بسم الله الرحمن الرحيم
حسام ابو الشرف
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين وآل كل وصحب كل أجمعين أما بعد …
الحمد لله القائل في كتابه: (لقد جاءكم رسولٌ من أنفسكم عزيزٌ عليه ما عنتم حريصٌ عليكم بالمؤمنين رؤوفٌ رحيم) .
من هو النبي محمد ﷺ؟
هو النبي العربي الأمي الهاشمي القرشي، من أنبل قبائل العرب، ومن أشرف أنسابهم، المعروف قبل نبوته ورسالته عند العام والخاص من الناس باسم الصادق الأمين، وهذا ما قاله عنه ألد أعدائه ألا وهو أبو الحكم بن هشام (الذي كناه النبي بأبي جهل): قال أبو جهل: والله إني لأعلم إنه لصادق! فقال له صاحبه الوليد بن المغيرة مه! وما دلك على ذلك!؟ قال: يا أبا عبد شمس، كنا نسميه في صباه الصادق الأمين؛ فلما تم عقله وكمل رشده، نسميه الكذاب الخائن!! والله إني لأعلم إنه لصادق! قال: فما يمنعك أن تصدقه وتؤمن به؟ قال: تتحدث عني بنات قريش أني قد اتبعت يتيم أبي طالب من أجل كسرة، واللات والعزى إن اتبعته أبداً، (أي لن أتبعه أبداً) .
بعث هذا النبي الكريم إلى قومٍ أشبهوا بأفعالهم أفعال الهمج والوحوش البرية، كدفن البنت وهي حية لأن العرب في الجاهلية كانوا يعدون البنت عار.
وكانوا يعبدون أصناماً صماء، فهذا الذي كان يصنع الصنم بيده من حجر وهذا الذي كان يصنعه من تمر فإذا جاع أكله، وغير ذلك من الأعمال المنافية لأصحاب العقول السليمة.
فغير نبينا محمد ﷺ مجراهم إلى توحيد الله الذي أشركوا معه آلهةً أخرى،وإلى وصل الأرحام التي قطعوها، وإلى إكرام المرأة حيث كانت مضطهدة مظلومة من كافة النواحي .
فجاءت الرسالة لتغير مجرى التاريخ فتحول الصحابة الكرام إلى رجال، سادوا الأمم حينها بالتقدم الديني و العلمي والاجتماعي والفكري والصناعي والأخلاقي في فترة وجيزة وبتقدم غير طبيعي ممدود بمدد من حضرة الله عز وجل.
ولم يكن رسول اللهﷺ فظاً ولا غليظاً ولا صخاباً في الأسواق، وكان أجمل الناس خلْقاً وخُلُقاً، روى أحمد في مسنده عن أنس بن مالك قال: “كان رسول الله ﷺ أشجع الناس وأحسن الناس وأجود الناس”، وروى البخاري عن عطاء بن يسار لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص قلت: أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة.
فقال: أجل، والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن: (يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً، وحرزاً للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، ليس بفظٍّ ولا غليظٍ ولا صخَّابٍ في الأسواق، ولا يدفع بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويغفر، ولن يقبضه الله تعالى حتى يقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا لا إله إلا الله، ويفتح بها أعينا عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلقاً).
وأخرج البخاري في الأدب المفرد والنسائي وابن المنذر والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن يزيد بن بابنوس قال: قلنا لعائشة، كيف كان خلق رسول الله ﷺ ؟ قال: كان خلقه القرآن. ثم قالت: تقرأ سورة المؤمنون (قد أفلح المؤمنون) فقرأ حتى بلغ العشر فقالت: هكذا كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم”.
وكان من كرم سيدنا محمد ﷺنه يعطي عطاء من لا يخشى الفقر فعن أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ قال: ما سُئل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم على الإسلام شيئاً إلا أعطاه، ولقد جاءه رجل فأعطاه غنماً بين جبلين، فرجع إلى قومه فقال: يا قوم أسلموا فإن محمداً يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، وإن كان الرجل ليُسْلِمُ ما يريد إلا الدنيا فما يلبث إلا يسيراً حتى يكون الإسلام أحب إليه من الدنيا وما عليها. رَوَاهُ مُسلِمٌ.
هذا غيض من فيض من الأخبار التي وردت عن الصحابة رضوان الله عليهم.
أما عن مكانته في القرآن: فقد مدحه الله عز وجل بقوله: (وإنك لعلى خلقٍ عظيم) فما قال له إنك في خلقٍ عظيم بل انظر إلى قوله: (لعلى) فإنها تفيد الفوقية والعلو وسمو الأخلاق، وما نادى الله حبيبه محمداً صلى الله عليه وسلم باسمه قط، فلا تجد في القرآن الكريم إلا (يا أيها النبي) و (يا أيها الرسول) ولا تجد أن الله عز وجل ناداه ((يا محمد))، فقد نادى تعالى يا موسى، يا عيسى، يا نوح …إلخ مما يرجع إلى مكانة هذا النبي العظيم عند الله.
ويصفه الله عز وجل بأنه الرحمة المطلقة فقال: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) .
وأعلى الله ذكر نبيه فقال : (ورفعنا لك ذكرك) .
وأخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بأنه مجبور حتى إن الله سوف يعطيه حتى يرضى فقال: (ولسوف يعطيك ربك فترضى) ولن يرضى الحبيب وأحدٌ من أمته في النار كما جاء في الحديث.
والمرء كلما سمت رتبته كلما ازداد تواضعاً وخلقاً مع خلق الله فكم سمح النبي عن أناسٍ آذوه إيذاء شديداً فقد روى الإمام أحمد عن جابر بن عبد اللّه قال: قاتل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم محارب خصفة، فجاء رجل منهم يقال له (غورث بن الحارث) حتى قام على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالسيف فقال: من يمنعك مني؟ قال: “الله” فسقط السيف من يده فأخذه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال: “ومن يمنعك مني” قال: كن خير آخذ قال: “أتشهد أن لا إله إلا اللّه وأني رسول اللّه”؟ قال: لا، وكن أعاهدك أن لا أقاتلك ولا أكون مع قوم يقاتلونك فخلى سبيله، فقال: جئتكم من عند خير الناس…إلخ”.
ولقد كان النبي عليه الصلاة والسلام رغم أنه كان زعيم دولة فقد كان أشد حياءً من العذراء في خدرها كما جاء في بعض الأحاديث.
– ما المنهج الذي سار عليه النبي صلى الله عليه وسلم؟
إن النبي صلى الله عليه وسلم كان المربي والمرشد الروحي للصحابة، فكان هو الشيخ وكان هو الرئيس وكان مهبط الوحي الإلهي فكان يتصرف مع الصحابة كلٌٌّ حسب نفسيته، وحسب طاقته، وحسب ما يفهم عنه.
وبعد ترسيخ العقيدة الصحيحة في قلوب أصحابه وربط القلوب بالله جاء وقت التحرك لنصرة الدين، فبنيت الدولة الإسلامية في المدينة المنورة وكان المسجد النبوي أول مركزٍ بني للدعوة إلى الله وتربية الرجال وجيل الشباب المؤمن، حيث إن النبي اعتمد في دعوته على الشباب، وإذا تصفحنا أعمار الصحابة الذين ناصروا النبي وجدناهم شباباً، وكان الشيوخ قلائل.
فجاء العقل الذي يوحى إليه فقسم الصحابة أقسام حسب الاختصاصات
1-قسم للدعوة كما قال تعالى: (وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقةٍ منهم طائفة ليتفقوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون) .
2- قسم متخصص بالقرآن الكريم فقد ورد عن النبي عليه الصلاة والسلام قوله: “أقرؤكم أُبَيّ” أي أبي بن كعب. و عن عمر -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-: “من أحب أن يقرأ القرآن غضَّاً كما أُنزل، فليقرأه على قراءة ابن أم عبد” أي فليأخذ قراءته من عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
3- قسم متخصص بالغزوات والفتوحات فعن أبي العباس سهل بن سعد الساعدي رَضِيِ اللَّهُ عَنْهُ أن رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم قال يوم خيبر: “لأعطين هذه الراية غداً رجلاً يفتح اللَّه على يديه، يحب اللَّه ورسوله ويحبه اللَّه ورسوله” فبات الناس يدوكون [أي يتحدثون ويخوضون] ليلتهم أيهم يعطاها، فلما أصبح الناس غدوا على رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم كلهم يرجو أن يعطاها. فقال: “أين علي بن أبي طالب؟” فقيل: يا رَسُول اللَّهِ هو يشتكي عينيه، قال: “فأرسلوا إليه” فأتي به فبصق رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم في عينيه ودعا له فبرأ حتى كأن لم يكن به وجع فأعطاه الراية. ..” مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وكسيدنا خالد بن الوليد حيث سماه النبي عليه الصلاة والسلام بسيف الله المسلول.
4- قسم متخصص في القضاء فقد كان سيدنا علي كرم الله وجهه أيضاً أقضى الصحابة فقد روى البغوي في المرفوع عن أنس عن النبي عليه الصلاة والسلام: “أقضى أمتي علي”.
5- قسم متخصص بعلم الفرائض كسيدنا زيد بن ثابت، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: “أفرضكم زيد بن ثابت” رواه أصحاب السنن وغيرهم.
6- قسم متخصص بعلم الفقه وعلم الحلال والحرام كسيدنا معاذ بن جبل رضي الله عنهم، حيث قال عنه المصطفى عليه الصلاة والسلام: أفقهكم معاذ” وورد أيضاً: “أعلمكم بالحلال والحرام معاذ” .
7- قسم متخصص بعلم التفسير كسيدنا ابن عباس رضي الله عنه: حيث دعا له النبي: “اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل” أي علمه معاني كتابك.
8- قسم متخصص بالأمانة والسر والحفظ، روى البخاري عن حذيفة رضي اللّه عنه قال: جاء العاقب والسيد صاحبا نجران إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يريدان أن يلاعناه، قال: فقال أحدهما لصاحبه: لا تفعل فو اللّه لئن كان نبياً فلاعنَّاه لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا، قالا: إنا نعطيك ما سألتنا وابعث معنا رجلاً أميناً ولا تبعث معنا إلا أميناً، فقال: “لأبعثن معكم رجلاً أميناً، حق أمين”، فاستشرف لها أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال: “قم يا أبا عبيدة بن الجراح” فلما قام قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : “هذا أمين هذه الأمة”.
9- قسم متخصص لأمانة سر الرسول صلى الله عليه وسلم، قال خيثمة بن أبي سبرة رضي الله عنه في حديث نذكر منه: “وحُذَيْفَةُ صَاحِبُ سِرّ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم” ومن المتعارف عليه عند جميع الصحابة أن سيدنا حذيفة هو صاحب رسول الله بلا امتراء.
10- قسم متخصص بالأسرار النبوية والله أعلم بها عن أبي هريرة قال: “حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءين: فأما أحدهما فبثثته، وأما الآخر فلو بثثته قطع هذا البلعوم” .
هذا ما ذكرنا كله بعض ما فعله النبي في بناء الدولة الإسلامية وتنشئة الجيل الجديد على أساسٍ رباني صحيح.
وبعد ما ذكر من كل هذا نلاحظ أن علوم الفقه والنحو والتفسير و علم الفرائض والأقضية ومناهج الدعوة، وعلم الأصول والقراءات والعقيدة وغيرها كانت موجودة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنها لم تكن مسماة بأسماء .
فبعد انتقال النبي صلى الله عليه وسلم للرفيق الأعلى ومجيء عهد الخلفاء الراشدين، ثم مجيء العهد الأموي ثم العباسي ظهرت هذه العلوم متجسدة معلنة بأسمائها حرصاً على حفظها وعدم ضياعها فظهر الآتي
1- علم العقيدة (التوحيد): ترأّس هذا العلم الإمامان: أبو الحسن الأشعري وأبو منصور الماتريدي.
2- علم الفقه: اختص به الإمام الأعظم أبو حنيفة النعمان، والإمام أحمد بن حنبل، والإمام مالك بن أنس، والإمام الشافعي، مع ملاحظة: أنه كان يوجد قبلهم مذهب أبي ثور والأوزاعي وربيعة الرأي وسفيان بن عيينة وغيرهم ، ولكن بقي مذهب الأئمة الأربعة هو السائد بعد عصرهم .
3- علم النحو: رئيسه أبو الأسود الدؤلي (أول من قام بتنقيط الأحرف العربية).
4- علم التفسير: فقد ظهرت تفاسير عديدة وكثيرة لا مجال لعدها، ولكن نذكر البعض منها: القرطبي، ابن كثير، الدر المنثور، الطبري، الرازي، الجلالين، وتفسير مجاهد، وتفسير مقاتل، والكلبي وغيرهم، ولم يكن يترأس هذا العلم قلة بل هم كثرة، لكثرة الآراء والأقوال في التفسير.
5- علم القراءات: فلقد ظهر من تلقى روايات القرآن الكريم رواية عاصم، ورواية الكسائي، ورواية حمزة، وابن كثير، وابن عامر، ونافع وغيرها، كلها متلقاة شفوياً بالتواتر بالسند المتصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
6- علم الحديث ومصطلحه: حيث تصدر لهذا العلم أئمة أعلام كالإمام البخاري ومسلم وأبو داوود والترمذي وابن ماجه والدارمي والنسائي وأحمد بن حنبل وغيرهم فنقحوا الأحاديث الصحيحة من الحسنة من الضعيفة من الموضوعة فكانوا حماة كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته المطهرة.
7- علم التصوف والتزكية: ومنه سندخل مدخلنا لبيان حقيقة التصوف إن شاء الله تعالى.
فما عرف في عهد الصحابة شيء اسمه علم التصوف الإسلامي، كما أنه لم يكن شيء اسمه علم العقيدة وعلم الفقه والتفسير والنحو …إلخ، ولكنه كان مضموناً متجسداً في الصحابة، تعارف عليه السلف الصالح ومنهم الإمام الحسن البصري فقد قال رحمه الله المتوفى في 110 هـ : ( رأيت صوفياً في الطواف فأعطيته شيئاً فلم يأخذه وقال : معي أربعة دوانق فيكفيني ما معي ) .
وجاء في كتاب أخبار مكة : أن قبل الإسلام قد خلت مكة في وقت من الأوقات حتى كان لا يطوف بالبيت أحد، وكان يجيء من بلد بعيد رجل صوفي فيطوف بالبيت وينصرف، وعليه فإن هذا الاسم كان يطلق على أهل الفضل والصلاح حتى قبل الإسلام ) أهـ بتصرف من كتاب الحجة للشيخ أحمد القطعاني حفظه الله – ص 151 : 155.
وبعد التفاف الناس حول أئمة الفقه والعقيدة والحديث واشتغال الناس بالعلوم والفنون الظاهرية، خشي علماء مخلصون على ضياع روح الإسلام ولبه، فتصدروا للإرشاد وتربية الخلق على صفاء القلوب وتدريب النفس على مجاهدة هواها وتحليتها بالورع والخشية وتطهيرها من الرذائل والأمراض الباطنية فأمراض القلب أشد وقعاً على الإنسان من مرض الجسد، لأن صاحبه يعاني الشقاء في الدنيا (بالضنك والعذاب النفسي والاجتماعي) وفي الآخرة (في عذاب النار)، أما أهل المرض الجسدي فيعاني من جسده في الدنيا فقط، وقد أثبت الله عز وجل ذلك في القرآن الكريم بقوله عن المنافقين: (في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضاً) .
فتصدر لذلك العلم (علم التزكية والباطن) الإمام الجنيد سيد الطائفتين، والإمام الغوث الكبير عبد القادر الجيلاني ، والعارف الكبير أحمد الرفاعي وشعيب أبو مدين الغوث وغيرهم قدس الله أرواحهم ورضي الله عنهم أجمعين، مع العلم أن أول من نطق بهذا العلم الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وعنه أخذ سيدنا الحسن البصري (التابعي)، وعنه أخذ حبيب العجمي، وعنه أخذ داوُد الطائي، وعنه أخذ جعفر الصادق إلى أبي يزيد البسطامي … وهكذا سلسلة لا تنتهي إلا بانتهاء عمر الدنيا بدليل الحديث عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم “لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقّ، لاَ يَضُرّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ،حَتّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللّهِ وَهُمْ كَذَلِكَ” ، وبالجمع مع حديث أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: “لاَ تَقُومُ السّاعَةُ عَلَى أَحَدٍ يَقُولُ: الله، الله” فهذان حديثان مترابطان يدلان على أن الباقية الصالحة في هذه الدنيا هي لهذه الطائفة الصوفية. وإذا جلت الدنيا وطفت في ربوعها فلن تجد أحداً ذكره [الله الله الله] إلا في طائفة الصوفية، فدل والله أعلم أن الباقون إلى قيام الساعة هم هذه الطائفة التي اتخذت الأركان الثلاثة للدين
1- الإسلام: وهو حفظ الشرائع والعبادات [الفقه، أو الشريعة].
2- الإيمان: وهو حفظ العقائد والإيمانيات [العقيدة، أو الطريقة].
3- الإحسان [التصوف أو التزكية]: وهو أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك، ومن فقد هذا الركن فدينه ناقص لا يتم لأنه لم يحقق الركن الثالث. ويأتي نتيجة وثمرة للركنين السابقين، وثمرة للمجاهدات والفرائض والنوافل وكف النفس عن المعاصي والشهوات حتى تترقى من أمارة بالسوء إلى لوامة إلى ملهمة إلى راضية إلى مرضية إلى مطمئنة إلى كاملة.
وهذه الأركان وردت في حديث جبريل الطويل في صحيح البخاري ومسلم .
الإسناد من الدين ولولا الإسناد لقال من قال ما قال
وما تصدروا هؤلاء للمشيخة وإرشاد الناس إلا بسند متصل إلى رسول الله بإجازة من شيوخهم وشيوخهم أخذوا من شيوخهم هكذا بسند متصل إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وهذه إجازة بأن هذا السالك إلى الله عن طريق ذلك الشيخ المرشد الكامل الوارث المحمدي قد أصبح أهلاً لإرشاد الناس وتلقينهم الأذكار والسلوك بهم إلى الوصول إلى معرفة الله فيصير عنده عين اليقين بعد أن كان له علم اليقين، فيصير صاحبها عارفاً بالله، فيحبه الله ويوضع له القبول عند الخلق فكل من يراه يحبه، ويصير ينطق بالله ويسمع بالله ويبطش بالله ويبصر بالله، فيكون منصوراً في أعضائه، ومنصوراً في حركاته وسكناته، وهذا كله نطق به سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام، راوياً عن ربه كما جاء في البخاري برواية أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي عن رب العزة تبارك وتعالى: “من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، وإن استعاذني لأعيذنه”.
ولن تجد شيخ طريقةٍ صوفيةٍ إلا وله سند متصل عبر شيوخه، إلى شيوخهم، إلى شيوخهم، إلى النبي عليه الصلاة والسلام، كما هو حال الأحاديث متصلة السند.
والصوفية قد مدحت في وقتها حتى أتى من لم يذق مذاقهم ولم يشرب مشربهم فأصبح ينكر عليهم، وإذا وجدنا من الأئمة الكبار من ينكر عليهم فإنما ينكر على الصوفية الجهلة الدخلاء عليهم، ومن العجب أن ترى أحد المنكرين على التصوف، يثني على أئمتهم فقد تحدث أحمد بن تيمية رحمه الله تعالى عن تمسك الصوفية بالكتاب والسنة في الجزء العاشر من مجموع فتاويه فقال: (فأما المستقيمون من السالكين كجمهور مشايخ السلف مثل الفضيل بن عياض، وإبراهيم بن أدهم، وأبي سليمان الداراني، ومعروف الكرخي، والسري السقطي، والجنيد بن محمد، وغيرهم من المتقدمين، ومثل الشيخ عبد القادر [الجيلاني] والشيخ حماد، والشيخ أبي البيان، وغيرهم من المتأخرين، فهم لا يسوغون للسالك ولو طار في الهواء، أو مشى على الماء، أن يخرج عن الأمر والنهي الشرعيين، بل عليه أن يعمل المأمور ويدع المحظور إِلى أن يموت. وهذا هو الحق الذي دل عليه الكتاب والسنة وإِجماع السلف، وهذا كثير في كلامهم) [مجموع فتاوى أحمد بن تيمية ج10. ص516ـ517].
وهذا ابن الحاج المالكي الذي أنكر على بعض أفعال الصوفية قال في الجزء الثاني من مدخله: (اعلم أن طريق القوم نظيفة وكل شيءٍِ يدنس النظيف).
ولا يخفى عليك يا أخي القارئ أن علم التفسير دخله دخلاء ليسوا من أهله فوضعوا فيه الإسرائيليات والأكاذيب والافتراءات والتشويه حتى كانت مدخلاً للمستشرقين في الطعن بدين الإسلام.
وكذلك علم الحديث دخله الوضاعون فوضعوا أحاديث من عندهم دخيلة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بريء من هذا الكلام .
وكذلك دخل على علم العقيدة دخلاء ليسوا من أهله كالمجسمة والمشبهة والقدرية والكرامية والخوارج وغيرهم من الفرق الضالة المضلة .
وكذلك دخل على علم التاريخ دخلاء شوهوا معالمه، فيدعي أحدهم أن هارون الرشيد مثلاً كان يعقد مجالساً للجواري والنساء ويصورونه صورة الفاحش شارب الخمر في الليالي الحمراء مع الجواري والقينات، وينكرون صلاحه، وأنه كان يصلي كل ليلةٍ في قيام الليل مائة ركعة.
فالجاهل كل الجهل من يزعم أن هذا العلم دخله دخلاء فأصبح كله لا يصلح لأن يقتنى، فيبتعد عن الصوفية كلها، وينكر أن يكون فيها الصادق والكاذب كما نوهنا عليه.
ولنشرع الآن بحول الله وقوته ما قصدناه من كل هذا المقال:
بعد أن عرضنا لمحةً من الإصلاح الذي قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم والأعمدة التي ارتكز عليها في ذلك، نجد كل هذه الأمور قد اقتفاها السادة الصوفية، تأسياً برسول الله عليه أفضل الصلاة والسلام.
ففكرة الزوايا والتكيات هي مثل البناء الذي بناه النبي ألا وهو المسجد النبوي، فلا بد للمريض من مستشفى [مِصَحّ] يستشفى فيها.
فهذه الزوايا هي مركز الذاكرين ومركز الدعاة ومركز تعلم العلم النافع وتطبيب القلوب من قبل الطبيب المرشد الكامل الوارث المحمدي.
ولعلك ستتساءل من أين لك هذه الكلمة (الوارث المحمدي) ؟ فسيجيبك عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: “العلماء ورثة الأنبياء” ، ولا تظن أن كل عالم يصلح لذلك فقد قال تعالى: (إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ) فالعلم ما قارنته الخشية والتقوى.
وبعد هذه الزوايا الذي أنشأها الصالحون جعلوا لهم طرق عرفت باسمهم، وهذا الكلام رد على من يقول: أن الطرق الصوفية متعددة وطريق الحق واحد.
فنقول له: إن طريق الحق واحد، وهذه الطرق تعد طرقاً في كيفية التربية والسلوك، فهي سائرة إلى الله في طريق واحد والكيفية متنوعة، فالقادرية مثلاً والشاذلية والرفاعية والنقشبندية والتيجانية وغيرها ليست إلا أسماء لمدارس مؤسسيها كالرفاعي والجيلاني والشاذلي والتيجاني والدسوقي وغيرهم الأئمة رضي الله عنهم، وكلٌّ له مقصد واحد ألا وهو الوصول إلى الله بالوصول إلى معرفته، فهذه الطرق كالخطوط بالنسبة إلى مركز قطب الدائرة فتفكَّر.
وقد خرَّجت هذه الزوايا رجالاً أولياء صالحين فكان منهم الدعاة والمجاهدون والعلماء والمحدثون و…. كان لها أثرها في تنشئة الأجيال الصالحة. ولنذكر نبذة يسيرة منهم بحول الله وقدرته.
الصوفية العلماء
في الحقيقة أن جل شيوخ الصوفية كانوا وما زالوا من أهل العلم، فلا يكتفون بعلم القلوب بل لابد من علم الشريعة المسمى بالعلم الظاهر، فلا باطن من دون ظاهر، فعلم من دون تزكية [تصوف] تَفَسُّقٌ (لأن العلم النافع هو ما قارنه الخشية والورع وإلا فهو حجة على صاحبه).
وتصوف من دون علمٍ تزندقٌ (لأنه يعبد الله على جهل).
والجمع بينهما [التصوف والعلم] تحقُّقٌ (وهو المنهج الصحيح الموصل إلى الله). هذا معنى ما قاله الإمام مالك رحمه الله الذي لزم ابن هرمز ((كما في المدارك)) ثلاثة عشر سنة، ويروى ستة عشر سنة من الصباح إلى الزوال في علم قال الإمام مالك: لم أبثه لأحد من الناس.
ولا يظن ظانٌّ أن مثل هذا العلم الذي لم يتكلم به الإمام مالك رحمه الله أنه من علوم الفقه وما يحتاج إليه المسلمون، لا، بل تبين أن هذا العلم كان من المكتتم ومن جملة الأسرار التي لا تباح إلا لأهلها، وهو نظير ما ذكر عن أبي هريرة رضي الله عنه: “حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءين: فأما أحدهما فبثثته، وأما الآخر فلو بثثته قطع هذا البلعوم”
وعلى كثرة علماء الصوفية فسنختصر على العلماء المشهورين منهم:
أبو نعيم الأصبهاني المحدث الكبير، الشيخ عبد الوهاب الشعراني، الشيخ أبي عبد الرحمن السلمي المحدث الكبير، الإمام محمد الجزري المقرئ الذي اتصلت أسانيد القراء به، الإمام الشاطبي أيضاً مُتَّصَلُ أسانيد القراء، الإمام أبو زكريا الأنصاري، الإمام السبكي، الإمام السيوطي الذي قال عنه أهل الحديث: أنه لا ينزل رتبة عن أمير المؤمنين في الحديث [وهي أعلى رتبة يعطاها أهل الحديث]، الإمام أبو حنيفة، الإمام الشافعي، الإمام مالك، الإمام أحمد ، الإمام الجنيد سيد الطائفتين، الإمام النووي، سلطان العلماء في وقته العز بن عبد السلام، الإمام ابن الصلاح، الإمام ابن دقيق العيد، الإمام المناوي، الإمام الغزالي، الأقطاب محي الدين بن عربي الحاتمي و عبد القادر الجيلاني و أبي الحسن الشاذلي و أحمد الرفاعي و أحمد البدوي رضي الله عنهم أجمعين ، ابن عطاء السكندري، أبي الفتح الواسطي، إمام أهل جماعة الدعوة والتبليغ الصوفي محمد إلياس، الشيخ ابن القيم الجوزية، بشر الحافي، إبراهيم بن أدهم، ابن الفارض، القاضي عياض، الإمام زروق، الإمام ابن الحاجب، صاحب السنن الإمام الترمذي، المحدث الأكبر بدر الدين الحسني محدث الديار الشامية، الإمام عبد الله سراج الدين (الحلبي)، الإمام المحدث محمد بن الصديق الغماري محدث المغرب، الإمام السنوسي صوفي ليبيا. وغيرهم الكثير، فهذه نبذة يسيرة منهم وأردنا الاختصار.
لمحة عن بعض الدعاة الصوفية
-قال الأستاذ صبري عابدين في حديثه في ندوةِ لواء الإِسلام في موضوع الصوفية وعلاقتها بالدين: (شهدْتُ بنفسي كيف حال الصوفية في السودان وأريتريا والحبشة والصومال. إِن السلطة الصوفية للسيد الميرغني لها اعتبارها، وبصورة خاصة ولاية القاضي في أريتريا لا توليها الحكومة، إِنما هو يولي القاضي والخطيب والمؤذن، وله حق الولاية الدينية بصفته رئيس الطريقة الصوفية.
والواقع أن الصوفية ينشرون الإِسلام في العالم، وأذكر لكم أنه منذ خمسين عاماً، كتب الشيخ البكري كتاباً ذكر فيه نقلاً عن المبشرين يقول: إِن هؤلاء يقولون: ما ذهبنا إِلى أقاصي المناطق البعيدة عن الحضارة والمدنية في أفريقيا وأقاصي آسيا إِلا وجدنا الصوفيَّ يسبقنا إِليها، وينتصر علينا.
ليتَ المسلمين يفهمون ما في الصوفية من قوة روحية ومادية، فجنودهم مجندون للإِسلام. رأيتُ على حدود الحبشة والسودان وأريتريا بعثة سويدية للتبشير، ووجدْتُ إِلى جانبهم أكواخاً أقامها الصوفيون، وأفسدوا على المبشرين السويديّين إِقامتهم أربعين سنة. ولذلك أرجو أن نتعاون لإِخماد هذه الحركات التي تؤذينا، دينياً وسياسياً، وإِن الذين يحملون على الصوفية ليسوا فوق مستوى الشبهات، بل هم غارقون في الشبهات.. إِلى أن قال: أكبرُ المصائب التي أصابت المسلمين أنهم لم يأخذوا بالإِسلام كله، أما الصوفية فقد ألزموا أنفسهم أن يأخذوا بالإِسلام كله، بل زادوا عليه. إِنهم ألزموا أنفسهم ألاَّ يأخذوا بالرخص بل بالعزائم، مع أن الله يحب أن تؤتى رخصه كما تؤتى عزائمه. لماذا ؟ لأن مذهبهم يقوم على الزهد بالمعنى الذي يفهمه العلم، وأزيد على ذلك أن أساس الزهد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم زاهداً في هذه الحياة ولذائذها. عاش الرسول صلى الله عليه وسلم وانتقل إِلى الرفيق الأعلى ولم يأكل رغيفاً مرقَّقَاً، ولا أكل على خوان.
فرسول الله صلى الله عليه وسلم هو المثل الأعلى للخلفاء الراشدين ولِمَنْ تبعه وللمسلمين كافة. والصوفية قد ألزموا أنفسهم، كما نصوا على ذلك في كتبهم، على أنْ لا يكون بينهم صوفياً إِلا من استمسك بالكتاب والسنة، ووضعوا لذلك أُصولاً في كتبهم: الرسالة القشيرية لأبي القاسم القشيري وإِحياء علوم الدين للغزالي، وكتاب حلية الأولياء لأبي نعيم الأصفهاني، وكتاب قواعد التصوف لأحمد زروق.
وإِنا نقول: إِن الذين يبحثون في بعض العلوم وينتقدونها، وينكرونها وهم لم يطلعوا عليها، مثلهم مثل رجل لا يفهم في الطب شيئاً فينكر الطب، وكالإِسكافي الذي ينكر الهندسة.
وفي مصر هنا، في الوقت الذي جاءت جيوش الصليبية إِلى دمياط، كان للصوفية أمثال أبي الحسن الشاذلي وعز الدين بن عبد السلام، وأبي الفتح ابن دقيق العيد، وآخرين من العلماء خدمة جليلة في مقاومة الصليبيين) [مجلة لواء الإِسلام -العدد العاشر ـ السنة التاسعة 1375هـ ـ 1956م ندوة لواء الإِسلام: الصوفية وعلاقتها بالدين ص645ـ647].
وجاء في كتاب حاضر العالم الإِسلامي للأمير شكيب أرسلان رحمه الله تعالى تحت عنوان: نهضة الإِسلام في أفريقيا وأسبابها: (وفي القرن الثامن عشر والتاسع عشر حصلت نهضة جديدة عند أتباع الطريقتين: القادرية والشاذلية، ووُجدت طريقتان، هما: التيجانية والسنوسية.
فالقادرية هم أحمسُ مبشري الدين الإِسلامي في غربي أفريقيا من السنغال إِلى بنين التي بقرب مصب النيجر، وهم ينشرون الإِسلام بطريقة سلمية بالتجارة والتعليم، وتجد التجار الذين من السونينكة والماندجولة المنتشرين على مدن النيجر وفي بلاد كارتا وماسينة، كلهم من مريدي الطريقة القادرية. ومِنْ مريديهم من يخدمون في مهنة الكتابة والتعليم، ويفتحون كتاتيب ليس في زوايا الطريقة فقط، بل في كل القرى، فيلقِّنون صغار الزنج الدين الإِسلامي أثناء التعليم، ويرسلون النجباء من تلاميذهم على نفقة الزوايا إِلى مدارس طرابلس والقيروان وجامع القرويين بفاس والجامع الأزهر بمصر، فيُخرَّجون من هناك طلبة مجازين، أي أساتذة، ويعودون إِلى تلك البلاد لأجل مقاومة التبشير المسيحي في السودان) [“حاضر العالم الإِسلامي” ج2. ص396].
وتحدث عن شيخ الطريقة القادرية فقال: (وكان عبد القادر الجيلاني الموجود في جيلان من فارس متصوفاً عظيماً زكي النشأة، وله أتباع لا يُحصى عددهم، ووصلت طريقته إِلى أسبانيا، فلما زالت دولة العرب من غرناطة انتقل مركز الطريقة القادرية إِلى فاس، وبواسطة أنوار هذه الطريقة زالت البدع من بين البربر، وتمسكوا بالسنة والجماعة، كما أن هذه الطريقة هي التي في القرن الخامس عشر، اهتدى على يدها زنوج غربي أفريقيا.
وتحدث عن السنوسية فقال: فالسنوسية نشروا طريقتهم في وادي والبافيرمي وبوركو، وتبعوا نهر بينوى إِلى أن بلغوا النيجر الأدنى حيث نجدهم يَهدون تلك القبائل إِلى الإِسلام. وبواسطة السنوسية صارت نواحي بحيرة تشاد هي مركز الإِسلام العام في أواسط أفريقيا، ويُقوَّم عدد مريدي الطريقة السنوسية بأربعة ملايين، وطريقة هؤلاء الجماعة في التبشير هي أن يشتروا الأرقاء صغاراً من السودان، ويربُّوهم في جغبوب وغذامس وغيرها، ثم متى بلغوا أشدَّهم وأكملوا تحصيل العلم أعتقوهم، وسرحوهم إِلى أطراف السودان، يَهدون أبناء جلدتهم الباقين على الفتيشية.
وهكذا يرحل كل سنة مئات من مبشري السنوسية لِبَثِّ دعاية الإِسلام في جميع أفريقيا الداخلية، من سواحل الصومال شرقاً، إِلى سواحل السينغامبية غرباً، ولقد حَذَا سيدي محمد المهدي وأخوه سيدي محمد الشريف حذو والدهما في السعي إِلى الغرض الذي توخاه، ألا وهو تخليص الإِسلام من النفوذ الأجنبي، وإِعادة الإِمامة العامة كما كانت في عصر الخلفاء. وبالإِجمال: فإِن مريدي هذه الطرق هم الذين سعوا في نشر الإِسلام، وَوُفِّقُوا إِليه في أفريقيا) [“حاضر العالم الإِسلامي” ج2. ص400].
وتحدث عن السنوسية أيضاً بقوله: (وأيُّ دليل أقطع من المبشرين [بدين الإسلام] السنوسين الحُمَّس الغُيَّر الذين خرَّجتهم زوايا الصحراء، وهم يُعدُّون بالألوف المؤلَّفةِ، وما انفكوا يجوبون كل بلاد وثنية مبشرين بالوحدانية داعين إِلى الإِسلام. وهذه الأعمال التي قام بها المبشرون المسلمون في غربي أفريقيا وأوسطها خلال القرن التاسع عشر إِلى اليوم لَعجيبةٌ من العجائب الكبرى، وقد اعترف عدد كبير من الغربيين بهذا الأمر، فقد قال أحد الإِنكليز في هذا الصدد منذ عشرين سنة: إِن الإِسلام ليفوز في أواسط أفريقيا فوزاً عظيماً، حيث الوثنية تختفي مِن أمامه اختفاء الظلام من فلق الصباح، وحيث الدعوة النصرانية كأنها خرافة من الخرافات..) [“حاضر العالم الإِسلامي” ج1. ص301].
وتحدَّثَ عن الطريقة الشاذلية فقال: (وأما الشاذلية فنسبتها إِلى أبي الحسن الشاذلي، أخذ عن عبد السلام بن مشيش، الذي أخذ عن أبي مدين وكانت ولادة أبي مدين في إِشبيلية سنة 1127 ميلادية، وقرأ في فاس، وحجَّ البيت الحرام، ثم استقر يعلم التصوف في بجاية، وتبعه خلقٌ كثير.. وهي من أوليات الطرق التي أدخلت التصوف في المغرب، ومركزها بوبريت في مراكش. وكان من أشياخها سيدي العربي الدرقاوي المتوفى سنة 1823م الذي أوجد عند مريديه حماسة دينية شديدة امتدت إِلى المغرب الأوسط، وكان للدرقاوية دور فعال في مقاومة الفتح الفرنسي) [“حاضر العالم الإِسلامي” ج1. ص301].
وختم الأمير شكيب أرسلان موضوعه عن نهضة الإِسلام في أفريقيا فقال: (وأكثر أسباب هذه النهضة الأخيرة راجعة إِلى التصوف والاعتقاد بالأولياء) [“حاضر العالم الإِسلامي” ج1. ص301].
يقول الشيخ أبو الحسن علي الحسني الندوي عضو المجمع العلمي العربي بدمشق ومعتمد ندوة العلماء بالهند في بحث الصوفية في الهند وتأثيرهم في المجتمع، من كتابه المسلمون في الهند: (إِن هؤلاء الصوفية كانوا يبايعون الناس على التوحيد والإِخلاص واتباع السنة، والتوبة عن المعاصي وطاعة الله ورسوله، ويحذِّرون من الفحشاء والمنكر والأخلاق السيئة والظلم والقسوة ويرغِّبونهم في التحلي بالأخلاق الحسنة، والتخلي عن الرذائل مثل الكبر والحسد والبغضاء والظلم وحب الجاه، وتزكية النفس وإِصلاحها، ويعلمونهم ذكر الله والنصح لعباده والقناعة والإِيثار، وعلاوة على هذه البيعة التي كانت رمز الصلة العميقة الخاصة بين الشيخ ومريديه إِنهم كانوا يعِظون الناس دائماً، ويحاولون أن يُلْهِبوا فيهم عاطفة الحب لله سبحانه، والحنين إِلى رضاه، ورغبة شديدة لإِصلاح النفس وتغيير الحال..
ثم تحدث عن مدى تأثير أخلاقهم وإِخلاصهم وتعليمهم وتربيتهم، ومجالسهم في المجتمع والحياة، وضرب بعض الأمثلة التي تُلقي الضوء على هذا الواقع التاريخي فتحدث عن الشيخ أحمد الشهيد رحمه الله تعالى فقال: إِن الناس أقبلوا عليه إِقبالاً منقطع النظير، وإِنه لم يمر ببلدة إِلا وتاب عليه، وبايعه عدد كبير من الناس، وإِنه أقام في كَلْكُتَّا شهرين، ويقدر أن الذين كانوا يدخلون في البيعة لا يقل عددهم عن ألف نسمة يومياً، وتستمر البيعة إِلى نصف الليل، وكان من شدة الزحام لا يتمكن من مبايعتهم واحداً واحداً فكان يمد سبعة أو ثمانية من العمائم، والناس يمسكونها ويتوبون ويعاهدون الله، وكان هذا دأبه كل يوم سبع عشرة أو ثماني عشرة مرة..
وتحدَّث عن شيخ الإِسلام علاء الدين رحمه الله تعالى فقال: إِن السنوات الأخيرة من عهده، تمتاز بأن كسدَتْ فيها سوقُ المنكرات من الخمر والغرام، والفسق والفجور، والميسر والفحشاء بجميع أنواعها، ولم تنطق الألسن بهذه الكلمات إِلا قليلاً، وأصبحت الكبائر تشبه الكفر في أعين الناس، وظلَّ الناس يستحيون من التعامل بالربا والادخار والاكتناز علناً، وندرتْ في السوق حوادثُ الكذب والتطفيف والغش.. ثم قال: إِن تربية هؤلاء الصوفية والمشايخ ومجالسهم كانت تنشىء في الإِنسان رغبة في إِفادة الناس وحرصاً على خدمتهم ومساعدتهم..
ثم بيَّن الأستاذ الندوي أنَّ تأثير هذه المواعظ، ودخول الناس في الدين، وانقيادهم للشرع أدى إِلى أن تعطلت تجارة الخمر في كَلْكُتَّا وهي كبرى مدن الهند ومركز الإِنجليز، وكسدت سوقُها، وأقْفرت الحانات، واعتذر الخمارون عن دفع الضرائب للحكومة، متعلِّلين بكساد السوق، وتعطلِ تجارة الخمر.. ثم قال: إِن هذه الحالة كانت نتيجة أخلاق هؤلاء المصلحين والدعاة والصوفية والمشايخ وروحانيتهم، أن اهتدى بهم في هذه البلاد الواسعة عدد هائل من الناس، وتابوا عن المعاصي والمنكرات واتباع الهوى. لم يكن بوسع حكومة أو مؤسسة أو قانون أن يؤثر في هذه المجموعة البشرية الضخمة ويحيطها بسياج من الأخلاق والمبادىء الشريفة لزمنٍ طويل..
وقال الأستاذ الندوي رحمه الله تعالى: لقد كانت هناك بجهود هؤلاء الصوفية أشجار كثيرة وارفة الظلال في مئات من بلاد الهند، استراحت في ظلها القوافل التائهة والمسافرون المُتْعَبون، ورجعوا بنشاط جديد وحياة جديدة) [المسلمون في الهند ص140ـ146 للعلامة الكبير أبي الحسن الندوي].
وتحدث الأستاذ أبو الحسن الندوي في كتابه رجال الفكر والدعوة في الإِسلام عن الصوفية وأثرها في نشر الإِسلام بصدد حديثه عن الصوفي الشهير والمرشد الكبير سيدي عبد القادر الجيلاني قدس الله روحه، فقال: (وكان يحضر مجلسه نحو من سبعين ألفاً، وأسلم على يديه أكثر من خمسة آلاف من اليهود والنصارى، وتاب على يديه من العيارين والمسالحة [المسالح: الجماعة أو القوم ذووا السلاح] أكثر من مائة ألف، وفتح باب البيعة والتوبة على مصراعيه، فدخل فيه خلق لا يحصيهم إِلا الله، وصلحت أحوالهم، وحسن إِسلامهم، وظلَّ الشيخ يربيهم ويحاسبهم، ويشرف عليهم وعلى تقدمهم. وأصبح هؤلاء التلاميذ الروحانيون يشعرون بالمسؤولية بعد البيعة والتوبة وتجديد الإِيمان، ثم يجيز الشيخ كثيراً منهم ممن يرى فيه النبوغ والاستقامة والمقدرة على التربية، فينتشرون في الآفاق يدعون الخلق إِلى الله، ويربون النفوس، ويحاربون الشرك والبدع والجاهلية والنفاق، فتنتشر الدعوة الدينية وتقوم ثكنات الإِيمان ومدارس الإِحسان، ومرابط الجهاد ومجامع الأخوة في أنحاء العالم الإِسلامي.
وقد كان لخلفائه وتلاميذه، ولمَنْ سار سيرتهم في الدعوة وتهذيب النفوس من أعلام الدعوة وأئمة التربية في القرون التي تلَتْه فضل كبير في المحافظة على روح الإِسلام وشعلة الإِيمان، وحماسة الدعوة والجهاد وقوة التمرد على الشهوات والسلطات. ولولاهم لابتلعت الماديةُ التي كانت تسير في رحاب الحكومات والمدنيات هذه الأمة، وانطفأتْ شرارة الحياة والحب في صدور أفرادها. وقد كان لهؤلاء فضل كبير لنشر الإِسلام في الأمصار البعيدة التي لم تغزها جيوش المسلمين، أو لم تستطع إِخضاعها للحكم الإِسلامي وانتشر بهم الإِسلام في أفريقيا السوداء وفي أندونيسيا وجزر المحيط الهندي وفي الصين وفي الهند) [رجال الفكر والدعوة في الإِسلام لأبي الحسن الندوي ص248ـ250].
هل كان للصوفية دور في الجهاد ضد الاحتلال
نعم، لقد كان لهم الباع الطويل والكبير وإذا تتبعنا سير الصوفية المجاهدين لضاق بنا المقام ولخرجنا عن الموضوع الذين نحن في صدده.
ويستغرب من يعلم أن المجاهد الكبير صلاح الدين الأيوبي كان صوفياً كبيراً طريقته قادرية، وكذلك الشيخ عبد القادر الجزائري كان صوفياً كبيراً مجاهداً.
وكان لتبني العمليات ضد الاحتلال في المغرب العربي الطرق الصوفية الرفاعية والشاذلية والقادرية والرحمانية وغيرها، وكان أيضاً للطريقة السنوسية في ليبيا بقيادة الشيخ عمر المختار أيضاً دور في ذلك، وللطريقة النقشبندية وغيرها في روسيا ودول البلقان، وللطريقتين الرفاعية والنقشبندية والقادرية والسعدية في سوريا، والشاذلية وغيرها في مصر، ومحمد المهدي الصوفي في السودان، والشيخ عز الدين القسام وغيره في فلسطين.
هذه نبذة يسيرة كما قلت .
وبعد ما ذكر من كل هذا نجد تفاعل الصوفية والتي هي لب الإسلام وعينه مع كل الأحداث السياسية والاجتماعية والاقتصادية والإصلاحية، والسبب في ذلك كله راجع إلى أن ديننا الإسلامي الكامل بمفهومه الثلاثي (الإسلام و الإيمان و الإحسان) صالح لكل زمان ومكان، ومهما حاولنا فصل التصوف عن الدين فسيبقى دين المرء ناقصاً لانفصال روح الدين عن جسده، ولا يخفى على عاقل أن الجسد من دون الروح لا شيء: لأنك بالروح لا بالجسد إنسانُ
ولا بد للعاقل المنصف أن يتوب إلى الله على يد شيخ عارف بالله صالح يأخذ بمجامع قلبه إلى الله، ولا يداهنه، ويعرِّفه نفسه وخبائثها وأنها أشد على الإنسان من سبعين شيطاناً.
وها هو المستشرق الفرنسي المسلم “إريك جيوفروي” (المختص في الصوفية بجامعة لوكسمبورج بشمال فرنسا) يعترف بأن المستقبل في العالم الإسلامي سيكون للتيار الصوفي. نعم ولكن هل هو لكل الصوفية أم لبعضهم دون بعض ؟
الجواب: سيكون حتماً أنه للبعض دون بعض، وهي الصوفية الحقة الخالية من الدسائس والجهل ، المبنية على أساس كتاب الله وسنة رسول الله وعلى ما مشى عليه الصالحون من هذه الأمة وهذا التبشير قد وقع من قبل أن يقول ذلك الفرنسي ما قاله، بشَّر به الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم فقال:
(ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون ، إن في هذا لبلاغاً لقومٍ عابدين)
وينطق رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلاً من حديث أنس (وقد مر):
“لاَ تَقُومُ السّاعَةُ عَلَى أَحَدٍ يَقُولُ: الله، الله”
وسبق بأن قلنا أنك لن تجد أحداً ذكره الله الله إلا في المتصوفين وإن شئت سمهم المحسنين ، وإن شئت سمهم أهل مقام الإحسان ، أو أصحاب الحقيقة، أو أصحاب الدين الكامل الجامع للمقامات الثلاث، أو الإسلام الكامل، فلا نختلف على المصطلحات إن عرف المعنى.
والحمد الله رب العالمين وصلى الله على سيد الأولين والآخرين سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.