر من جامعة لبنانية وعربية، وتشارك في مؤتمرات دولية عنه وعن رموزه. ومن مؤلفاتها في هذا الحقل: «المعجم الصوفي – الحكمة في حدود الكلمة»، «الإِسرا إلى المقام الأسرى»، «ابن عربي ومولد لغة جديدة»، «نظرية الحب عند ابن عربي». وقد حققت الدكتورة سعاد نصوصًا صوفية قديمة للجنيد البغدادي ونشرتها تحت عنوان «تاج العارفين». وشرحت «عينية» عبدالكريم الجيلي، وأعادت كتابة موسوعة الغزالي «إحياء علوم الدين». ولها أبحاث أخرى كثيرة منها: «الإصلاح الديني بين الأصالة والمعاصرة»، «النص الإسلامي وأزمة الإنسان المعاصر»، «نحو نظرية في الجمال عند الصوفية»، و«الإسلام الصوفي». وهذا هو نص الحوار مع الدكتورة سعاد الحكيم:
أستاذة تصوف صاحبة تجربة روحية صوفية واهتمام دائم بالتصوف، أليس في ذلك ما يمكن اعتباره سباحة ضد التيار؟
قد يبدو للوهلة الأولى أن تكريسي أو تكريس مطلق شخص، حياته المهنية والشخصية للعلم الصوفي والتجربة الروحية هي سباحة عكس التيار. ولكن نظرة أكثر قربًا من واقع الحياة ومن حاجات الناس وأزمات الإنسان المعاصر، وأيضًا من الحركة الثقافية العالمية، تبيّن لنا أن إنسان اليوم لديه حاجة – أكثر من أي وقت مضى – لأن يتعرّف على عالمه الداخلي، وعلى النظم الفاعلة في بعده الروحاني، وأيضًا لأنه يكتشف الوجود اللامرئي الذي هو وراء هذا العالم الفيزيائي الظاهر المعطى والمنظور. إنّ الثقافة العامة لإنسان اليوم تقدم له معلومات تمكنه من أن يعيش حياة أفضل في أبعاد ثلاثة من ذاته الإنسانية، وهي أبعاد بدنه ونفسه وعقله، ويبقى بعد رابع مغيّب ومهجور ومهمل معرفيًا فقط، لأنه في الحقيقة حاضر ويعمل بمعزل عن الإنسان وإرادته، إنه البعد الروحي في الإنسان. من هنا تبرز الحاجة الحالية عالميًا إلى قراءة النتاج المعرفي الذي دوّن فيه كبراء الصوفيين خلاصة تجاربهم الروحية الوجودية.
صحيح إن الالتفات إلى الجانب الروحاني من الإنسان وإلى الجانب الميتافيزيقي من الكون لا يلقى اهتمامًا واسع النطاق ولم يشكل يومًا ثقافة عامة متاحة لكل الناس ومطلوبة، ولكن نرصد اهتمامًا متزايدًا بالعلم الصوفي وبالتجربة الوجودية الروحانية، وأقول إنه كثيرًا، عندما أشارك في مؤتمر أو في ندوة أو حتى في حوار في مجلس أو حفل، يقترب مني بعض الأشخاص ويستسّرونني أسئلة تتعلّق بالبعد الروحاني من وجودهم، بحياتهم الدينية، بسكينتهم، بسلامهم الداخلي، بالانكفاء عليه لمحاولة استثماره. ونتيجة هذا الرصد الميداني للواقع الروحي المعاصر أستنتج أنه تتولد عند الإنسان اليوم – وليس عند صفوة النخبة فقط – قناعة بأن السعادة الحقة المستدامة هي التي تنبع من الداخل، من الأعماق، من الامتلاء الوجودي واتساع القلب بالإيمان بالله المطلق الوجود، وأن السعادة الناتجة عن اقتناء الأشياء وجمع الممتلكات و«المملوكات» ليست سوى لحظة فرح آنية وذوق لذة مؤقتة عرضة للتحولات، ومبطنة بالخواء الداخلي وبمشاعر النقصان وعدم الارتواء.
إذن، أظن أن عصرنا الحالي يحتاج إلى إحياء تيار إنساني صوفي النزعة، وبدأت تباشير هذا الإحياء تظهر على أكثر من صعيد محليًا ودوليًا.
أفهم أنك لا تشعرين بأنّ التصوف غريب الدار في القرن الحادي العشرين، وأن من الممكن أن يجد له مكانًا في حياتنا المعاصرة؟
حتى لو كان التصوف غريب الدار في هذا القرن الحالي، ولا يحتل المكانة اللائقة به بين علوم العصر وفي حياتنا المعاصرة، لوجب علينا – التزامًا بالإنسان – أن نسهل وصوله للناس للاستفادة منه،. وذلك، لأن التصوف يقدم حلولاً عديدة لكثير من مشاكل الإنسان اليوم. إنه يساعد الإنسانية على التحقق بالقيم العليا الصانعة للسلام الكوني والباثّة للمودة والأخوة بين البشر.
وفي الوقت نفسه، يدعم التصوف معركة الإنسان ضد كل القوى التي تعمل على تشييئه وتغييبه وامتلاكه واستلابه وتغريبه وإزاحته من مركزية الوجود لمصلحة الآلة والمادة والاستهلاك، ضد كل القوى التي تعمل على إسكات إبداعه وتفرده وتميزه وذاتيته. إن التصوف يحقق إنسانية الإنسان ويصر على الإيمان به وبأنه عمد الوجود وبانيه، وأنه القيمة الكبرى والثروة الحقيقية في الكون، ولولاه يندرج الوجود في العدم.
التصوف في مواجهة الصراع
إن الصراع العالمي اليوم هو صراع ثقافتين، صراع فكرين. ويندرج الفكر الصوفي في إطار الثقافة التي تدعم الإنسان وتدعم نماءه المادي والمعنوي، البدني والروحي، في مواجهة الثقافة التي هي ضد الإنسان. يقول ابن عربي في كتاب «الإسرا إلى المقام الأسرى» في صيغة مناجاة تدلل على مكانة الإنسان الحق في الوجود: «عبدي أنت حامل أمانتي وعهدي، أنت خليفتي في أرضي، أنت مرآتي ومجلى صفاتي، أنت موضع نظري من خلقي، لا مثل يوازيك ولا عديل يجاريك. أنت سر الماء وسر نجوم السماء.
هذا موقف تعريفك بعلوّك على كل الموجودات وتشريفك. لولاك ما ظهرت المقامات والمشاهد لولاك لا وحي ولا كلام، ولا أشرقت الأنوار على الأسوار، ولا جرت بحار الخَلْق على الأطوار».
ونحن اليوم أحوج ما نكون إلى فكر يعلي من قيمة الإنسان وينظر إليه على أنه مركز الوجود ومحور الكون وحامل الأمانة الإلهية.
ولماذا نستدعي هنا التصوف بالذات؟ ولماذا الإلحاح عليه؟ وما الذي يمكن أن يقدّمه لإنسان القرن الحادي العشرين؟
لقد أسهم التصوف في بناء علوم المسلمين وتقدم حياتهم في العصور الذهبية للعمران لديهم. واليوم، وعلى الرغم من مرور قرون سبعة عجاف على الوجود الصوفي ووقوعه في كثير من الأحيان في التقليد وتوالد الأشباه – مثله مثل غيره من علوم المسلمين – فإنه لايزال يمتلك حيوية متدفقة قادرة على إحداث تغيير في إنسان القرن الواحد والعشرين وفي مجتمعه المحلي والدولي.
وأهم ما يقدم التصوف لإنسان اليوم أربعة أمور:
الأمر الأول: إن التصوف يحقق التقارب بين المذاهب داخل الدين الواحد، يعيد اللحمة الإنسانية إلى فرقاء الذات الواحدة، يحقق الحوار الإسلامي – الإسلامي، والمسيحي – المسيحي مثلاً، التصوف يلفت إلى بناء ذات متكثرة تقبل التنوع والتعدد وتدين الأحادية والتطرف ورفض الآخر وإنتاج المثيل والشبيه.
وإضافة إلى التقريب بين المذاهب يسهم التصوف في تشييد مساحة إنسانية لتعارف الديانات وحوارها. فالمشترك الديني هو الالتزام بالقيم العليا، قيم الحق والخير والمساواة والمحبة والأخوة.. وتتجلى في النص الصوفي ملامح إنسان اتسع وجدانه للبشرية جمعاء، فهذا أبو يزيد البسطامي حين ذكرت النار أمامه يقول: ما النار؟ لأستندنّ إليها غدًا وأقول: اجعلني فداء لأهلها، كما تتجلى ملامح إنسان يؤدي الواجب لأنه الواجب ويحب الله لا لشيء بل لأنه الله فقط، كما أعلنت السيدة رابعة «إلهي ما عبدتك خوفًا من نارك ولا طمعًا في جنتك، ولكنك أهل للعبادة فعبدتك»، إنسان يحب الجنس البشري بأكمله ولا يفرق في عطائه بين أحد وأحد، يقول الجنيد: «الصوفي كالأرض يطؤها البرّ والفاجر، وكالسحاب يظل كل شيء، وكالمطر يسقي كل شيء».. الصوفي إنسان يتمثل التاريخ الديني للبشرية ويعكس قيمه العليا، يقول الجنيد: «مبنى التصوف على أخلاق ثمانية من الأنبياء – عليهم السلام: السخاء وهو لإبراهيم، والرضا وهو لإسحق، والصبر وهو لأيوب، والإشارة وهي لزكريا، والغربة وهي ليحيى ولبس الصوف وهو لموسى، والسياحة وهي لعيسى، والفقر وهو لمحمد وعليهم أجمعين».
الأمر الثاني، يتداخل مع الأمر السابق ويكمله، إن التجربة الصوفية تبدأ عادة بالرياضات والمجاهدات وإذا نظرنا في مضمونها نجد أنها ترويض للنفس ومجاهدتها على التحقق بالقيم الإنسانية العليا وترك سفاسفها وكل ما يشد الكائن نحو الأسفل.
إن ما يشتكي منه الإنسان اليوم هو تفشي الأنانية المفرطة والطمع المتوحش، لقد تكوّن لدى البعض استعداد للتدمير وقتل الآخر دون مراعاة لحرمة رحم أو جوار أو نسب إنساني.. وقليل من التصوف ينعش روح البشرية، ويعيد تدفق نسغ القيم في عروقها، فعندما أمارس شيئًا من الصبر مع شيء من الرضا مع طرف من التسامح مع حفنة من المحبة مع عدم أذية حيوان أو نبات مع غير ذلك من القيم الوجدانية، كل هذه الممارسات تولد لديّ احتراما للذات ينعكس نظرة إيجابية إلى الآخر. لأن الإنسان يعرف الآخر على قاعدة نفسه. فكلما حَسَّن من ذاته، تحسّنت نظرته للآخر.
والأمر الثالث مهم جدًا، نستفيده من النظر في أسلوب ممارسة الصوفيين للطقوس الدينية. فالصوفي يؤدي عبادته لله ليس بشكل مختلف عن المسلم العادي ولكن بوعي مختلف وفهم مختلف. وتقدم لنا النصوص الصوفية نماذج عديدة تصور صلاة الصوفي وصيامه وزكاته وحجّه، مما يدعو للتأمل واستعادة العمل من رماد العادات إلى وهج العبادات. جاء رجل إلى الجنيد، شيخ طائفة الصوفية، فسأله الجنيد: أين كنت؟ فقال: كنت في الحج، فسأله: هل حججت؟ إن سؤال الجنيد للشخص القادم من الحج لافت للنظر ويدل على القيمة الكبرى التي يعطيها الصوفي للوعي الإنساني وللحضور أثناء العمل. ويتدرج الجنيد مع الشخص في الأسئلة ليريه أن العبادة ليست حركة الجسد بل هي حركة الروح، يقول له عبارات من أمثال: هل رحلت عن جميع المعاصي منذ خرجت من بيتك ورحلت عن وطنك؟ حينما أحرمت في الميقات هل تجردت من صفات البشرية كما تجردت من ثيابك؟ حين سعيت بين الصفا والمروة هل أدركت مقام الصفا ودرجة المروة؟ عندما ضحيت في المنحر هل ضحيت برغبات نفسك؟ وفي نهاية الأسئلة وإجابات الشخص بالنفي، يخلص الجنيد إلى اجتهاد يدل على بنيوية القلب في العبادة، فيقول للرجل: لم تحج، فعُدْ وحج على النحو المذكور حتى تصل إلى مقام إبراهيم.
هذا الالتفات إلى القلب، إلى الوعي، إلى الحضور، إلى ممارسة الطقوس بشوق وحب ينفض عنها غبار التكرر، فترجع جديدة لها مذاق البدايات، وترجع سبيلاً إلى المعبود لا حجابًا عليه، ومصيدة لتلبيس إبليس كما نوّه ابن الجوزي في كتابه الشهير.
والأمر الرابع الذي نستفيده من التجربة الروحية الداخلية، هو التحقق. فالصوفي يقترن لديه القول بالعمل، فلا ينطق إلا عن ذوق. سئل الحسن البصري عن الفقر، فاستمهل السائل دقائق، دخل فيها منزله وتصدق بأربعة دوانق يملكها، ثم عاد ليتكلم عن الفقر. واليوم، أكثر أمراض عالمنا شيوعًا هو تناسل الكلام من الكلام والغرق في النظريات، فقد يكتب الواحد منا عن الصبر عشرات الصفحات وفي غفلة الوعي يضيق صدره بمسامرة ولده وتخفق أجنحة روحه لمضايقة جار. إن التجربة الداخلية تساعد الإنسان على معرفة نفسه معرفة حقيقية، وبالتالي ينطلق من موقعه نحو التسامي والتحرر والتأنسن وإبداع ذاته بالتحقق.
سمو الروح
ولكن ما تتحدثين عنه يقع في باب مكارم الأخلاق. أليس التصوف شيئًا آخر؟
– صحيح، إن التصوف يعكس في عين الناظر صورة تتجاوز الفضاء الأخلاقي إلى الفضاء الروحاني، لأن التصوف – كما أراه – هو حركة الروح نحو الأعلى الوجودي لا المكاني، نحو الحقيقة الكبرى وحقيقة الأشياء كلها.
وقد عبّر الخليفة عمر بن عبدالعزيز عن حركة الروح هذه نحو الأعلى حين أخبر عن نفسه بأنه كان قبل أن يُبَايَع بالخلافة تُجلب له أجود الحلل وأغلاها وألينها ويتململ من خشونتها بقوله «ما أجودها لولا خشونة فيها»، وبعد أن أصبح خليفة للمسلمين، وهو أعلى منصب دنيوي يصله الإنسان، كان يُشرى له الثوب بدراهم بخسة ويتحرش من ليونة فيها. فقيل له: أين لباسك ومركبك وعطرك يا أمير المؤمنين؟ فقال: إن لي نفسًا ذواقة، وإنها لم تذق في الدنيا طبقة إلا تاقت إلى الطبقة التي فوقها حتى إذا ذاقت الخلافة وهي أرفع الطباق تاقت إلى ما عند الله جلّ وعلا.
إذن، في الإنسان فطرة روحية تدفعه نحو التسامي نحو التعالي نحو العروج إلى الأعلى، ولا يجد الامتلاء إلا في الاتحاد بإنسانيته، بجوهر البشرية النقي، وهذه الفطرة الروحية هي مبدأ التصوف ومجال تنميته. وحتى نتمكن من رسم شخصية واضحة للتصوف لا بدّ من أن نرجع إلى التاريخ الصوفي، الذي يقدّم لنا نموذجين من الهوية الصوفية وهما: نموذج شخص اختار أن يتصوف فبادر إلى الاجتهاد في الرياضات والمجاهدات لينكشف حجاب النفس وتفتح الروح طاقاتها ويحظى برزقه الإلهي من المكاشفات والحقائق والمعارف.
ونموذج ثان ومن دون سبب ظاهر لنا، اختاره الله لأن يكون من أصحاب الفاعليات الروحية، فيكون إما من الذين يسبق فتوحهم رياضاتهم ومجاهداتهم وإما من أهل الحال والهيمان.
إذن، ارتسمت شخصية التصوف من دمج هاتين الهويتين، فصار التصوف في جزء منه رياضات ومجاهدات وفي جزئه الآخر فتوحًا ومشاهدات وطاقات روحية أو حالات عشقية.
على الرغم من انبهار معظم الناس وإعجابهم بنصوص عشاق الصوفية ونصوص الفتوحات والمشاهدات، فإنه يجب ألا نستخف بالإنجاز الصوفي في مجال إعادة صياغة الذات الإنسانية لتتصف بالمنعة والسمو وفي مجال الحث على الفضائل وبثها في الجماعة الإنسانية وجعلها متاحة للكافة، وليست مذهبًا نخبويًا. إن مكارم الأخلاق شيء أساسي في حياتنا، وقابل للتعلم والتعليم وهو لحمة العلاقات بين البشر.
والله سبحانه وتعالى جميل يحب الجمال، ولا يقرب إلا كل جميل، والجمال ليس فقط مظهرًا براقًا يانعًا، بل هو جمال الجوهر في تحققه بالقيم العليا والحقائق السامية. وعلى ما يقول أحد الصوفيين: «قل للمتبهرجين لا يتبهرجوا فإن الناقد خبير».
ذكرت القرب من الله، هل يقنع الصوفي به عادة، أم يطمح إلى ما يتجاوزه؟ أي إلى الاتحاد بخالفه؟ تختلف الأديان في رؤيتها لمرحلة الوصول المعنوي إلى الله، التي هي نهاية مراحل الطريق الصوفي لا نهاية ترقي السالكين الواصلين. وحيث إن العقيدة الإسلامية في الله تمنع اتحاد الإنسان بالله، أو حلول الله في الإنسان، وترى أن كل قول بالاتحاد أو بالحلول هو كفر صريح، ولأن الصوفي يقظ جدًا وعارف بالله متحقق، لا نجد في المعجم الصوفي مباحث تخص هذه الألفاظ، بل العكس إن صدق وعبّر الصوفي عن مقام وصوله بلفظ الفناء في الله فهو يسارع ليزيح من وهم القارئ المشابهة بين الفناء والاتحاد والحلول، فيقول عبدالكريم الجيلي مثلاً بعد كلام طويل عن روح الحق وروح الإنسان في قصيدته العينية:
تنزّه ربي عن حُلولٍ بقُدْسِهِ وحاشاه، ما بالاتحادِ مواقع
لقد أبدعت التجربة الصوفية الإسلامية مصطلحاتها، والصوفيون هم أول من ألّف من بين علماء المسلمين معجمًا للألفاظ المتبادلة بينهم. ومن الألفاظ المبدعة لفظ «الفناء» الذي يدل على وجود الصوفي ولا وجوده معًا، على وجوده وغيابه عن وجوده معًا.
هذه الرياضات والمجاهدات، هل صورتها عند الصوفية في الوقت الراهن مماثلة لصورتها التاريخية القديمة؟ وهل يمكن الآن، في مطلع الألفية الثالثة، إعادة إنتاج حركة تاريخية كالتصوف وإعطاؤها دفعًا عصريًا؟
بالنسبة للسؤال الأول، فإن الصورة التاريخية القديمة عن الرياضات والمجاهدات هي صورة مغلوطة لأن الصوفي عندما يقوم برياضاته ومجاهداته، لا يعادي الجسد ولا الحياة، بل العكس يبحث عن مصادر طاقة لجسده وحياته. فالبدن الإنساني هو قيمة إسلامية تفرض على صاحبه حقوقًا وواجبات، لذا، تنصب عملية الرياضة والمجاهدة على قتل شهوة البدن، لا البدن، لتحريره وحفظه وحمايته وإمداده بالطاقة والحيوية، وعلى قتل هوى النفس لا النفس، لتحريرها وحفظها وإمدادها بالطاقة والحيوية.
إذن، المعركة واضحة هي إعادة تنظيم للذات ضد كل ما يعيق تحرر الإنسان، ضد الأنانية والحقد والحسد والجمود والجشع والتكالب وقساوة القلب واللامبالاة.
أهل التصوف
أما اليوم، فقلة هم أهل التصوف المنكفئون على ذاتهم المتمرسون بالرياضة والمجاهدة، وذلك، أن التحديات المصادمة للوجود الصوفي قد اختلفت وطغى الإصلاح على كل التحديات، وهذا ينقلنا إلى جواب السؤال الثاني وهو إعادة إنتاج التصوف في مطلع الألفية الثالثة. أقول، إن التصوف ليس حركة وجدت في التاريخ بل هي كيان وجودي وفكري مستمر متواصل، وجزء لا يتجزأ من الإسلام ومن حياة المسلمين. لذا فهو يدخل المعاصرة أسوة بغيره من حقول العلوم الإنسانية لدى المسلمين، ويحاول صياغة حقله بعد صدمة النهضة.
وقف معظم رجالات النهضة ضد الصوفية، واعتبروا أنها المسئولة عن جزء كبير مما وصل إليه الحال في ديار الإسلام. لقد وُضعت الصوفية في قفص الاتهام ووُجهت إليها لائحة اتهامات: اتهامات تمسّ العقيدة، واتهامات تخص الشريعة إلى جانب اتهامات اجتماعية بالانعزالية واتهامات وطنية باللامبالاة والمسالمة الجبانة والانسحاب من الفعل. لقد عكس بعض الطرق الصوفية صورة سلبية سيئة للتصوف في حدقة المصلحين، ورثها عنهم المثقف عامة، واتصفت النظرة إلى التصوف في مطلع القرن العشرين بأنه عبارة عن استغراق في الغيبيات وعقل أسطوري وإيمان بالخزعبلات وطرف هلوسة وحال دروشة، لقد رُفض التصوف بحجة أنه يعطل العقل ويغيّب الإرادة ويوقع في التواكل والجمود… باختصار، لقد قفزت إلى السطح كلّ التطبيقات السيئة التي جرت في الزمن الرديء. وفي المقابل، هذه الهجمة على الصوفية اضطرت الطرق إلى الإصلاح وتصحيح المفاهيم لأبنائها ولكل الآخرين، وبدأ إصلاح صوفي.
وأقول هنا، إن الإصلاح تم في معظم الأحيان كرد فعل على النقد، وحيث إن النقد انصب على الناحية العقلية والعقائدية والشرعية، فنجد العديد من الطرق تعيد صياغة ذاتها لا انطلاقًا من وجودها الصوفي، بل انطلاقا من المطلوب منها، لقد جاء الإصلاح في معظم الأحيان على حساب دفاعها عن خصوصيتها الصوفية، فأصبح النص مسطحًا، وخفت صوت الغيب والعالم الداخلي والعالم الماورائي، وتأطر الكلام على الولاية والكرامة والمشاهدة والرؤية، وأصبح تجمع الطرق الصوفية يشبه إلى حد كبير التجمع الفقهي، وفقد الشارع الإسلامي غناه وخصوبته لحرمانه من تعدده وتنوعه، هذا التنوع الذي هو منبع الدينامية والحيوية والتقدم والإبداع.
وفي النصف الثاني من القرن العشرين، بدأ الاهتمام بالتصوف يقفز إلى واجهة العصر، وبدأت عملية اكتشاف لكنوزه ورموزه من كل الجهات، إنه إعادة اكتشاف للتصوف مفتوحة على إعادة الإنتاج.
تحدثت عن نماذج من العقل الخرافي الذي تسرّب إلى التصوف، وحسب عليه في حين أنه ليس منه. ولكن الريبة في التصوف موجودة في أذهان الكثيرين. لم ينس الناس بعد شطحات الحلاج في الأسواق وهو يصيح: يا أهل الإسلام أغيثوني، كما لم ينسوا ابن عربي وتعاطفه مع أهل الديانات الأخرى، وهو ما أساء إلى صورة ابن عربي وتراثه بنظر البعض.
لم يظهر العقل الخرافي في نصوص أعلام الصوفية أو في حياتهم الشخصية، بل ظهر في الفهم الشعبي المنقوص للمفاهيم الصوفية. إن العقل الخرافي ينمو في بيئة يحتلها الجهل والفقر، لأن الحل الخرافي هو البديل المتاح للحل العلمي والمادي والروحي الحقيقي في حال عدم توافره، فماذا نقول لرجل يمرض ابنه في مجاهل الدنيا حيث لا طبيب ولا دواء، حيث لا يتوافر إلا شخص ينسب إلى نفسه أو ينسب إليه محيطه البشري طاقة على المعالجة والإشفاء، الخرافة توأم الفقر والجهل، توأم الحاجة الملحّة، وصورة مزيفة لحقيقة روحية غائبة.
وأرى أن الصوفي لديه ما يقدّمه للعالم وإنه يمتلك حقائق كونية جديرة بالإنصات إليها، وأن محاربة العقل الخرافي ببرامج التعليم والتنمية تساعد في إزاحة استغلال مدّعي التصوف لحاجات الناس، وبذا تنزاح عن التصوف أقنعة الزيف لتظهر حقيقته الإنسانية. أما بخصوص كيف أدافع عن مثل هذا التصوف، أي عن تصوف أشخاص مثل الحلاج وابن عربي، فأقول إن التصوف ليس محتاجًا لمن يدافع عنه بقدر ما هو محتاج لمن يترجمه إلى الناس، لمن يبسّط خطابه ويوضح إشاراته ويفكك رموزه. فالحلاج إنسان عاشق، والعاشق ينطق تحت وطأة الهيام بمعشوقه بكل أشكال الشطحات، وكتب العشق في الأدب العربي مليئة بأخبار العشاق وأقوالهم وشطحاتهم. أما ابن عربي، فإنه يدافع عن نفسه بنفسه، لقد كتب آلاف الصفحات التي يفسّر بعضها بعضًا، ولا يتسع المجال لتبيان عقيدته بالله ورؤيته للوجود والإنسان، ولكن أقول، إن تحدّث ابن عربي على أخوّة البشر جميعًا، فهو يعبّر عن وجه من الإسلام مغيّب لدى كثير من المسلمين أنفسهم. وقد قمت في دراساتي الشخصية كما قام عديد من العلماء الباحثين بقراءة أفكار ابن عربي وتفسيرها وتبيانها لإزالة حاجز الحذر الذي تشير إليه. وأنا أدعو الجميع إلى قراءة الكتب الصوفية لأن إحياء التصوف هو إحياء للروح الإنسانية للمودة والصداقة والمحبة بين البشر، هو إحياء للدين الحقيقة المؤسس على حب الله وحب الناس.
وبناء عليه، فأنا لا أرى حاجة ابن عربي لمن يدافع عنه، بل أرى حاجته لأن يعرف لأن يُفهم لأن يقرأ بوعي إنساني متفتح، ونحن في زمن فتوحات المادة نحتاج إلى فتوحات إنسانية مقابلة، نحتاج إلى من يرى الوجود ناقصًا لا يكمّله إلا الإنسان، إلى من ينظر إلى كل الكائنات لا في كينونتها المنعزلة، بل في كونها مخلوقات الله، صنعه، وبذلك يتقدّس الوجود لأن كل مساس به هو مساس بما أبدع الله سبحانه.
هل ترين أن من الممكن جذب الإنسان المعاصر إلى حركة تصوف؟
في تصوري نعم يستطيع العاملون في الحقل الصوفي اجتذاب الإنسان المعاصر، لأن الفضاء الحضاري اليوم مؤات لحركة تصوف حديثة. ونظرة حولنا ترينا إلى أي مدى يبحث إنسان اليوم عن التصوف، ويحاول أن يتصوّف ويفعّل بعده الروحاني ولو قليلاً ليحقق تكامله وتوازنه الإنساني. والدليل على ما نلمسه من توجّه شرائح اجتماعية عدة إلى اليوغا والتأمل التجاوزي وغير ذلك من أشكال الاهتمام بالأعماق وبالعالم الداخلي. كما نلاحظ أن لكلمة تصوف نفسها اليوم تأثيرًا إيجابيًا جذّابًا يثير اهتمام الناس وتعاطفهم ورغبتهم في المعرفة والتعمّق، خلافًا لما كان الوضع عليه في القرن الماضي.
أما بخصوص حركة تصوف حديثة، فأرى أن العولمة تفرض على كل الميادين العلمية، البحتة والإنسانية، أن تنفتح على بعضها، وتُجري التعارف وتتبادل الخبرات، وهذا يرسم مطلع عهد جديد ليس للتصوف فقط، وإنما لكل العلوم. وأنا أسعى إلى إرساء نظرة علمية إلى التصوف، وهذا لم أبتدعه، بل سبقني إليه العديد. إنني أكمل عمل السابقين، وأتواصل معهم لأنني أؤمن بأنه بالتواصل لا القطيعة يتحقق التراكم وتتقدم المعرفة. الإمام الغزالي، حجة الإسلام، في كتابه الحي «إحياء علوم الدين» أجرى مصالحة بين العلم الصوفي والعلم الفقهي، وبيّن مضمون العلم الصوفي ودوره في حياة الناس، عادة وعبادة. وأنا استعدت مشروع الغزالي وأكملته. فالغزالي قسم العلوم الصوفية إلى علوم معاملة وعلوم مكاشفة، وارتأى لإجراء المصالحة أن يضع علوم المكاشفة بين قوسين، ويتوسع في علوم المعاملة لأنها تؤمن أرض تقارب ولقاء بين العلمين السلفي والصوفي، هذا من جهة، ومن جهة ثانية لأن علوم المعاملة هي فرض عين، وهي الموصلة إلى المكاشفة التي تتنوع بين واصل وواصل، وهي رزق مخصوص يستحسن عدم البوح به. أقول، إنني أحاول أن أستكمل مشروع الغزالي، وأستعيد علوم المكاشفة من بين القوسين المذكورين، لأن الظروف الإنسانية مختلفة والمسلم اليوم – أسوة بأخيه إنسان الأرض، يريد أن يعرف أكثر عن عالم روحه وإمكاناته غير المألوفة، لأنه يريد أن يفتح طاقات وجوده إلى نهاياتها الممكنة.
وإلى أين انتهت الدكتورة سعاد في رحاب هذا العلم اللّدني؟ كيف تروي تجربتها الروحية؟
درجت عادة على البوح بتجربتي العلمية، وقلما تحدثت عن حياتي الروحية. وعندما أجد في هذه التجربة ما يستحق التدوين ويفيد الناس، سأعمد إلى كتابتها، وأكتفي الآن بما قاله الإمام الغزالي:
وكان ما كان مما لستُ أذكره
فظُنّ خيرًا ولا تسأل عن الخبر
ويا جارة الوادي طربت وعادني
ما زادني شوقًا إلى مرآكِ
فقطّعت ليلي غارقا نشوان في
ما يُشْبهُ الأحلامَ من ذكراك
مثلتُ في الذكرى هواك وفي الكرى
لما سموتُ به وصنتُ هواكِ
ولكم على الذكرى بقلبي عبرةٌ
والذكرياتُ صدى السنين الحاكي
______________
المصدر : موقع مجلة العربي
http://www.alarabimag.net/arabi/Data/2007/2/1/Art_77006.XML