عبد الحفيظ غرس الله/جامعة السانية – وهران
إن طرح وتحليل البعد الغيري في موروثنا الصوفي الإسلامي، يتطلب قراءات معمقة، ومقاربات متنوعة حول طبيعة هذا الموروث، والذي يشكل في منظورنا نظاما معرفيا وسلوكيا مثل محددا أساسيا في تشكل مجتمعاتنا العربية والإسلامية تاريخيا وثقافيا.
السؤال المركزي الذي يطرح في هذا المقام هو: هل يتضمن هذا النظام، عناصر الانفتاح على الأخر؟ ومعاني الغيرية التي يمكن أن تكون معابر للقاء والحوار، نتجاوز من خلالها عقم جدلية الأنا والأخر، التي ما فتئت تؤكد الفجوة، وتقرر المسافة دائما بين طرفيها، وتلغي إمكان التفاعل والتعايش.
لقد إرتكسنا ردحا تاريخيا في فجوة هذه الجدلية، منذ انطلاق مشروع النهضة إلى عتبة هذه الألفية، حيث الحلم الإنساني بات يتجافى عن الواقع.
ونعود ثانيا لنتساءل عن طبيعة البنية الروحية التي تشكل منها النظام الصوفي في الإسلام.
نقصد بالبنية الروحية في المجتمعات الإسلامية عموماً، والمغاربية بشكل خاص، المرجعية الدينية التي تنطلق من تجربة الغيب في واقع عالم الشهادة أو تجربة الماورائي Le Surnaturel في المحيط الاجتماعي. وقد تمخض عن هذه التجربة نظام عرفاني وسلوكي أعطى للحاجات الروحية الأهمية في كل فعل، وأضفى عليها معنى جوهري في رؤية العالم، وتصور الحياة الاجتماعية. يتبلور هذا النظام في ظل ثقافتنا العربية والإسلامية الكلاسيكية، من خلال زخم المعنى الذي تضمنه النص الديني، اعتماداً على آلية التأويل الباطني (1) الذي لا يقف عند حدود الشريعة، بل يمتد إلى ما وراء ذلك حيث تتجلى دلالات الحقيقية.
ومن خلال السياق التاريخي أيضا، الذي تمت فيه تلك النقلة المجتمعية التي عرفتها المجتمعات العربة والإسلامية، من طور البداوة إلى طور الحضارة، تحولت بموجبها كل الممارسات الدينية والاجتماعية، إلى نظم معرفية متنوعة شكلت صرح الثقافة العربية والإسلامية (2).
إنّ البنية الروحية هي انعكاس لحاجات حيوية كامنة في المجتمعات التقليدية، بلورتها مرجعية مرتبطة بالمقدس، كطاقة روحية أوجدت لنا تشكيلة من الممارسات والسلوكات والطقوس للدلالة على تمثل قيم المطلق.
يذهب Mircea Eliade بهذا الصدد، إلى أنّ المجتمعات التقليدية متمردة باستمرار على الزمن الواقعي والتاريخي، ويغمرها حنين مركز نحو العودة الدورية إلى الزمن الميتي Mythique والأصول أو الزمن الأكبر. في هذه المجتمعات، نجد تمركزاً شديداً لنزعة زمنية عميقة حول المطلق والأبدية، من خلال مجمل الممارسات الاجتماعية، والتمثلات الذهنية التي تغذيها شخصيات روحية (3). وتمثل البنية الروحية في المجتمعات الإسلامية، عمق الثقافة الإسلامية التي امتلكت مفهوم “الله” جاعلة من العلم، من هذا الواحد الأحد، الغاية الوحيدة للحقيقة. لقد كانت ثقافة مركزها “الله” (4).
انطلاقاً من هذا المعطى الجوهري، ظهر التصوف كنظام معرفي وسلوكي مستقل، يستمد مصداقيته وحضوره من المعنى المؤسس على الألوهية والمسالك المؤدية إليه من خلال العالم كحقل تحقق هذه المسالك والتجليات. وقد كانت العلاقة بين الإنسان والعالم، محل تداخل وانجذاب في ظل نظام التصوف، حيث توسعت دائرة التفاعل بين العنصرين ولم تكتف بالبعد الأنطولوجي فحسب، بل اخترقت الحقل الاجتماعي والعلائقي، وعليه أضحى التصوف وقيمه الروحية والأخلاقية والجمالية، موضوع للعملية الاجتماعية التي حملت على عاتقها تنشئة الأفراد وبناء الشخصية وتكريس هوية الانتماء.
عبر هذه العمليات أي التطبع الاجتماعي والتكثيف Social Massification استطاع التصوف كنظام عرفاني وسلوكي أن ينمذج تجربة المطلق في المحيط الإسلامي العام (5).
لقد اعتبر التصوف كنظام مرجعاً أساسياً في صياغة البنية الروحية للمجتمعات العربية والإسلامية، على اعتبار أنّ مفهوم البنية في التراث السوسيولوجي الحديث (6) يدل على أنظمة الإكراه التي تشكل معالم الفعل الفردي، وبالتالي فانه ثمة بنية خاصة على غرار مجموع البنى المشكلة لصرح المجتمع كالبنية الاقتصادية، السياسية، العائلية… إلخ، أطلقنا عليها اسم البنية الروحية.
ساهمت البنية الروحية في انبثاق محيط المجتمعات العربية والإسلامية. بل كانت هذه البنية عنصر تمايز هذه المجتمعات وأرضية صدور المقدس الإسلامي وهيمنته على أجواء الحياة الاجتماعية. ويبدو ارتباط التصوف بالبنية الروحية، وبلورته لها في كامل السياق التاريخي للمجتمعات العربية والإسلامية، حيث أنه جسد أهم عامل ملازم وضروري للفكر الديني والذهنية العربية والإسلامية، وحتى أنه كان مصدر الطاقة الانفعالية والوجدانية للمجتمعات الإسلامية. لقد ترك التصوف طابعاً عميقاً في مفهوم الحضارة(7). لعلّ الغائص في كتب القوم، والمتمعن في مقالاتهم، يجد ميزة خاصة انفرد بها هذا الحقل المعرفي، نراها بارزة في نصوصهم التي تحكي تجاربهم الروحية، ورؤاهم للوجود والعالم والذات.
من بين المجالات التي أبدع في بيانها المتصوفة، التصوف ذاته، أرضية حرثهم، وحقل إنتاجهم، حيث هناك آلاف التعاريف حول التصوف، تحمل كلها أبعاد عميقة وغنية تدل على انفتاح التجربة الروحية على مستوى المفهوم والممارسة. ينقل لنا السهروردي في كتابه العوارف والمعارف(8) عدداً من التعاريف الهامة التي تكتسي طابع الفعالية والانفتاح. فيروي عن عمرو بن عثمان المكي “التصوف أن يكون العبد في كل وقت مشغولاً بما هو أولى في الوقت”. وقول شيخ الطائفة الجنيد في تحديده هوية الصوفي “الصوفي كالأرض يطرح عليها كل قبيح ولا يخرج منها إلا كل مليح” وقال أيضاً : “هو كأرض يطأها البر والفاجر وكالسحاب يظل كل شيء وكالقطر يسقي كل شيء”.
لا ضير أنّ التصوف قد انبثق من الحضيرة الدينية الإسلامية، وله أصوله في النصوص الدينية من القرآن والسنة وعمل السلف الأول. لكن هذا مثل مرجعا انطلق منه النظام الصوفي قراءةً وتأويلاً، أما تشكيلة هذا النظام فقد تمت في سياق تاريخي بفعل تغيرات بنيوية شهدها المجتمع الإسلامي العربي الأول.
أمامنا نص لابن خلدون في مقدمته يتناول في أحد فصوله العلوم وتطوراتها ومن بينها علم التصوف : “هذا العلم من العلوم الشرعية الحادثة في الملة وأصله أن طريقة هؤلاء القوم لم تزل عند سلف الأمة وكبارها من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، طريقة الحق، والهداية وأصلها العكوف عن العبادة والانقطاع إلى الله تعالى والاعتراض عن زخرف الدنيا وزينتها والزهد فيما يقبل عليها الجمهور من لذة ومال وجاه والانفراد عن الخلق في الخلوة للعبادة، وكان ذلك عاماً في الصحابة والسلف, فلما فشا الإقبال على الدنيا في القرن الثاني وما بعده وجنح الناس إلى مخالطة الدنيا”(9).
تفيد هذه الإحالة الخلدونية إلى مسألتين فيما يتصل بالنظام الصوفي :
المسألة الأولى : تتمثل في شرعية التصوف، وانتمائه للمنظومة المعرفية في الثقافة الإسلامية الأصلية، التي ترتكز على المنقول وتلتزم بالضوابط الشرعية وتعتمد على مرجعية الإسلام الأولى.
المسألة الثانية : تظهر في التغيرات العميقة في النسيج الاجتماعي، التي حدثت بعد أفول عصر النبي ، بفعل الانتقال من نمط الخلافة إلى نمط الملك، والتغير من طور البداوة إلى طور الحضارة، بداية مع العصر الأموي وما صاحب هذه النقلة من اضطرابات وهزّات على المستوى الداخلي السياسي منه والقيمي، حيث انفتح الناس على منجزات المدينة التي كانت موجودة في الأمصار، والمناطق التي انتشر فيها الإسلام، وظهور نزوع دنيوي كبير يتعارض إلى حد ما مع ما عهده الجيل الأول من التركيز على القيم الروحية والأخلاقية.
هذه التغيرات(10) مثلث مبرراً موضوعياً لظهور تجارب زهديه اتخذت أكثر من نموذج نسكي وروحي، انتهت في نهاية المطاف،إلى مجموعة من الرؤى والتمثلات الجمالية والأخلاقية والوجودية. وفي هذا الإطار يستخلص (M. Mokri (11 أن التصوف هو ظاهرة اجتماعية، صدر من نموذج مثالي حريص على المحافظة على نقاء الدين.
فكما كتبت العلوم ودونت وألف الفقهاء في الفقه وأصوله والكلام والتفسير وغير ذلك، كتب رجال من أهل هذه الطريقة، فمنهم من كتب في الورع ومحاسبة النفس على الاقتداء في الأخذ والترك، كما فعله القشيري في كتاب الرسالة والسهرودي في كتاب العوارف والمعارف وأمثالهم.
يفيد هذا النص الخلدوني، سيرورة تشكل صرح الثقافة العربية الإسلامية، التي تأسست على تصنيفية أساسية تبلورت في ازدواجية الظاهر – الباطن، الشريعة – الحقيقة، الفقه – التصوف. والتصوف كمعرفة وسلوك، يحصل كنتيجة الالتزام بنظم الشريعة وطقوسها، التي شملت على حد تعريف ابن خلدون جوانب الحياة الاجتماعية الدينية والعلائقية، وهذا الفضاء محكوم بسلطة الفقهاء وأهل الفتيا.
أما المجال الثاني المخصوص بالمتصوفة فهو محكوم بسلطة رمزية، ينتجها نظام المعنى الذي يكرسه المتصوفة من خلال دور استيحاء الدلالات الكامنة في نظم الشعائر والطقوس. وهذا يتم من خلال ممارسات لطقوس خاصة يؤديها المتصوفة لتحقيق هذا المعنى “كن معنى وإلاّ فاتتك المعنى” (12).
ولأنّ أهل المعرفة الصوفية لا يؤدون طقوس الشريعة ولا يؤسسون سلوكاتهم الدينية والاجتماعية في نطاق رسمي أو كما يعرفون في اصطلاحاتهم عن أولئك الجاثمين على ظواهر النصوص والأحكام (أهل الرسوم). بل إنهم يكاشفون المعنى في الممارسات التي تنطلق من محدد الشريعة.
وهذا النظام الصوفي قد خضع لنفس الوتيرة في تشكيلاته مع بقية الحقول المعرفية الأخرى والتي تنتظم في إطار علم الظاهر، وانتقال العلم من الصدور إلى السطور، أو بالتحديد الأنثروبولوجي الحديث، الانتقال من الثقافة الشفوية المعتمدة على النقل الشفوي إلى الثقافة المكتوبة المبنية على التدوين والكتابة. ثم ينتقل ابن خلدون في سياق هذا النص الكاشف عن طبيعة النظام الصوفي وأبعاده السوسيو- ثقافية إلى الحديث عن التجربة الصوفية التي تنتهي إلى مطاف الكشف وتجاوز الحسّ.
فالإسلام الصوفي هو تيار فكري يمتلك معجمه اللغوي والتقني الخاص به كما يمتلك خطابه المتميز ونظرياته المتفردة. وفي الوقت ذاته يتمتع هذا التيار بأسلوب حياة دينية يستخدم الشعائر والاحتفالات الفردية والجماعية من أجل أن يجعل الجسد والروح يتواكبان ويساهمان في عملية تجسيد الحقائق الروحية.
ويلاحظ محمد أركون (13) أنّ التصوف في مقصده النهائي والأعمق يمثل أولاً التجربة المعاشة نتيجة اللقاء الحميمي بين المؤمن والإله “المطلق”، ويضيف أركون في تحليله تجربة التصوف أنها “محللة بواسطة محاسبة الضمير وعودة الصوفي على ذاتهً.
ثمة قيمة معرفية ذات دلالة سوسيولوجية، نستجليها من قراءتنا للنص الخلدوني تتمثل في طرحه لمكانة المتصوفة في إطار النخبة (14) في المجتمع العربي الإسلامي الكلاسيكي، فهم “الخاصة” أو أرقى من ذلك، “خاصة الخاصة”، وتحقيق هذه المكانة يقتضي السلوك في اتجاه تطوري وتقدمي، يضمن الترقي إلى أعلى المقامات، وهذا يقابل في المخيال الاجتماعي العربي الإسلامي الكلاسيكي، تحصيل مكانة هامة في سلم التراتبية الاجتماعية. ويشيد ابن خلدون في مطلع حديثه عن علم التصوف تأكيد هذه الدلالة بإيعاز أصولها، وولادتها تاريخياً “وأصله أنّ طريقة هؤلاء القوم لم تزل عند سلف الأمة وكبارها من الصحابة والتابعين” (15).
وتشير الكتابات الكلاسيكية في مادة التصوف، أو حتى الدراسات الحديثة إلى ارتباط ظهور التصوف تاريخياً بشخصيات كارزمية تمثلت في أئمة أهل البيت (16) بدءً بعلي(17) وبعض كبار الصحابة كأبي بكر وسلمان الفارسي وأبي ذر الغفاري… وبدأ هذا النمط النخبوي يعيد إنتاج نفسه فيما هي المكانة المتبوئة، ومن خلال الشخصيات الصوفية التي تتصل عن طريق النسب أو التلقين العرفاني بالسلسلة الذهبية التي تنتهي بأهل البيت، وتحديداً بشخصية الرسول وأخيراً بالله الحق الذي لقّن، عبر هذا الطريق، علم الحقيقة.
ومن جهة أخرى يعتمد النظام الصوفي في إطار تحقيق هذه المكانة على ترقية سيكولوجية، هي الكفيلة بحصول هذه المكانة داخل النظام الصوفي،والتي تتوازى اجتماعياً بما يحضاه السالك أو الواصل من حضور اجتماعي وسلطة رمزية مهيمنة.
تتحدد استراتيجية الترقية داخل النظام الصوفي وفق درجات يطلق عليها أهل التصوف المقامات أو المنازل أو الأحوال، وللصوفيين اختلاف كثير في عدد المقامات وترتيبها، كل يصف منازل سيره وحال سلوكه، ولهم اختلاف في بعض منازل السير أهي من قسم المقامات أم من قسم الأحوال ؟ فالمَقام يفتح الميم هو في الأصل موضع القيام وبعضها موضع الإقامة وقد يكون كل منها بمعنى الإقامة وبمعنى القيام، والمقام بالفتح والضم ما يتحقق به المريد من الصفات المكتسبة بالرياضة والعبادة كمقام الخوف من الله الذي يحصل بترك الكبائر فالصغائر فالمكروهات فالشبه.
والحال معنى يرد على القلب من غير تعمد ولا اجتلاب كالطرب والحزن والشوق والهيبة، فالأحوال مواهب والمقامات مكاسب بمواهب، لأنها إنما تنال بالكسب مع الموهبة، والعبد بالأحوال يترقى إلى المقالات ولا يلوح له حال من مقام أعلى من مقامه إلاّ وقد قرب ترقيّه إليه، وليس للمريد أن يتشوف إلى مقام فوق مقامه ما لم يستوف أحكام ذلك المقام وأحواله، ومنهم من يقول “الأحوال من نتائج المقامات والمقامات نتائج الأعمال” (18).
إنّ النظام الصوفي، في ضوء هذه التقنية السيكولوجية الهادفة إلى إيجاد سلم خاص بالترقيات الفردية والجماعية، تبلور عملية إنتاج النخبة التقليدية التي تستغرق شريحة أقلية(19) تمتلك في نطاق معين، اعتبارات رمزية وروحية وثقافية مرتبطة بالمعنى المهيمن على الشرائح الأخرى.
هذا النظام الصوفي في تشكله وبنيته، وأبعاده، ينتمي كما يذهب إلى ذلك ابن خلدون إلى الدائرة المذهبية السنية ،لكن ثمة اتجاه آخر يطلق عليه ابن خلدون في كتابه الشفاء بالتصوف الفلسفي حيث يضع هذا النوع من التصوف خارج خانة التصوف الإسلامي، إذ يعتبره انشغالا فكرياً سلبياً، يبتعد في موضوعه وطبيعته عن أصول الشريعية التي تتسم بالوضوح، والصفاء، والبساطة، حيث يقول :(20) ” ثم إن قوماً من المتصوفة المتأخرين، عنوا بعلوم المكاشفة، وعكفوا على الكلام فيها، وصيروها من قبيل العلوم الاصطلاحات، وسلكوا فيها تعليماً خاصاً، يدعون فيه الوجدان المشاهدة، وربما زعم بعضهم قي ذلك ما زعمه الآخرون، فتعددت المذاهب، واختلفت النحل والأهواء، وتباينت الطرق والمسالك، وتحيزت الطوائف، وصار اسم التصوف مختصاً بعلوم المكاشفة والبحث (…) عن أسرار الملكوت والإبانة عن حقائق الوجود (…) ثم يفسرون المتشابه كالروح والملك، والوحي، والعرش، والكرسي، وأمثالها بما لا يتضح أو يكاده وربما يتضمن أقوالاً منكرة، ومذاهب مبتدعة (…) ويضربون بحجب التأويل على وجوهها السافرة وحقائقها الواضحة كقولهم في أدم وحواء إنها النفس والطبيعة، وقولهم في ذبح البقرة : إنها النفس (…) وأمثال ذلك، فتسكن قلوب كثير من أهل الضلال إلى ذلك استجلاء لتحصيل الغايات في البدايات واغتناما للزبدة الممخوضة خالصة من المتاعب، فإذا طالبهم الإنكار بتحقيق دعاويهم لجأوا إلى الوجدان الذي لا يتعدى دليله، ولا يتضح على الغير برهانه (…) وإذا كانت كلماتهم وتفاسيرهم لا تفارق الإبهام والاستغلاق، فما الفائدة فيها، فالرجوع إذن تصفح كلمات الشرع واقتباس معانيها من التفاسير المعتضدة بالأثر ولو كانت لا تخلص من الإبهام، أولى من إبهامهم الذي لا يستند إلى برهان عقل ولا قضية شرع والذي يجمع مذاهبهم على اختلافها وتشعب طرقها رأيان : الرأي الأول : رأي أصحاب التجلي، والمظاهر والأسماء، والحضرات، وهو رأي غريب فيلسوفي إشارةً، ومن أشهر المتمذهبين به ابن الفارض وابن برجان، وابن قوسي، والبوني والحاتمي ابن سودكين (…) أما الرأي الثاني : رأي أصحاب الوحدة وهو رأي أغرب من الأول في مفهومه وتعقله، ومن أشهر القائلين به ابن دهاق، وابن سبعين، والتستري وأصحابه…” ويختم ابن خلدون تقريره على هذا الصنف بما يلي : ” فإذا كان للشرع نهي عن الخوض في علوم المكاشفة، وهم لا ينتهون، فكيف يوثق بهم في أسرار الله،وتُتلقى منهم بحسن القبول ؟ هذا لو خلصت عبارتهم من الإبهام، فكيف وهي متلبسة ببدعة أو كفر، أعاذنا الله، فليس هذا الذي سموه تصوفاً بتصوف، ولا مشروع القصد، والله أعلم.”
نلاحظ في هذا النص الخلدوني بشكل جلي، إقراراً من لدن ابن خلدون بالفصل السني، الذي استبعد من دائرة انتمائه الإيديولوجي هذا الطرح الصوفي الذي يراه رموز هذا الاتجاه من بقايا الموروث الدخيل على الثقافة العربية الإسلامية.
كان النظام الصوفي السني، يعلن في كل مرة أنه منبثق من الشريعة، ويلتزم حدودها، ويسير على هدي أربابها الأولين، من الصحابة والتابعين وأئمة الدين، فهو في نهاية المطاف، محصلة وثمرة التمسك بالشريعة، وبالتالي، فإن كل معاني هذا النوع من التصوف تعود إلى أصولها وكلياتها ونصوصها الدينية المؤسسة.وداخل هذه المرجعية، نجد أمامنا القانون الثنائي الذي يحكم منطق الشريعة في ضبط الأفعال والتكليفات، وتصنيف الأفراد والجماعات، ثنائيات ينطلق منها الفكر الديني الإسلامي عموما في حركته في الواقع كثنائيات ؛ الحلال – الحرام، المؤمن – الكافر، التقي – الفاسق… إن هذه الثنائيات تكرس مفهوم الوحدة والانسجام على مستوى التصور والاعتقاد، كما على مستوى الفعل والتكليف، ويصبح التصوف حينئذ، شعوراً روحياً، يحدده الالتزام بضابط الشريعة ليس إلا.
تبدو الغيرية في هذا الاتجاه الصوفي المتشرعن كما يريده ابن خلدون، محصورة بين الإنسان المؤمن والمسلم والله، ولا شيء خارج ذلك إلا الضلال والتيه والتلبيس.
أما التصوف الغيري، فقد كان يمثل حالة قلقة في كامل مسيرته التاريخية وموضوع جدل، حول طروحاته ورموزه وأعلامه، فمع الحلاج وابن الفارض والسهروردي المقتول وابن العربي الحاتمي، وأخرون قد شكلوا اتجاها خاصاً حول مفهوم الحقيقة، الذي استند على التجربة الروحية بكل أبعادها الأنطولوجية، وقرأ في ضوء تجلياتها نص الشريعة، معتمداً على آلية التأويل الباطني، فالعالم سابق على النص، والوجود قبل الوحي.
إن الغيرية داخل هذا الاتجاه، تتحدد من الإنسان ؛ مطلق الإنسان والله، وداخل هذه الغيرية تنهار كل المعتقدات والذوغمائيات والسياجات المغلقة، وبهذا الصدد نورد نصاً من نصوص هذا التصوف الغيري، لصاحبه عبد الكريم الجيلي، في كتابه الإنسان الكامل إذ يقول (21) : “اعلم أن الله خلق جميع الموجودات لعبادته، فهم مجبولون على ذلك، مفطورون عليه من حيث الأصالة، فما في الوجود شيء إلا وهو يعبد الله تعالى بحاله ومقاله وفعاله… قال تعالى : وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون أية 66 سورة الذريات.
ثم شهد لهم النبي أنهم يعبدونه بقوله : كّل ميسر لما خلق له لأن الجن والإنس مخلوقون لعبادته وهم ميسرون لما خلقوا له (…) ولكن تختلف العبادات لاختلاف مقتضيات الأسماء والصفات، لأن الله متجلّ باسمه الهادي…” إلى أن يقول وهو بصدد تعداد اختلاف الأديان” ومدار الجميع على هذه العشرة الملل وهم الكفار والطبائعية والفلاسفة، والثانوية، والمجوس، والبراهمة، والمجوس، والبراهمية، والدهرية واليهود، والنصارى، والمسلمون… فكل هذه الطوائف عابدون لله تعالى كما ينبغي أن يعبد، لأنه خلقهم لنفسه لا لهم، فهم له كما يستحق ثم إنه سبحانه وتعالى أظهر في هذه الملل حقائق أسمائه وصفاته فتتجلى في جميعها بذاته فعبدته جميع الطوائف”.
وفي الأخير،فإن قراءتنا لمفهوم الغيرية، داخل المنظومة الصوفية الإسلامية، تبقى رهينة إشكالية مقروئية التراث الإسلامي عموماً، أي إلى مدى يستطيع براديكم العلوم الإنسانية استثمار هذا التراث في الذاكرة والخطاب، وقراءة نصوصه العالمة، بشكل يحفظ لها هويتها ويوسع من دائرة انفتاحها وعطائها ورهنيتها.
إن أزمة الغيرية في موروثنا الصوفي الإسلامي، تكمن في طبيعة العلاقة بين ثنائية : الشريعة – الحقيقة، والتخوم الموجودة بينها، بما أن الحقيقة هي باطن الشريعة، فقد كانت مقروئية هذه الأخيرة على قاعدة مقولة النداء يا أيها الكافرون، التي كان لها تموضع خاص في السياق والمقصد، وتم غياب مقولات النداء الأخرى، الأكثر أصالة و حضور، “يا أيها الناس”، “يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء”.
___________
الهوامش :
1 – .Lalaoui A., La métaphysique dans l’Islam, ou la convergence spirituelle. p. 76
2 – .Denis Gril : Les débuts du soufisme. in les voies d’Allah. p. 27-28
3 – .Mohamed Kerrou : Le Temps Maraboutique, in Ibla. 1991, T. 54, n° 167, p 63
4 – هشام جعيط : أوروبا والإسلام صدام الثقافة والحداثة دار الطليعة. بيروت ط1 1995. ص 84.
5 – .Gilles Veinstein : Un Islam sillonné de voies. In Les voies d’Allah. p 10
6 – .Boudon F. Bourricoud : Dictionnaire Critique de la Sociologie. PUF 4e édition, 94. p. 585
7 – .Jacqueline Chabbi : Le Soufisme. in Encyclopedia Universalis. V 21. p. 358
8 – السهر وردي : العوارف المعارف، ملحق الإحياء لعلوم الدين دار المعرفة بيروت لبنان 1404 هـ. ص 63.
9 – ابن خلدون : المقدمة دار الجيل بيروت. ص 514.
10 – M. Mokri : La Mystique Musulmane., in encyclopédie des Mystiques II, Marie Madeleine, DAXY. Editions Payot et rivage 1996. p. 455
11 – .Op. cit., p. 452
12 – مقدمة ديوان الشيخ أبي مدين شعيب. جمعه العربي بن مصطفى الشوار، مطبعة الترقي دمشق 1938 ط 1. ص 2.
13 – محمد أركون : الفكر الإسلامي، نقد واجتهاد، دار الساقي ط 1، 1992. ص 157.
14 – لطيفة الأخضر : الإسلام الطرقي، دراسة في موقعه من المجتمع ومن القضية الوطنية. دار مراس للنشر 1993. ص 17.
15 – ابن خلدون : المصدر السابق ص 514.
16 – .Martin Lings : Qu’est ce que le soufisme. Editions des seuils 1981. p. 48
17 – .Lalaoui A., Zaouia et confrérie : histoire et impact sur la société algérienne. p. 6
18 – مصطفى عبد الرزاق باشا : دائرة المعارف الإسلامية، ج 5، مادة التصوف. ص 281.
19 – .Giovani Busino : Elites et Elitisme. Editions Casbah 1998. p. 4
20 – ابن خلدون : شفاء السائل وتهذيب المسائل، تحقيق د محمد مطيع الحافظ، دار الفكر، ط 1، 1996، ص 106-121.
21 – عبد الكريم بن ابراهيم الجيلي : الإنسان الكامل في معرفة الأواخر والأوائل، حقق نصوصه وعلق عليه، أبو عبد الرحمان صلاح بن محمد بن عويضة، منشورات محمد علي بيضون، دار الكتب العلمية، بيروت 1997، ص 255.
المصدر : موقع حوليات التراث.
http://annales.univ-mosta.dz/texte/ap04/06ghersallah.htm