في مقاربة طه عبد الرحمن
يعتبر كتاب «العمل الديني وتجديد العقل» من كتب طه عبد الرحمن التي لها علاقة وطيدة بالتجربة الصوفية، وهو ليس سيرة ذاتية كما يعتقد البعض. وحاول طه في فصل «صوفيات» من مؤلفه الموسوم بـ «حوارات من أجل المستقبل» تبيان المقاصد التي تغياها في كتابه. وإليكم في ما يلي أهم ما ورد في هذا الفصل من أفكار ورؤى تخص تجربة طه الصوفية وآراءه في التصوف والجمال.
بداية يحدد طه مقاصده في هذا المؤلف في ثلاثة:
المقصد الأول: بيان أن التجربة الصوفية، على خلاف ما انغرس في العقول منذ عهود، لا تتعارض أبدا مع المعرفة العقلية، بل- يستدرك طه- قد تكون سببا من أسباب إثراء هذه المعرفة والتغلغل فيها.
ويعترف طه بأن التجربة الروحية لا تمدنا بخصائص موضوعية للأشياء، ولا بآليات إجرائية، ولا بقواعد مقررة، ولا بقوانين ثابتة، كما تمدنا بها ممارسة عقلنا النظري قبل دخولنا في هذه التجربة؛ ولكنها مع ذلك- والكلام لطه- تمدنا بشيء آخر لا يقل فائدة ولا تأثيرا عما يمدنا به النظر. وهذا الشيء، في نظر طه، هو بالذات مجموعة من القيم والمقاصد والمعاني المستمدة من الممارسة العملية.
ومتى تزود الإنسان بهذه القيم الروحية، انفتح له، في هذه الخصائص والآليات والقواعد والقوانين الموضوعية التي يمده بها النظر، إمكانات مختلفة في توظيفها وتوجيهها وإعادة تشكيلها وترتيبها، إمكانات لا تنفتح للإنسان أبدا بدون هذه القيم، ولا تتفاوت العقول فيما بينها إلا بتفاوت نصيبها من هذه الإمكانات الاستثمارية للأشياء. وبالتالي- يقرر طه- لا بد أن يحظى عقل الإنسان من التوسع والتعمق على قدر زاده من هذه القيم، أي على قدر تغلغله في التجربة الروحية.
ويخالف طه ابن رشد في ظنه أن التجربة الصوفية، لما كانت عملية، فإنها لا تنفع المعرفة النظرية في شيء، وذلك – يقول طه _ تقريره – تقليدا لأرسطو – الفصل بين النظر والعمل، وهذا – يضيف طه – في غاية الفساد. ودليل طه في تقريره لهذا الحكم نابع من كون العمل، كائنا ما كان، لا ينفك يفعل ويؤثر في النظر، والنظر لا ينفك يوسع وسائله وينمي بنياته تحت هذا التأثير العملي، بل إن هذا التأثير- في تصور طه- يتزايد قوة كلما تم الارتقاء في مراتب العمل، وازداد هذا العمل رقة وشفوفا. فمثلا- يقول طه- لا أحد يمكن أن ينكر أن العمل الحسي يؤثر في النظر العقلي، والعمل الحسي ليس درجة واحدة، بل هو درجات متعددة، بحيث يزداد التأثير في هذا النظر بازدياد الترقي في هذه الدرجات الحسية، فما بالك – والكلام لطه – بالعمل الروحي الذي لا نزاع فيه أنه أرق وأشف من العمل الحسي! فإن له في النظر العقلي تأثيرا أبعد وأبلغ؛ ثم- يقول طه- لما كان العمل الروحي هو أيضا على درجات فيها من الكثرة ما لا يقاس بما نجده في نظيره الحسي، إن هذا التأثير يبلغ النهاية في القوة؛ ومتى سلمنا بأن أدنى درجة من العمل الروحي أقوى تأثيرا في النظر العقلي من أعلى درجة من العمل الحسي، فما ظنك- يضيف طه- بدرجاته العليا التي لا حد لها!! فإن تأثيرها يكون من الرسوخ والشدة بحيث لا يقارن بسواه؛ وبذلك، صح أن التجربة الروحية تفعل في المعرفة العقلية أضعاف ما تفعله التجربة الحسية فيها، إن إغناءً لقدراتها أو تنويعا لمراتبها أو تمديدا لأطرافها.
المقصد الثاني: بيان كيف أن القوى الإدراكية للإنسان على اختلافها متصلة بعضها ببعض، بحيث ليست هناك قوة حسية خالصة ولا قوة عقلية خالصة ولا قوة روحية خالصة، بل في القوة الحسية بعض من العقل كما في القوة العقلية بعض من الروح؛ والعكس صحيح، ففي القوة الروحية- والكلام دائما لطه- من أثر العقل ما يضاهي ما في القوة العقلية من أثر الحس؛ وإذا جاز وجود هذا الاتصال بين القوى الإدراكية المختلفة، جاز أن تكون التجربة الروحية مكملة للنظر العقلي، لا منقطعة عنه، ولا بالأولى مفسدة له كما زعم البعض عن باطل.
المقصد الثالث: بيان كيف أن العقل ليس مرتبة واحدة، وإنما مراتب عدة بعضها أعقل من بعض، بحيث يكون أدناها عقلا ما كان موصولا بالرتبة الأخيرة من رتب الحس، لأنه- في نظر طه – ما زال يحمل بعضا من خشونته وكثافته، ويكون أعقلها جميعا ما أشرف على الرتبة الأولى من رتب القوة الروحية، إذ يكون قد لاح له مطلع من رقتها ولطافتها، فانطبع به، إن كثيرا أو قليلا.
بين الغزالي وطه
يقول طه في هذا الصدد: لا يجمعني أنا وإياه -أي الغزالي- إلا خوض غمارها -أي التجربة الصوفية-. ويشرح طه هذه الفكرة مشيراً إلى أنه لم يدخل في التجربة الصوفية فارا ولا شاكا، كما دخل فيها الغزالي؛ ويفصل قائلا:
الغزالي فر إلى التصوف اضطراراً، بينما أقبلت عليه اختياراً. وفرار الغزالي، في تصور طه، كان من اثنين: «فرار من الجاه الذي كان ثمنه المكوث في أحضان الدسائس والمؤامرات والتصارع على السلطة» و«فرار من الشك الذي كان قد بقي في نفسه بسبب اشتغاله بالفلسفة مدة».
بينما كان إقبال طه على التصوف لسببين مخالفين تماماً، أولهما: إرادته في تقوية صلته بالله، حبا فيه لذاته، لا فراراً من غيره، بل يقول طه: كانت هذه المتعة أكبر من أن أنشغل بسواها. والسبب الثاني يتمثل في إرادته التحقق من طبيعة المعاني التي هي فوق طور العقل الفلسفي، هل هي غير عقلية كليا أم أنها عقلية بوجه ما؟ يقول طه في هذا الصدد: فلم يجعلني اشتغالي الطويل بالفلسفة – بل اشتغالي بالمنطق الذي هو أقوى استدلالاً وأصح استشكالاً- أشك ولو طرفة عين في الحقيقة الإيمانية، مصداقاً لقول القائل: «إن الكثير من الفلسفة يورث اليقين والقليل منها يورث الشك» على عكس- والكلام دائما لطه- ما أوهمنا به «ديكارت»، جيلا من بعد جيل. ولا جعلني- يضيف طه- هذا الاشتغال بالفلسفة أتردد برهة في فائدة التجربة الروحية للوصول إلى مزيد من المعرفة بهذه الحقيقة الإيمانية كما حصل لابن رشد، إذ اكتفى بتقصي أخبار الصوفية كما فعل مع محيي الدين ابن عربي، بل بالتجسس عليهم كما فعل مع أبي العباس السبتي؛ واعتقادي- يقول طه- أن هذا النوع من استراق السمع، الذي بدا من ابن رشد، دليل على تزعزع إيمانه بإطلاق المعرفة الأرسطية، فكان يسعى إلى التأكد من وجود معرفة غير أرسطية.
المعرفة الحدسية
يرى طه أن من الفلاسفة من يفرق بين الحدس والاستدلال، بل يقابل بينهما مقابلة الضد لضده. لكن طه يرى أن هذه المقابلة فيها كثير من التكلف، الحدس والاستدلال هما إدراكان عقليان لا يختلفان إلا في كون الأول إدراكا مباشرا وكون الثاني إدراكا غير مباشر؛ وإذا كان الأمر كذلك- يقول طه- فقد جاز أن يكون الفرق بين الحدس- أو الإدراك العقلي المباشر- وبين الاستدلال- أو الإدراك العقلي غير المباشر- فرقا نسبيا فحسب؛ والأدلة على ذلك، في نظر طه، كثيرة، منها أن الشيء الواحد قد يكون حدسا عند البعض واستدلالا عند غيره، وأن ما يعد بديهيا أو أوليا، أي حدسيا، في نسق منطقي ما قد يصير أمرا مبرهنا عليه في نسق غيره.
وعند طه الحدس والاستدلال بمنزلة لغتين تعبران عن حقيقة واحدة أو وجهين لهذه الحقيقة، ويختلف طه في هذا تماما مع “ديكارت» و»برغسون» وغيرهما من الحدسيين. فلو سألني- يقول طه- السائل: ما الحدس؟ لأجبته: «الحدس استدلال مطوي» أو سألني: ما الذوق؟ لقلت: «الذوق عقل مطوي»، أو سألني، على العكس من ذلك: « ما الاستدلال؟ لأجبته: «الاستدلال حدس منشور» أو سألني: ما العقل؟ لقلت: « العقل ذوق منشور».
النظرية الجمالية والتجربة الصوفية
إن الإنسان الذي لا تكون له نظرة جمالية إلى الأشياء في نفسه وفي أفقه، لا يكون – في رأي طه- إنسانا كاملا، نظرا لأن الإنسان ذو بعدين اثنين:
أحدهما، البعد الجلالي، وهو ما تتفتق عنه قريحته من الحقائق التي تمده بالقوة، علما أو فكرا أو منطقا أو صناعة أو ما شابه ذلك؛ والثاني البعد الجمالي، وهو ما تتفتق عنه موهبته من القيم التي تمده بالرقة، أدبا أو رسماً أو مسرحاً أو موسيقى أو ما شابه ذلك. والإنسان الكامل – في تصور طه – لا بد أن يجمع بين البعدين في حياته الخاصة وحياته العامة، لأن الإنسان متوازن مستو، فبقدر ما يكون قوياً يكون رقيقاً، لأن قوته من عقله ورقته من ذوقه.
يقول طه: لذلك، لا بد أن تكون التربية على الجلال عند الصغار والكبار معا مصحوبة بالتربية على الجمال، حتى يتحقق هذا التوازن والاستواء، لا بد لكل فيلسوف أن تكون له نظرية في الجمال كما تكون له نظرية في الجلال.
أما نظرية طه في الجمال فتختص بصفات ثلاث:
– الجمال متعة طيبة ترفع همة الإنسان إلى مزيد الكمال، بحيث كلما حصَّل الإنسان منها نصيبا، ارتقى درجة في إنسانيته، وما أن يدرك هذه الدرجة، حتى يطلب متعة فوق المتعة الأولى، يرقى بها إلى درجة في إنسانيته فوق الدرجة الأولى، وهكذا دواليك في جدلية دائمة بين الاستمتاع والاستكمال، كل متعة تنقله إلى كمال وكل كمال ينقله إلى متعة فوقها.
– القيمة الجمالية، على خلاف العقيدة السائدة بين أهل الأدب والفن، لا تعارض أبدا القيمة الأخلاقية، لأن الجمال مراتب، طرفه الأدنى الجمال الظاهر القريب، وطرفه الأعلى الجمال الباطن البعيد، وبينهما مراتب لا تحصى. والأخلاق كذلك مراتب، طرفها الأدنى الخلق الظاهر المقيِّد، وطرفه الأعلى الخلق الباطن المحرِّر، وبينهما مراتب هي الأخرى لا تحصى. ويعتقد طه أنه كلما ارتقت رتبة الإنسان في إحدى القيمتين، ازداد قربه من القيمة الأخرى، حتى إذا نزل أعلى الرتب في إحداهما، كان في الوقت نفسه نازلا أعلى الرتب في الثانية، بحيث لا تفترقان إلا في الرتب الدنيا، أما في الرتب العليا، فهما مجتمعتان اجتماعا لا افتراق معه. ويلخص ما سبق بتقرير قاعدة ذهبية تقول: فالجمالي العظيم أخلاقي عظيم، والأخلاقي العظيم جمالي عظيم.
إذا تعذر على أمة ما الإسهام في محيطها الحضاري ببعدها الجلالي الذي هو القوة والبأس، فإنه يبقى لها دائما متسع في أن تسهم في هذا المحيط ببعدها الجمالي الذي هو الرقة واللطف. ومن هنا يذهب طه إلى أنه يتعين على مفكرينا أن يفكروا في الطرق الجمالية التي ينبغي أن تسهم بها الأمة الإسلامية العربية في هذا القرن الجديد، ما دامت لا تتراءى لنا آفاق الإسهام فيه ببعدنا الجلالي، قوة وبأساً. سوف يكون لنا من العطاء الجمالي ما نجعل أهل هذا القرن يحتاجون إلينا قدر احتياجنا إلى عطائهم الجلالي.
ولعل أبلغ عبارة يمكن أن تلخص رؤية طه للتصوف والجمال قوله: من ينشد الكمال الفلسفي لا بد من أن يستشرف أفق الجمال الروحي.
______
المصدر : موقع النور :
http://www.annoormagazine.com/mag/ar/167/thakafa/thakafa_04.asp